صفحات الثقافةعزيز تبسي

حلب: ليل يحيل إلى ليل/ عزيز تبسي 

 

 

لم يعد ينتظر جديداً في اليوميات التي تتعاقب بسهو منهجي لتعطل الزمن، زمنها. الأمهات في مكانهن الراسخ من عهود ما قبل تأسيس الاتحاد النسائي وبعد قرار حلّه. ينفخن على نار، ليزدنها اتقاداً تحت مراجل تطبخ الطعام، يختلجن كلما سمعن زمامير سيارات الإسعاف وأزيز رصاص الرشاشات، يطللن بين وهلة وأخرى من شرفات بيوتهن لتفقد أولادهن، الذين يتمهلون بخطواتهم الثقيلة الزمن المتهور، غير مكترثين بحريق أعصاب أهلهم وشياطها.

الفتيات يحمّصن بزور البطيخ لإخوتهن الأصغر سناً، وهن مرتجفات من خوف احتراقها وتبديد لب هذه المسرات وقشورها. وآباؤهم يحملون أكياس ثقل وزنها وأنخفض ثمنها: أرغفة الخبز، الشراب المستخرج من منقوع جذور نبات السوس البري، البطاطا والباذنجان، حزمة من البقدونس والباقلاء والنعنع. منشغلون بأيامهم الثقيلة، التي تحيل إلى أيام أثقل منها.. لا أحد يسأل عن مرابط حافلات الحركة التاريخية، ليحجز مقعداً من مقاعدها الشاغرة، ولا يستفسر عن مسارات طرقاتها، ليتابع سيره نحو يقين الارتطام بالمستقبل.

يزيد النار لهيباً ممارسات الشبيحة، أو من في حكمهم، التي تزيد الخوف خوفاً، وتخنق الناس فيما تبقى لهم من مساحة ضيقة. لا “يَعفُ عند المَغنَمِ”، كما فعل الشاعر الفارس عنتر بن شداد في معلقته المنسوبة للعصر الجاهلي. على عكسه لا يقاتل هؤلاء المؤمنون إلا لغنائم معجلة، ولوعود مؤجلة

بأماكن يجري حجزها لهم في المنتجعات السماوية. يصلون قبل الجميع إلى بوابات الأفران، إلى شاحنات بيع عبوات الغاز المنزلي، إلى ردهات المستوصفات والمشافي، إلى الدوائر الحكومية، إلى المطابخ التي توزع الوجبات المجانية، يعبرون الشوارع بسياراتهم الصاروخية التي يحجب زجاجها وجوه من بداخلها.

يُنكرهم جميع من تربطه علاقة بهم. يتبرم من أفعالهم الذين جندوهم وأطلقوهم كذئاب بين الناس العزل، الذين يرشدوهم إلى المستودعات والمعامل لتعفيشها، الذين يشترون منهم المسروقات، الذين يقدمون لهم الطاولات النظيفة في صدر المطاعم، الذين يستقوون بهم لحل المنازعات الشخصية. كما اعتمد بعضهم على أنشطة بعيدة عن الجبهات الحربية، كجباية الإتاوات من أصحاب الدكاكين، مستخدماً أساليب الترهيب والابتزاز، ووضع آخرون أياديهم على البيوت والمكاتب والعيادات التي غادرها أصحابها ليؤجروها، أو ليسكنوا بها أعوانهم وخلصائهم. واستثمر بعضهم من الظل مولدات الكهرباء، واضعين تحت الشمس وجوهاً مدنية أرادوا ربحاً أسبوعياً صافياً عبر التلاعب بأسعار “الأمبير” الوحدة الكهربائية الدنيا التي يبيعونها للزبائن، وإن عجزوا عن ذلك لتشديد الرقابة الحكومية عليهم، ذهبوا لتخفيض الزمن المتفق عليه، بذريعة عطل المولد، ويوفروا بهذا مخصصهم من المازوت المدعوم حكومياً، ليبيعوه بأسعار السوق السوداء. وآخرون منهم، يقتلون فتى بتسديدة مركزة على رأسه لأنه طلب منهم “شحادة” ليشتري بها وجبة إفطار، ويقلعون بسيارتهم، تاركينه مضرجاً بدمائه، مرمياً فوق عشب حديقة عمومية. وآخرون يصدمون طبيبة أثناء عبورها من رصيف إلى رصيف، ويتركونها حطاماً على قارعة الطريق لموت مؤكد، لا يتأخر أن يصلها في المشفى، بجبائره ولفائف شاشه ومحفة تعمل على خط غرفة العمليات الجراحية – المقبرة.

أما تزال هناك فاعلية لصابون الإصلاحات ليقوم بمهمة التنظيف الذاتي؟ هل بالإمكان الحد من نفوذ الشبيحة، بالأسماء المتعددة التي تحيل إليهم، والتمسك بالشروط التي أنتجتهم؟

كل ما يحيط بالناس يقر بواقعة ترتعد لها الأوصال، لا تحتاج منادياً يعلنها وهو يجوب عتمة الشوارع، قارعاً طبله جاهراً بصوته: يا خلق الله، يا سامعين الصوت: هزم عنتر، وانتصر أبو عنتر!!

من الصعب التيقن من أعداد العائدين إلى المدينة، بعد استعادتها. بافتراض يتأسس على خيال عجائبي أن هناك من قرر العودة، يستند على افتراض آخر يعول على قوة الترويج الإعلامي الذي يهدف نظرياً إلى إعادة من غادروا في السنوات السابقة، وعملياً لبث الطمأنينة بصدور من بقي فيها لتأميله بميل الأوضاع إلى الاستقرار، علّها تحد من أعداد المغادرين.

مدينة يحتاج العيش فيها إلى ميزانية مالية عالية، وحزمة تتوسع يومياً من التفاصيل الصغيرة، يتوجب التنبه لها، كالاستعداد للعيش بلا كهرباء، واحتمالية دائمة لانقطاع المياه، التهيؤ لاحتمالية تجدد الأعمال الحربية، وإغلاق طرقات المواصلات، وقطع الاتصالات، وتحفز لمصائر الشبان الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية الإلزامية.

من البذخ الحديث عن خطط إعادة الإعمار، إطلاق المشاريع التنموية، ترميم المنشآت التاريخية، والبت بأوضاع الميليشيات التي تهيمن على العديد من الأحياء.

فاق ذكر جهنم والجنة في هذه السنوات كل ذكر لهما خلال ما ينوف عن عشرة قرون ماضية. ويجهل المرء، لفرط الإرهاق والتعب اليومي، أهو في جهنم وسيمضي بعدها إلى الجنة، أم في الجنة وسينتقل بعدها إلى جهنم، أم في جهنم وسينتقل إلى جهنم أخرى أشد سعيراً.

من اليقين أن حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل “قلب لوزة” و”البارة” و”سرجيلا”. إرادات صلبة وعنيدة، تعمل على ضخ الحياة في أوردتها، والأمل في روحها. تلاميذ ينتظرون بطاقات نجاحهم أمام بوابات مدارسهم. طلبة الجامعات والمعاهد، يتأبطون كتبهم تحت هذا السعير ويمضون إلى كلياتهم، شغيلة مسكونون برغبة الحفاظ على أعمالهم وعائلاتهم، يخيطون الألبسة القطنية ويصنعون الحقائب الجلدية، عمال نظافة يمسحون بالإسفنج وجوه الشوارع، جنائنيون يمشطون الأشجار ويحتفلون بميلاد الزهور، فضوليون يحصون أعداد العصافير، وخياليون يعيدون رسم المدينة على الورق. شعب اعتاد الحياة بوصفها قدراً، لا نجاة منه. طالما رغب ملاقاته في منتصف الطريق، ليدخر عذابه اليومي، ونزيف امتحاناته المروعة التي لا طائل منها إلا التمرغ في يقين الفناء.

* كاتب من سوريا

السفير العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى