صفحات المستقبلميسون شقير

حلب لا تذهبي لليل وحدك/ ميسون شقير

 

 

حلب لا تذهبي لليل وحدك، فالأغنيات التي كنت قد خبأتها كي تحمي ليلك من العتمة، استشهد فيها مقام النهوند وهو يردد موشحاتك الطويلة، النار يا حلب تحفظ الآن قدودك عن ظهر قلب الأطفال، تحفظها بعيونهم التي أغمضوها لأخر مرة، النار يا حلب، تعزف موشح الموت الساخن وترقص رقص روح أم سقط البيت على أولادها الأبرياء.

لا تذهبي لليل يا حلب وحدك، وخذي معك ما بقي من ليل حمص حين ثقب النهار الجدران والقلوب، وحين سكن الغياب وطحين البيوت المحطمة عقارب ساعتها العريقة، خذي ليلها معك يا حلب كي يدلك على درب العتمة في أخر هذا الليل.

الطائرات يا حلب تحمل براميل صمت العالم الثقيلة والمحشية بالنابالم، النابالم المعد خصيصا لليلك يا حلب، الطائرات تحمله وتضيف له حقدا معتقا كي يكون انفجاره كيوم القيامة، القيامة الجماعية من الحياة إلى الموت، الموت الساخن يا حلب.

الطفلة التي كانت تلعب بتلك الدمية، الطفلة التي كانت تمسك يد الدمية وتحكي لها حكاية ما قبل النوم، أخرجوا الآن دميتها من تحت الأنقاض بلا يد، ثم جروا يد الطفلة التي لم تفلت يد دميتها، اليدان الآن متشابكتان تكملان الحكاية، متشابكتان ووحيدتان، وحيدتان بلا جسد.

الأب لم يعثر على جثة ابنه، ولا على جثة ابنته، فقط وجد مريول المطبخ الذي كانت ترتديه زوجته حين كانت تعد لهم الطعام وحين كانت تضيف له كثيرا من الحب، الأب لم يعثر أيضا على زوجته، فقط كان يصرخ ويسأل وجه الله الجالس هناك، لماذا هو ليس معهم تحت كل هذا الركام، لماذا عليه أن يفتش عن أشلائهم، يجمعها، ليعيد تشكيلهم، لماذا جهنم هذه كلها، ولماذا ذهبوا في رحلتهم الطويلة وتركوه وحيدا في هذا القبر.

حلب، صابونك الذي هو أقدم وأفضل صابون في العالم، صابونك الذي يباع بأغلى الأسعار، لم يستطع أن يغسل وسخ هذا العالم، وكل قطنك ونسيجك الأعرق والأجود والأجمل لم يستطع أن يستر عري هذا العالم الفاضح، كل عراقة حضارتك لم تقدر على أن تحمي زيف ما يدعيه هذا العالم من تحضر كاذب، قلعتك القادمة من ثلاثة آلاف عام لم تحم هذه الإنسانية من الانهيار، من أبوابك التسعة دخلوك، من باب النيرب، من باب النصر، دخلوك من الجامع الأموي ومن كنيسة السيدة العذراء، من سورك خرجت وحوش السماء، في أسواقك وخاناتك الأقدم باعوك فلا تسامحي يا حلب،

القات يستوي الآن على عرشه، القاتل يغلق باب الغابة ويكسر صوت الليل فيها، القاتل يلم صورك من الوجوه، ويحرقها، القاتل هو الكثيرون الذين يوجعهم جمالك، توجعهم أنوثة خصرك في القدود وأنوثة صوتك في الموشحات، القتلة كثيرون ينتظرون سماء لأسلحتهم الصدئة وأطفالا جاهزين لتجريبها، القاتل هو العالم، كل العالم، فلا تنسي يا حلب.

حلب يا سيدة الموسيقى، لا ترمي للعالم عكازا كي يقوم مرة ثانية، دعيه مرميا في هذا الوحل، لا ترسلي له صابون غارك، لا تدخليه في مقاماتك، لا تسكنيه الأغاني، حلب لا تنشديه واتركيه كما هو الآن ضائعا بلا وزن ولا لحن

حلب يا سيدة الطرب، اسحبي صوتك من كل الحناجر، وخبئيه في جرارك، واسحبي اسمك من كل الخرائط، وخبئيه في عيون الأطفال الذين رحلوا، العيون الخائفة والمفتوحة، التي لن تغمض بعد اليوم وستظل تشاهد كي تخبر الله عنك يا حلب.

اسحبي مساءك من لياليهم، اسحبيه كاملا، خبئيه في سواد أثواب الأمهات اللواتي سقطت قلوبهن في حفر في هذه الأرض، اسحبي مساءك كله يا حلب واتركي ليلهم بلا مساء…

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى