صفحات العالم

حل أم لا حل؟


نهلة الشهال

«القيادة السورية كانت منذ اللحظة الأولى مدركة لحجم الأزمة وأسبابها، وتعاملت معها على أساس القناعة بوجود مطالب مشروعة ومحقة للشعب السوري». قد يميل كثيرون إلى التهكم أو التهجم على هذه الجملة الغريبة التي أدلى بها سفير سورية لدى الجامعة العربية كنقطة ختام لإعلان قبول السلطة في بلده خطة الجامعة، بلا تحفظ وبكليتها. قد يميل كثيرون لبذل جهد في السجال حول مقدار كذب هذا التأكيد، وتناقضه مع جمل أخرى قيلت على لسان الرجل نفسه، أو على لسان مسؤوليه في تلك القيادة «المدركة» (وهل يُعقل ألا يكون الإدراك من صفاتها السامية؟!).

لكن ذلك تمرين مجاني بل مُسفّ، يخرج أصحابه من حقل الممارسة السياسية. فالسؤال الوحيد الجدير بالنقاش يتعلق بحيثيات قدرة خطة الجامعة العربية على التحول إلى إطار يواكب حلاً لحالة الصراع الذي انزلق إليه الوضع في سورية، والذي يقع في قلب معادلة لا يرغب كثيرون في سماعها، ناهيك عن إدراكها، تقول إن النظام عاجز تماماً عن حسم الموقف بواسطة الحل الأمني الذي اعتمده ومارسه ولم يراهن على سواه، كما أن التحركات الشعبية بكل مستوياتها وتعبيراتها عاجزة تماماً عن التخلص من النظام، استسلاماً أو زوالاً بضربة قاضية ما.

وما ينتجه الواقع نتيجة هذه المعادلة، مرعب بحق، وبدأت تخرج إلى العلن ثماره المُرَّة: خلال الأسبوع المنصرم حدثت مجزرتان طابعهما طائفي بحت، وإن كان السوريون ما زالوا يخجلون من النطق بأسماء الطوائف توضيحاً للأحداث، بخلاف اللبنانيين الذين يصرّحون بها بلا حرج، وفي كل المناسبات، بما فيها أبسطها وأكثرها وداعة وسلمية، كانتخابات مجالس الطلاب في الجامعات مثلاً. وأما العراقيون فيقعون، كلامياً على الأقل، بين المنزلتين، بينما انفلت لديهم من كل عقال الذبح الطائفي، وإن لفترة، لكنه ما زال يترك حتى الآن بصماته القوية على يومياتهم، ويهدد مستقبل بلدهم ومجتمعهم.

في سورية إذاً، توافر من يقتل عمالاً (سُنَّة؟) في مصنع لمحارم الورق في قرية قرب حمص. أُوقف 11 عاملاً إلى حائط وقُيّدت أيديهم ورمي كل واحد منهم بطلقة في أسفل الرأس بواسطة كواتم للصوت على ما يقال. عملية إعدام مضبوطة. «رُد على ذلك» وفق البيانات الصادرة في الشأن باعتراض طريــــق حافلة تحمل 18عاملاً وقروياً (علويين؟) في ريف حماه وتصفيتهم جميعاً، إلا السائق وثلاث نساء ليتكفلوا بإشاعة الرواية. وقد يكون الأوائل علويين والمجموعة الثانية سنّية، لا يهم! وبين الحدثين الفظيعين (وما يتواتر من روايات مشابهة) تكفَّل «جيش سورية الحر» الذي يمثل عنواناً مفترضاً للجنود والضباط الفارين من الخدمة، بالقيام بعملية سمّاها «نوعية»، تتمثل بالهجوم على وحدات مؤللة من قوات الجيش النظامي وزرع عبوات تنفجر أثناء مرورها على الطرق. إن لم يكن هذا انزلاقاً للحرب الاهلية فهاتوا نعتاً آخر. وإشعال هذه أسهل تعريفاً من وقفها، لأن تداعي وتدحرج الفوضى والأحقاد والثارات مما يصعب كثيراً احتواؤه.

وفيما يعتد النظام بانخفاض وتيرة التظاهرات المناهضة له، ويشيع أنْ «خلصتْ!»، يُخرِج هو في المقابل تظاهرات تعلن شعبيته. وفي هذا تزوير للاستفتاء العام (راجع شروطه!)، ناهيك بالسماجة والبلادة، حيث المؤدى ليس سوى تشديد الاستقطاب القائم في البلد، وهو في كل مكان حاضنة الحروب الأهلية. فحين مورست التظاهرات المليونية المتقابلة في لبنان (بشروط مختلفة تماماً، تجعلها سمجة وبليدة وإنما غير مزورة)، أَعلنت حرباً أهلية سلمية! وهي في سورية، كما سائر المؤشرات، قد تكون تعبيراً عن وصول الأمور إلى الحرب الأهلية المنخفضة الوتيرة. وهذا للقول إن استعادة الكثير من الهدوء، لو حصل بفضل القمع أو الإنهاك، لا تكون حلاً.

وتلك التظاهرات المؤيدة تعبر عن خطأ في تعيين المعركة، كما هو خطأ في تعيينها الاحتماء فحسب بتأجيج المشادة بخصوص التدخل الخارجي. فلو توافرت شروطه هذا الأخير لحدث، ولتمت تغطيته بألف مبرر. ومن المقلق مثلاً أن «تكتشف» الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما تشتبه في أنه مفاعل نووي في الحسكة. فهذا يشبه ربط نزاع، أو يمهد لأمر سيحدث حين يحين وقته، إن حان.

ولا يبدو أمام السلطة من مجال سوى الاتجاه بجدية (بعيدة عن التكتيكات التي لو طغت لتسببت بكارثة) إلى اقتراح حزمة من التدابير السياسية والاقتصادية والاجتماعية تمثل «إفحاماً» غير قابل للرد لمن يطالب بإصلاحات، وأرضية لعقد اجتماعي جديد. ويعني ذلك أن يتمكن بعض القيادة السورية من الانقلاب على ما عهده من أساليب ومنطق، بل الانقلاب على نفسه وعلى مراكز قوى مصلحية، أمنية واقتصادية، تمسك بالوضع وتظن نفسها قادرة على الاستمرار كما كانت. فإن لم يحدث «إدراك» بأن ذلك الماضي انتهى، وأن هناك بالفعل معطيات وتوازنات جديدة ينبغي أن تدخل في الحسابات وتقولب السلوكيات، فلا فائدة ترتجى من أي سجال ومقارعة، ولا رجاء. وسنكون شهوداً عاجزين على اتجاه الأمور نحو الأسوأ، تسرّع فيه أو تبطئه عناصر لا يتحكم بها السوريون أنفسهم، نظاماً ومجتمعاً، كمثل القرارات الاستراتيجية المهمة لواشنطن بخصوص العراق وإيران، أو كمثل ما يمكن الجنون الاسرائيلي أن يرتكبه. وهذا النعت الأخير ليس شتيمة بل توصيف سياسي للحظة الحالية الخاصة بالمشروع الصهيوني. وفي هذا الصدد، فإشارة الرئيس السوري إلى «الزلازل» و «أفغانستانات كثيرة» لو أفلت الوضع السوري من السيطرة، أشبه بالتهديد الذاتي، إذ لا يُظن أن طموح الرجل يتلخص بالتحول إلى ملا عمر آخر، وسط خراب موصوف لدائرة واسعة في المنطقة تتجاوز سورية نفسها!

وأما الشك في قدرة النظام أو أجزاء منه على ذلك فمشروع تماماً. وأما المعارضة ممثلة بـ «المجلس الوطني السوري»، أو بالسيد خدام، فلا يُعوّل عليها كي تلتقط «الضرورة»، ضرورة إنضاج تسوية فعلية تستند إلى الحصول على أعلى مقدار من التغيير بناء على مأزق النظام. خدام لا يؤمن بالحوار إلا «على أساس إنهاء النظام»، كما يقول، ويؤكد أن لا تسوية لأن «الشارع يرفضها»، فيذهب بالمجابهة الدموية إلى نهاياتها. والمجلس الوليد والمفبرك من كل وادٍ عصا، يحرِّض العرب على تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية وعلى الاعتراف به ممثلاً للشعب السوري! لعل المراهنة التكتيكية الوحيدة التي يحق للنظام في سورية الحلم بها تستند إلى غباء هؤلاء القوم، إذ سيتحملون وزر إفشال الخطة العربية، ويمنحون خصمهم كل المبررات ليمعن في القمع. يا للبؤس!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى