صفحات الرأيميشيل كيلو

حماية المدنيين ضد حكامهم!

 


ميشيل كيلو

اتخذ مجلس الأمن الدولي قرارا ستكون له نتائج خطيرة بالنسبة إلى مجمل العلاقات الدولية، كما بالنسبة إلى علاقة نظم العالم مع شعوبها، أملته مقاصد متنوعة تغطي مروحة كاملة من الأهداف: من عودة الاستعمار إلى فرض نمط التنظيم السياسي الغربي على بقية العالم، إلى حماية حياة السكان المدنيين ضد حكامهم المجرمين الذين لا يتورعون عن قتلهم وإبادتهم، من أجل البقاء في كراسيهم… الخ.

وكانت مسألة حقوق الإنسان قد تحولت إلى قضية من قضايا السياسة الخارجية، وبالتالي الصراع الدولي، بفضل حكومة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الذي أعطى بلاده حق التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد ينتهك حقوق الإنسان، بذريعة حمايتها. ومع أن كارتر لم يطبق هذا المبدأ، وإنما تلاعب بتحقيقه حسب كل حالة ووضع، عندما أعلن التزامه به كليا في إيران وجزئيا في الصين، وتجاهله تمام التجاهل في الأراضي الفلسطينية المحتلة إسرائيليا عامي 1948 و1967، فإن الأمم المتحدة وهي ليست أمريكية – ما لبثت أن طورت من جانبها مبدأ جديدا على السياسة الدولية أسمته مبدأ ‘التدخل الإنساني’، يبيح لها حق التدخل لمنع الحكام من انتهاك حقوق شعوبهم، ومن الاعتداء على حقوق الأفراد في بعض الحالات، فشكل قرارها بداية حقبة جديدة في التعامل مع الدول الاستبدادية، التي يحكمها أشخاص كان يجب أن يجدوا أنفسهم في السجون الجنائية وليس في كراسي الحكم، يديرون بلدانهم كسجون كبيرة ويرون في مواطنيهم حيوانات تجارب سياسية ،لا بد أن تخضع لإرادتهم بالطريقة التي يحلو لهم فرضها عليهم، علما بأنهم لا يترددون في القضاء على كل من يعارض خياراتهم أو يخالف قراراتهم أو لا يوافق عليها، بينما يستأثرون بخيرات وثروات أوطانهم كما يستأثر إقطاعي بمزارعه وعبيده، فليس لرعاياهم أي حق بما في ذلك الحق في الحياة أو الأمن أو الحماية أو لقمة العيش، ناهيك عن تربية أطفالهم، هذا إذا ما سمح لهم بالزواج تقول وثيقة حقوق الإنسان الخضراء الكبرى، التي أصدرها الأخ العقيد، في أحد بنودها : ‘لكل مواطن حق اختيار شريك حياته، إذا كان ذلك لا يتعارض مع المصلحة العامة !’.

وقد تم تطبيق حق التدخل الإنساني مؤخرا في ليبيا، حيث انقض القذافي على شعبه، كما قال: من الصحرا إلى الصحرا، لتطهير ليبيا شارعا شارعا وبيتا بيتا ودارا دارا وفردا فردا ‘. وبما أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن ليس لديهما قوات مسلحة خاصة تتولى تنفيذ قراراتهما، فقد تم تكليف الدول الكبرى بحماية المدنيين الليبيين من الجزار الذي يريد تطهير ليبيا منهم. ومع أن القرار واضح، فإنه دخل بسرعة في متاهات العلاقات بين الدول الكبرى، وأخضع لأهداف كل واحدة منها، وهي متضاربة وغير إنسانية على الجملة، بينما شحنه كل طرف بمطامحه وقراءته الميدانية والعملية الخاصة، فلم يعد قرارا لحماية المدنيين، بل قرارا للتلاعب بحياتهم ولاختراق بلدهم المسكين، الذي وجد نفسه مجبرا على الطاعة لحاكمه أو الانخراط في حرب متصاعدة لا تبقي ولا تذر، تسهم في دفعه إليها طريقة تطبيق القرار العشوائية والكيفية، وطريقة قوات القذافي في الحرب ضد الداخل الوطني، التي أطلقت يدها فيه أكثر من أي وقت مضى، واستهانت بجميع القرارات والشرائع والأعراف، وأمعنت في تقطيع أوصال بلادها إلى غرب وشرق، وأوصلت الشعب إلى درجة من القمع والقهر لم يسبق له أن عرفها في أي وقت.

في البدء، قال الأمريكيون إنهم لا يريدون خوض الحرب في بلد إسلامي، خشية أن تقوى القاعدة. ثم قالوا إن هذه موجودة بين صفوف الثوار، وقرروا تقليص دورهم في الحرب، وهو مهم جدا، كما يبدو بوضوح. وأخيرا، أعلنوا أنهم سيسلمون قيادة العمليات إلى حلف الأطلسي، الذي ما لبثت بلدانه أن اختلفت فيما بينها، قبل أن تتفق على قدر من العمل العسكري يديم الحرب وما ينجم عنها من قتل مدنيين وغير مدنيين، ومن خراب، وربما مهد لتقسيم ليبيا، بعد إشعال حرب أهلية حقيقية فيها لا تخرج منها إلا وهي مهشمة مدمرة، إن هي خرجت أصلا. هكذا بدأ الحلف، بعد أن ‘عجزت’ قوات أمريكا وفرنسا وبريطانيا الجوية عن تدمير آلة الحرب البرية، التي تقتل المدنيين، واكتفت بتدمير دفاعاتها الجوية ومطاراتها ووسائط التشويش والاتصال لديها، أي بما يمكن أن يمثل تهديدا ما ولو من بعيد للتدخل الغربي، وشرعت تتفرج على الحرب وهي تنتقل من مكان إلى آخر في الشرق، بينما وطد القذافي أقدامه في الغرب أكثر فأكثر، وانتقل إلى عملية إبادة شاملة للمدنيين، بكل ما في الكلمة من معنى مخيف، وحول مدن مصراتة والزاوية وزواره إلى حقل رعب منظم وشامل، ودمر الزاوية ودكها وسواها بالأرض، وعمل على توسيع رقعة انتشار قواته هناك، في حين سحب الأمريكيون طيرانهم من القتال، بعد أن ضمنوا تأجيج نار الحرب إلى الحد الذي يجعل إطفاءها من جديد قرارا يتخذونه وحدهم، يضع ليبيا في جيبهم، وأخذ الحلفاء الأطلسيون يبحثون عن قوات القذافي فلا يجدونها، كما أعلن ناطق باسم حلف الناتو في بروكسل، علما بأنها كانت تنتشر حول المدن وتواصل تدميرها ومحوها عن الأرض، والقضاء على سكانها، المدنيين حصرا.

لن أصرخ: أين العرب، ولماذا لا يرسلون وحدات عسكرية تحمي الشعب الليبي من حاكم فقد شرعيته وتحول إلى غاصب سلطة مجنون؟ أعرف أنهم لن يفعلوا هذا لأن معظمهم يشبهه، ويخشى أن يصنع سابقة تطبق ذات يوم عليه. ولن أتساءل لماذا لا يدربون ويسلحون ثوار ليبيا، إن كان إرسال وحدات عسكرية صعبا بسبب حاجتهم إليها في قمع شعوبهم داخل بلدانهم؟ ولا أتساءل لماذا لا يفعل الفرنسيون في ليبيا ما يفعلونه في ساحل العاج، حيث تدخل طيرانهم لحسم المعركة ضد الرئيس المنتهية ولايته رولان غباغبو وقصف قصره ؟

ولن استنكر أن تترك مهمة قهر القذافي لدولة قطر العظمى، التي تتحمس لسبب لا أفهمه ضده، إلا إذا كان الأمريكيون يريدون ترك أيديهم مبلولة بالعجين الليبي، ريثما تحين عودتهم إليه من جديد وقد نضج للخبز والأكل!. أريد أن اعرف فقط أين الأمم المتحدة وأمينها العام، ولماذا لا يدعو إلى اجتماع جديد لمجلس الأمن أو للهيئة العامة للأمم المتحدة لمناقشة مصير قرار حماية المدنيين الليبيين، خاصة وأن الأمر لا يتعلق بليبيا وحدها، وأن هناك بلدانا عربية عديدة تتخذ مواقف من شعوبها ومن المدنيين فيها تشبه موقف القذافي وتتطابق معه، وأن عصاباتها تطلق النار على هؤلاء في كل شارع وبيت وزنقة ودار، أو هي على أتم الاستعداد لذلك، وستفعله بكل سعادة واندفاع؟ لا بد أن يتدخل الأمين العام هنا كي لا يظن الآخرون هناك أن قرارات منظمته لا تعدو أن تكون مجرد حبر على ورق، وأن بوسع أي دكتاتور مسح حذائه بها، لأنه لا يواجه فقط شعبه الأعزل وإنما كذلك منظمة ضعيفة يسمونها هيئة الأمم المتحدة. وأنا على ثقة من أن الأمين العام ومستشاريه لن يعجزوا عن إيجاد حلول تمكنهم من لعب دور أكثر فاعلية في الشأن الليبي كما في غيره من الشؤون، كأن يصدر بيان مسبق عن مجلس الأمن يدين بلغة صريحة استخدام العنف ضد المدنيين، في أي بلد كان، ويعلن أن مبدأ التدخل الإنساني لن يكون مجرد كلام، بل هو مبدأ له أسنان، بدأ تطبيقه في ليبيا، التي ستشرع الهيئة الدولية في مساعدة شعبها بجميع الوسائل على قهر جلاده وطرده من السلطة، ولو تطلب الأمر أن تقوم هي بتسليحه، وستكرر الشيء نفسه في كل مكان ينتهك حقوق الشعب الأعزل في الحياة والحرية !

إذا كانت الأمم المتحدة لا تستطيع مقاتلة القذافي، فهي تستطيع مساعدة من يقاتلونه وشد أزرهم، وأول ما تستطيعه هو الاعتراف بهم كجهة تمثل شعب ليبيا، الذي لا شك في أنه انفك عن القذافي، بدلالة ثورته في جميع المدن الكبيرة والمتوسطة، ومعظم المناطق، وإصراره على مقاتلة قواته رغم تفوقها بالسلاح، ووحشيتها، وما تقوم به من عمليات بلغت حد الإبادة المنظمة لمصراتة الشهيدة. لا يجوز أن يفشل العالم في اختبار حماية المدنيين من الطغاة المحليين. ولا يجوز أن يتحول مبدأ التدخل الإنساني إلى غطاء لمجازر يرتكبها هؤلاء ضد شعوبهم ومواطنيهم، يعني التساهل في تطبيقه منح الطغاة صكا على بياض، يسمح لهم بفعل كل ما يريدونه من أجل البقاء في السلطة، وخاصة منه قتل المدنيين.

لا بد أن تقرر الأمم المتحدة ومجلس الأمن أحد أمرين: إما حماية المدنيين بصورة حقيقية وجدية، أو ترك الأمور تذهب نحو بربرية جديدة. في ليبيا، يتدخل العالم بحجة الحماية، لكنه يترك للبربرية أن تفعل ما تريد. هل هذا هو المقصود بالتدخل الإنساني وحماية المدنيين من الطغاة؟

 

‘ كاتب وسياسي من سورية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى