صفحات المستقبل

حوار..؟


لم يكن رفض لجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر سميرأميس وهيئة التنسيق الوطني للدعوة لجلسة حوار العاشر من الشهر الجاري مفاجئاً، فموقف كلا الجهتين واضحٌ بخصوص أن أيّ حوارٍ لن يتم طالما لا توجد أرضيّة كافية بالحد الأدنى تضمن أﻻ يكون تضييعاً للوقت (أو كسباً له.. حسب المنظور الآخر). وسائل الإعلام أشارت إلى أن الجلسة الحوارية ستتم حتّى بغياب هاتين الجهتين . ﻻ نعلم مَن سيحاور مَن و عن ماذا.

لقد تجاوزنا زمن الإجراءات الترقيعيّة والإعلامية (الإعلانيّة)، ولم تعد أنصاف وأرباع الحلول والتعديلات القانونيّة و الدستوريّة المحدودة (بغض النظر عن جدّية طرح تعديلها بشكل فعلي) نافعة حتّى لكسب الوقت لمن يريد أن يكسبه. ربما سيتواجد من يجلس للحوار بعد يومين، وهذا شأنه و خياره، لكن التساؤل حول جدوى هذا الخيار مشروع، بل ومطلوب.

هناك شطرٌ كبير من المجتمع السوري قد تجاوز منذ مدّة، نفسياً و فكرياً، نقطة اللاعودة و القطيعة مع خمسة عقود مضت من سكون الرّعب. واستمرار القمع و الملاحقة و خطاب الإلغاء والتخوين طيلة فترة اﻻحتجاجات الشعبية جعل البحث عن مصالحات مع هذا الماضي مستحيلاً. حتّى أشد الخطابات انحيازاً للسلطة ﻻ تجرؤ على نفي أن ثمّة قطيعة مع الماضي يجب أن تتم. لكن القول كثير و الفعل شبه معدوم والثقة غائبة، غائبة تماماً. ربما تكون معتقلة هي الأخرى بجانب المئات أو الآلاف من مواطني و مواطنات سوريا.

ﻻ أحد من حاملي أدنى حسّ إنساني ووطني يريد مزيداً من الدماء، فقطرة دمٍ واحدة هي طعنة ألم خانق، فما بالنا بدماء أكثر من ألف و خمسمئة شهيدٍ بين مدنيّ و عسكري و آلاف الجرحى؟ نرفض بشكل كامل وقاطع وبأعلى صوت تدويل قضيتنا الوطنيّة ونحتقر كلّ محاولات التسلّق على الأزمة، إن كان من قبل جهات إقليميّة أو دوليّة أو حتّى من قبل “تجّار شنطة” تافهين كهنري ليفي وأمثاله، لكن هذا ﻻ يعني أن علينا أن نعود إلى الصمت والسكون والسكوت على القمع والفساد وسوء الإدارة وانهيار الحالة اﻻقتصادية للطبقات الوسطى والفقيرة لصالح طبقة فاسدة ومتسلّطة ومستفيدة من “لَبرلة” اقتصاديّة ﻻ تختلف بشيء عن أسوء وصفات صندوق النقد الدّولي، حتّى لو شُتم هذا الأخير في الإعلام “الوطني” بوصفه أداةً امبرياليّة. نحنُ الآن في وسط أعمق أزمة وطنية تعيشها سوريا منذ استقلالها، وعلى من يريد لسوريا أن تخرج من هذه الأزمة أن يكون نزيهاً و جدياً وأﻻ يبحث عن صيغ ترقيعية و تأجيلية أو يلجأ إلى ابتزاز طالبي التغيير بأنهم “يدمرون البلد”، فخمسة عقود من الشمولية هي التي وصلت بالبلد إلى هنا وليس كسر الناس لرهبة المطالبة بمستقبل أفضل.

أزمتنا عميقة، وحلّها ﻻ يمكن إﻻ أن يكون على مستوى هذا العمق، وﻻ حلّ يجنّب سوريا دوّامة الخطر القاتل إﻻ الحلّ السياسي، لكن ليس أي حلّ سياسي، و قطعاً ﻻ ينفع الحلّ “الأمنى” المتنكّر بزيّ السياسي كما يحدث الآن. سوريا بحاجة لمؤتمر وطني عام يحمل طابع جمعية تأسيسيّة ذات صفة مؤسساتية ومقدرة على اتخاذ أعلى القرارات الوطنية دون سقف وصائي من أحد، وليس لجلسات متفرّقة “للمشاورة”، ولكي يكون هذا الحلّ السياسي ممكناً وفاعلاً يجب أن تتوفّر له أرضية تبدأ بالاعتراف بالأزمة الوطنية والإقرار بوجود قوى معارضة وطنية لها كلّ الحقّ في الوجود والممارسة السياسيّة ضمن نظام ديمقراطي تعدّدي يحتوي جميع أبناء هذا الوطن وليس فقط الموالين لسلطاته (أليس الترويج والدعم السلطوي لصناعة أعلام وطنيّة عملاقة، تُرفع في مسيرات “تأييد” يُقال عنها وسائل الإعلام الرسمية و شبه الرسمية أنها تنادي بـ “الوحدة الوطنية” رغم خطاب هذه الوسائل التخويني والإقصائي، اختطافاً للرمز الوطني يريد أن يوحي وكأن هؤﻻء “المؤيدين” هم فقط الوطنيّون وهم فقط من يحبّون الوطن ويريدون وحدته؟). هذا يقتضي وقف التعامل القمعي والأمني وإطلاق سراح المعتقلين ووقف التجييش التخويني الإلغائي وإنشاء هيئة مستقلة و كاملة الصلاحية للتحقيق في سقوط الشهداء والجرحى وكلّ أنواع التجاوزات، دون حدود لمستوى تحقيقاتها. كلّ هذه الأمور الأساسيّة لإنتاج حوار وطني ﻻ تحتاج لمشاورات لكي تتم، ووحدها السلطة قادرة على القيام بها، ولم تقم بها وﻻ توحي المعطيات على الأرض بجدّية رغبتها بالقيام بها، فرغم الأحاديث الوردية عن الحوار وضرورته في الإعلام يستمر العنف وتستمر اﻻعتقالات ويستمر القمع.. إلى متى؟! أﻻ يكفي؟!!

يجب أن ننادي و نعمل من أجل سوريا واحدة متماسكة وقويّة، ديمقراطية تعدّدية تضمن لجميع لمواطنيها الكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة والحرّية دون أي تمييز ديني أو عرقي أو جنسي أو سياسي، وذات دور مبدئي وجوهري في دعم قضايا التحرّر العربي وحق الشعوب العربيّة في مقاومة الاحتلال الصهيوني وهيمنة اﻻستابلشمنت الامبريالي من منطلق حرّية الإنسان التي ترسّخ حرّية الوطن وتضامنه مع حقوق وحرّيات الأشقاء. لم يعد البلد بوارد احتمال مزيدٍ من المناورات والهروبات إلى الأمام أو الخلف أو التلطّي خلف أوراقٍ مخلوطة بقصد التمييع و التضييع. البلد بحاجة لحلّ شامل. الآن.. و هنا!

إن قضيّة سوريا الوطن الحر ليست غاية تبرر وسائلاً إﻻ تلك المدنيّة و الديمقراطيّة و السلميّة، ولذلك يجب أن نرفض كلّ أشكال الحياد عن هذه المبادئ من عنف وتمييز وغيرها بكل قوّة، لكنها أيضاً ليست قضيّة مؤجلة، فقد تأخرت حتّى الآن بما فيه الكفاية، بل قد تأخرت كثيراً.

..

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى