صفحات العالم

حمزة الخطيب: من قتل الصبي؟

 


عناية جابر

ليس مشهد الصبي السوري الذي عُذبّ حتى الموت، طعنة لعين المشاهد. إنه ضميرهُ وشرفهُ وقد اجتُثا من الجذور.

لا يملك المُشاهد حيال الصورة، والصبي الميت مزرقّاً ومُكدّماً ومقطّع الأوصال، سوى شهقته، وقميص نومه وتحته تماماً تقبع روحه التي تتعذّب. والآن، إنني ضئيلة ضئيلة، ممتلئة بالشكوك بأكثر ممّا يحتملهُ عقلي.

مصير هذا الصبيّ في الجزء الأكبر منه، معلقاً بتركيب أمني عكر، شرس وغير انساني. تخلّف وهمجية حدّ الإفراط وحدّ الفانتازيا الجحيمية.

أمام عنقه الذي كُسر، أتعرّض للإختناق، وهو شعور يطرد، لا يمكنني السيطرة عليه، يهاجمني في حلقي وصدري. أمام تعذيبه هكذا، كل خلية في جسمي تفور بعصارة سّامة.

بدأت أدرك العدم العميق لحياتي الروحية، لا شكليتها التي تستبدل أشكالها أبداً، بحسب الضحايا وطبيعة ميتاتها.

الرصاص نخر جسد الصبي الحليبي، وأنا وهذا الإنهيار العصبي الذي لم يقع فيّ كاملاً، لكنه يُنذر أبداً وينبض داخل رأسي. صدعٌ في قلبي، شبيه بصدع ضغط حجارة ثقيلة، نازلة تستقر في مسقط بناية العالم.

عُذّب الصبي ومات. نام مستريحاً الى الكاميرا تُفليّ ما بقي من أعضائه، وتباً كان الأمر هكذا إذن، وما كان في حيلتي أن أغيّر مصير نملة على الأرض. المجرمون في أزمنتهم الذهبية، وعليّ أن أبتلع بصقتي وأقبل حياتي على ماهي عليه، خالية من الحقائق العظيمة.

المذيعة تسأل: ‘من قتل الصبيّ؟’. هذا هو السؤال الأصعب في العالم، ومع ذلك تريد جواباً. الجواب ليس في صالحنا ولا صالحك أيتها المذيعة، لعلك أنت من قتلته، ولعلني أنا التي لا ترينني الآن، من عذّبته وقتلتهُ، وصدقاً، نحن جميعاً من قتلهُ، صمتنا وجبننا.

من قتل الصبي؟ كلنا قتلناه، وليتبرأ احد من قتله لنقول له في قلب وجهه: كاذب.

لم استطع أبداً ان ادرك تماماً ماهية هذا التعذيب لطفل، ماذا كان ذلك في الحقيقة؟ حفلة شواء للطفولة، تغوّل ضد البراءة؟ ماذا إذن ولأيّ سبب عُذّب وأُطلق عليه الرصاص.

كنت أبحلق مع ذلك، في جسده المُرمّد وهو بين الأيدي القاسية تُقلبّه على جنباته لتظهر للكاميرا عذابه. صارت حيطان غرفتي بلون جلده، رمادية مكلومة مرة اخرى. لملمتُ كامل منطقي الذي بقي، وكان عليّ أن اشتم أحداً بصوت عال، كان على صوتي ان يُرنّح ميتات الأطفال وأن يصفها ويندبها. حدث ما هو مشابه في ليبيا ومصر واليمن، حدث في البحرين وتونس، حدث كثيراً في لبنان وحدث ويحدث ما زال في سورية. رأيت كل حجارة القبور تتدحرج أمامي بوضوح لا تمتلكهُ الحجارة عادة. تذكرت أيضاً مناماتي السيئة التي تسبق موت الأطفال عادة، كما لو سمّاً يجري في لياليّ بدل النوم.

هذه الإستدارة النهائية للعينين الى الفراغ التّام، كما لو تدوران داخل رأسه مُسهدة في الزفت أو في اسمنت صلب.

أمام جسده المُعّذب أحتاج كلمة واحدة. لا أحد يدرك مقدار ما تقوله الكلمة الواحدة، فالأفكار جميعها تنبتُ فيها.

من قتل هذا الصبي؟ حين تكون بريئاً ووردة ويفترسك حيوان فلن تحتاج أن تكون دقيقاً هكذا في تسمية من افترسك؟ يكفي ان تعرف أن موتك تشكل بطريقة ما من ضياعك في غابة، ومن كل الصمت الجهنمي الذي رعيناه، حاجبين عن عينيك الخائفتين الإشارات الدّالة الى مخرج للمتاهة.

حمزة الخطيب، صغيري، ولن تكون بعد، إضافة ما على اسمك، انقطع تسلسله منذ موتك، وما كان بقي من عمرك، تضرّر الى الأبد. هذا لا يعني انني لن أفكرّ بك، ويمكنه أن يعني عجزي عن التفكير بك.

حيال وجهك كما لو تعويذة ملائكية على علب الحليب، تشكّل اتحاد مذهل من السفاحين، وبكل الإفراط الوحشي، قتلك. وحيدٌ وفتيٌّ، وأحتفظ لك بصورة العنق الأكثر عذاباً، المسلوخ، الغائر قليلاً في طيات مستجدة منفوخة، وقد نجح في ان يورثني ندبته.

كتلة لحمك فارقتها القوة الجارفة للحياة، جسدك ساكن ولذلك يتلاشى بلؤم، كل ما هو شخصيّ بيننا. لم تعد عاطفة هذه، أكثر بعض الشيء وتتفوّق على هياكل فيزيكية أمضت وقتاً لعيناً معك، وقتاً طويلاً صبوراً لتجهز على كل اغصانك.

نداء الحرية الآمر، وحّدنا في أقصى الصداقة، تاركاً لنا في آن، غياباً واسعاً، كما في نعاس التنويم المغناطيسي القسري. كلّ منا شعر بالعذاب على قدر بدنه، حمزة كان طحلباً طرياً، هُرس. نُهرسُ من أجل هذا الراسب المُضبب للحرية، لغة الأبدية البسيطة التي توحّد البشر كلهم. 3حين في المنام، تقتحم نومي مرتعشاً:’يجب على المرء ان يرغب الحرية حتى النهاية’! أكرّر ما تقوله لي مُشجعة، لكن قلبي يرتجف بقوة. حينما تحّلُ في حلمي ينتفخ نومي بك. حضورك هادىء مثل مرهم على جرح، وآن أريد ان ألمسك، أن أحتفظ بك حياً، تروح تتفسّخ وتبتعد، شأن اسطورة صغيرة. حمزة، كل شيء في موتك قد تحقّق مع ذلك، وأنا في هذا الضلال المصيري أتقلّب ما بين الإهانة والألم.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى