صفحات مميزةعلي ديوب

حماة بين زمنين


علي ديوب

(إلى كل روح بريئة حرمنا منها نظام الأسدين: إلى روح أبي وإلى روح أستاذي أحمد توفيق كليب).

حماة – 1974

كنت طالبا في ثانوية أبي الفداء. وكانت حماة لا تزال مدينتي التي تعودتها وأحببتها مذ عمري المبكر، إذ كنت أحتل حضن أبي، الذي كان يكرّم بوصفه الشيخ الأكبر قدرا وعمرا- بالجلوس إلى جانب السائق في أوضة السيارة البيك-آب التي كانت تخصص للبشر والحيانات والحاجات، في تجاور متآخ.

وكانت أخلاق أبي تحرج تحضّري، حين كان يلقي السلام على المارة- كل المارة- ونحن في طريقنا إلى الغرفة التي أكون استأجرتها منفردا غالبا أو بالتشارك مع أحدهم. كنت بتذمر المراهق أسأله لماذا يفعل خاصة وأن أغلب الناس في حركة لا يلقون بالاً لسلامه!؟ فيرد عليّ بروح سمحة، تخفي ملامة المحب، ويقول: يا إبني السلام لله.

ما كان أبي يشعر بأية غربة وسط سوق حماة، حيث كنت أسمع الترحيب به من هذا المحل أو ذاك، وهو يقودني من يدي، أو يتركني أمسك بطرف الفروة الطويلة- لباسه الخارجي صيفا وشتاء- ويسير الهوينى لبعض شؤون التسوق. وحين يكون لديه أعمال يريد إنجازها بمفرده، كان يتركني لدى أحد معارفه من أصحاب المحلات. فما كنت أشعر بغربة، ولا كان صاحب المحل يضيق ذرعا بي. فقط كان يصبح الوقت أكثر صمتا مما هو بوجود أبي، الذي كان يحلو له ولصحبه تبادل الأحاديث..؛ تماما كما كان عليه الحال في بيتنا القروي البعيد، حيث كان يألف معلمو الابتدائية الغرباء التواصل مع أبي، ذي العقل المنفتح، والذي لديه دوما ما يحدثه( وهو صاحب تجربة الغربة في الإرجنتين لسبع سنين). وكم ارتد عليّ هذا بالحفاوة وحتى بالحماية لاحقا.

ثمة أشياء غير مريحة بدأت تحدث من حولي، في الثانوية، حيث كان متاحا لابن يوسف الأسعد- عضو قيادة فرع حزب البعث الحاكم بحماة- أن يدخل إلى المدرسة متخصّرا مسدسه الحربي. وكان هذا يثير سخط الطلاب. ولا أدري كيف تطورت الأمور في إحدى شعب البكالوريا، الصف الذي كان يدرس فيه شاب حاد المزاج صار لاحقا ضابطا في سرايا الدفاع، وارتبط اسمه ‘ياسر باكير’ بمجزرة سجن تدمر الفظيعة. كان ياسر بدوره يحمل سلاحا أبيض أشهره في شجار ضد الطلاب، داخل غرفة الصف.

شعور غامض كان يجعلني أتعاطف مع الزملاء الحموية في تلك الشجارات، لم يكن مصدره فقط نفوري من طلاب مسلحين في حرم مدرستي، بل أحاديث صهري عن شهامة العمال الحموية في بيروت، حيث كانوا يمثلون له ولعمال ضيعتنا سندا ونصيرا ضد اعتداءات الزعران. ثم حكاية لجوء الشاعر ‘بدوي الجبل’ إلى حماة، حين كان مطاردا من الاستعمار الفرنسي..؛ وهي أحاديث خفتت إلى حد التحريم، بعد فرض أيديولوجيا تأثيم الحموية، على إثر أحداث حماة التي قلب النظام حقائقها من كونها مجازر بحق آلاف الأبرياء، إلى جرائم تسبب بها الاخوان المسلمون. وأرفق ذلك بقوانين تؤثم من يهمس بالحقيقة المضادة، وتسمح باعتقاله المؤبد.

ما كنت يوما طرفا في شجار، ولا أجيد الشجارات، بل أشعر معها بالرهبة والغرابة حدّ الشلل. لكن حماة تلوثت باستقطابات سياسية مقتصرة على الحزب الحاكم، دون سواه. وانمسخت التعددية التي كنا نسمع أنها كانت تغني الحراك السياسي في المدينة فترة الخمسينات، إلى مجرد انقسام استتباعي بين عضوين بعثيين هما يوسف الأسعد وعمر السحار، اللذين اقتسما فيها ضمائر الناس، مستغلين حاجاتهم، وقد باتت المكاسب (خاصة البعثات التعليمية يومها) رهنا بالقرب من النظام.

مثلما تجنبت الشجارات في الثانوية، فعلت في غرفة ضمتني مع ابن عمي الذي بدلا من أن يحترم شعوري، وسّع من احتلاله للمكان، وسخر مني قائلا انه لا يناسبني غير المركز الثقافي. فكانت بداية عمر جديد لي، تعرفت فيها على عالم جديد غريب، ذاخر بالكتب، ويختلف عن بيت أبي الذي يقتصر على بضعة كتب- جلها ديني. فصرت عضوا في المركز بضمانة أستاذي أحمد توفيق كليب، الذي ترك علامة في حياتي، بما لقيت منه من تشجيع وحب ورعاية. في المركز الثقافي تعرفت هناك على المعري وطه حسين.. وكثير من الأعلام!

لكن ما كان يطبخه النظام كان لا بد أن ينضج. وقد حدث هذا في 1982، حيث انفجرت الأحداث في حماة، بعد احتباس قهر طال. وبرغم أن من فجّرها لم يتعدوا بضع مئات من الاخوان (كما قرأت يومها في منشور لرابطة العمل الشيوعي)، إلا أن الرد الذي أنزله النظام بالمدينة كشف بوحشيته وهول الدمار الذي تسبب فيه عمّا هو أبعد بكثير من مجرد عقاب مجموعة خرجت على النظام، أو حتى مدينة أعلنت العصيان. لقد كشف عن رسالة يُرهب بها أهل البلد، ويخبرهم بأن كل من لا يطيعه سيلقى مصير حماة وأهلها. وكان هذا هو طريقه السالكة لحكم شمولي فرداني طغياني متألّه!

حماة- سورية ما بعد 1982

إن سمحت لنفسي أن أعبر عن الشخصية الحموية، كما عرفتها، متجاهلا ما قارب حقيقتها أو ما جافاها.. لن استعيد حقائق التاريخ القريب التي لا يزال شهودها احياء، بأن حماة مثلت واحة تعايش للمختلفين على نحو جعل سقوط مرشح الاخوان المسلمين فيها لصال المرشح الاشتراكي أمراً عادياً. ولا كيف صار أكرم الحوراني أهم لدى العلويين من أي مرجع ديني. وبالمقابل لن أخسر وقتا في الاستشهاد بالنعوت القبيحة التي ضربها النظام على الاخوان المسلمين، ليقصد من وراءها نعت الشخصية الحموية. ولا ما سبق هذا من شكاوى سقيمة ضد الحموي بأنه يحتقر الريفي؛ كما لو كانت هذه وقفا عليه، وليست ربطا بزمن كانت فيه الصلات ضعيفة بين البداوة والحضر بالعموم.

أستطيع أن أقول، بحسب تجربتي الشخصية، بأن الحموي أقرب إلى الإنسان الفطري، بكل تلقائيته. أي بما تحمله التلقائية من قوة عاطفة وقوة صدق وقوة رفض وقوة حماية..الخ. الحموي إنسان لم تستطع العقائد أن تروضه. ولإن كان له من عقيدة يرضاها، فهي عقيدة الفطرة. لطالما كان الحموي ينتج عقيدته الحرة، ويمارس عقيدته العادلة. ويزينها بطقوس تأخذ من فطريته أكثر مما يأخذ هو من قداستها.

فالشخصية الحموية في خشونتها الفطرية هذه، تعكس عاطفة أصيلة عصية على الترويض، بقدر ما تعكس أيضا ارتباطا عميقا بمفهوم العدالة العنيد، وما يحف به من خصال الشهامة والحميّة والجرأة والقدرة على استبعاد الأهواء التي تحابي وتمايز وتفاضل بين الحقوق.

والشخصية الحموية لا تجعل من الحب فزّاعة، وتجرم المحبين وعشاق الحرية.. فلينظر الباحثون الاجتماعيون في سرّ ارتباط شاعر المجون والروح الهزلية والسلوك الساخر ‘وجيه البارودي’، بحماة..؛ وفي سرّ احتضانها له، وهي تعلم وكل أهلها يعلمون- من غير أن يجعلوا مما يعلمون علكة للتسلية- بأن شاعرهم يتشبب بالنساء على الإطلاق. وأنه أيضا كان لا يزال يعشق ويجاهر بعشقه لسيدة كريمة من جيله، لها أحفاد من سواه، كما له من سواها!؟ غفرانه، نسيت أن أترحم عليه؛ ربما لأنه لا يزال حيا في قرارة وعيي!

بينما يثكل النظام فنانا مثل محمد شيخ الزور (من مؤسسي الفرقة المسرحية بحماة) لكي يتحول إلى بائع أحذية على الرصيف.

أواه يا حماه.. يا زاوية الأسرار، وآهات الصبا، وفتون الغناء! يا من نما حبي لك مع سحر صوت ‘فؤاد فقرو’، الذي احتضنه استديو الأهرام، ومنحه أبو العجم أعذب الألحان، كريما محبّا، وحقق له الازدهار والمجد..؛ قبل أن تغتاله إذاعة النظام، فتشوه اسمه بتحويله إلى ‘فؤاد غازي’، ومن ثم ليموت بالإهمال، بعد أن مات داخله على إثر الاعتداء الذي تلقاه يوما من قبل عصابات السرايا.

الشخصية الحموية تذكرني بالنمر في قصة زكريا تامر (النمور في اليوم العاشر)؛ بفارق أن الحموي ما أن تُطبقه حتى يعود إلى أمه الطبيعة، كما لو لم يفارقها لحظة.

فهل من علاقة سببية خفيفة بين بنية الشخصية الحموية، ومثيلاتها من الشخصيات على ضفاف العاصي، وبين حقيقة مجرى هذا النهر بعكس أنهار العالم، واتخاذه اسما يصف هذه الخصيصة بالعاصي؟ آه: ماذا لو اكتملت صفة العصيان لديه بحقيقة شقيقه بردى، الذي يرفض أن يصب في البحر، ويفضّل على ذلك أن يذوب في تربة وطنه- الغوطة!!؟

من كان يجرؤ بعد مجازر حماة أن يتذكر حماة، إلا في وحدته؟ من كان يستطيع أن يُشعل شمعة في ذكرى اجتياحها؟ من كان يخطر في باله أن من حقه السؤال عن آلاف من أهلها مجهولي المصير؟

لقد قبض حافظ أسد على البلد، وسجنه في قنينة، وسنّ دستورا جديدا من التجريم والتكريم..؛ فأما من والاه ولاءً أعمى فهو في عيشة راضية.. وأما من رضي بغيره إلهاً فأمه هاوية. وصار البلد أشبه بسيرك يعج بالحيوانات والوحوش التي تأتمر بأمره، وتنتظر قراراته، وتعلق عيونها بحركاته، وترهبها سكناته. فأنتج مجتمعا عسكريا متوحشا، الجندي فيه على جاهزية تامة ليس فقط لأكل لحم أخيه حيّا؛ بل ولإرفاق ذلك بصرخة انتشاء وعواء انتصار.

صار التاريخ بعد مجزرة حماة ساكنا. صار خوفا متصلا. وصار مقتطعا من الزمن. يمكن أن نقول أن سورية لم تكبر بعدها يوما واحدا. كانت مرصودة في القمقم. لا تكبر ولا تصغر. ويمكنها أن تتجمد على هذا الحال دهوراً (أطلق عليها تسمية: الأسد للأبد)؛ لولا أن رحمة الشعب لا يقنط منها إلا الجاحدون. وها التاريخ يتنفس، ويصرخ صرخة الولادة من جديد. لم يكن أطفال درعا يعلمون بأن لمساتهم على الإبريق السحري سوف تطلق المارد الذي طال سجنه.فكانت معجزة الشعب السوري العظيم!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى