صفحات الحوار

حوار شامل في الباحث والمفكر اللبناني جيلبير الأشقر

السلطة الفعلية اليوم في الشارع والثورات العربية في بداياتها

                                            منح صالون الكتاب الفرنكوفوني في ختام فعالياته الأخيرة في بيروت جائزة فينيكس للباحث اللبناني جيلبير الأشقر، استاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والافريقية في جامعة لندن، ورئيس مركز الدراسات الفلسطينية في المعهد.

ينكب جيلبيرر الأشقر على أبحاث معمقة ويساهم مساهمة مهمة وبجهود حثيثة جداً في نقل صورة مهمة عن الفكر العربي المعاصر ويعتبر من المؤرخين العميقين جداً في فهم آلية الخطاب السياسي العربي والغربي بمقاربة منهجية وبحثية تقوم على بيانات وسرديات تاريخية مقارنة وفعالة في كل منحى من مناحي الأبحاث الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي يعتمدها.

صاحب كتاب “صدام الهمجيات” الذي نقل الى 13 لغة، وصاحب كتب “الشرق الملتهب” و “حرب 33 يوماً، و”السلطان الأخير” بالاشتراك مع نعوم تشومسكي” و “العرب والمحرقة النازية” و”الشعب يريد” (دار الساقي)

زار بيروت أخيراً في عداد 33 شخصية فكرية وأدبية وسياسية شاركت في افتتاح فعاليات معرض الكتاب الفرنكوفوني كانت مناسبة التقت فيها “المستقبل” الأشقر وسألته في طريقه تناوله الأحداث، في عنوان معرض الكتاب الفرنكوفوني “كتابات الآخرين” وفي نظرته الى التغيير الاجتماعي والسياسي المطلوب ان يتخطى الأزمة المزمنة في الواقع العربي المعاصر او الى رؤيته للدور الاميركي ومساعي التسوية السلمية العربية ـ الاسرائيلية في المنطقة.

الأشقر متابع لكل التحولات في المنطقة وما تشتمل عليه من نقاشات صعبة من مثل رأيه في النقاش الذي أثار جدلاً حول ما حدث في الثلاثين من يونيو في مصر هل هو ثورة ام انقلاب فيعتبر الاشقر ان النقاش هو نقاش خاطئ، فهو يفترض وجود تناقض مطلق بين الحالتين، في حين لم يكن هناك تناقض في الواقع بل جمعت الأمرين. يوم الثلاثين من حزيران، كان برأيه ثورة لغضب جماهيري كاسح على ممارسات الاخوان المسلمين خلال رئاسة مرسي وتعبيراً عن الديموقراطية الجذرية التي هي احدى نتائج الانتفاضة الاقليمية الكبرى التي بدأت عام 2011.

“كان موقفاً ديموقراطياً جذرياً، يتخطى الديموقراطية الشكلية الثابتة عالمياً والتي تقتصر فيها الارادة الشعبية على الادلاء بالأصوات يوم واحد كل اربع أو خمس سنوات بحسب البلد، بينما الديموقراطية الحقيقية لا بد من ان تتضمن حق الناخبين في اقالة من انتخبوه.

ويذهب ابعد جيلبير الاشقر في “اعتباره ان من يشعر ان الخمسينات قابلة للاعادة فهو واهم لأننا لسنا في العام 1952 ولا في العام 1954 حيث استطاع جمال عبد الناصر ان يحصل على شعبية هائلة بسبب ما قام به من انجازات كبيرة على الصعيد الاقتصادي ولا مجال لتكرار ذلك ابدا مع المؤسسة العسكرية.

وماذا عن مستقبل الاسلام السياسي والاخوان المسلمين

يقول الأشقر “اي سلطة تقوم في مصر لا تحمل برنامجاً للتغيير الاجتماعي والاقتصادي وتعيد انتاج السياسات القائمة ستفشل عاجلاً أم آجلاً وستواجه كلمة الجماهير، ساعتها سيستثمر الاخوان هذا الغضب الجماهيري في صالحهم وهذا ما يراهنون عليه”.

ثم ان الاخوان كتنظيم خيارهم هذا عدم اللجوء الى حمل السلاح ما خلا أوساط تكفيرية في سيناء، ولكن الجميع يتحرك ضمن حدود ضمنية سواء الجيش أو الاخوان، فلا الاخوان سيذهبون الى حمل السلاح ولا الجيش سيلجأ الى تصفية الجماعة. سيبقى الاخوان في انتظار الانفجار الشعبي المقبل. والمطلوب بروز قطب ثالث يجسد الشعار الذي رفع “لا فلول ولا اخوان.. لسه الثورة في الميدان”

أفكار جريئة وتقدمية يعبر عنها جيلبر الأشقر تعكس هموم المفكر والمؤرخ كجزء اساسي من التحولات الكبرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهنا اضاءات اخرى على هامش زيارته القصيرة الى العاصمة بيروت ومشاركته في فعاليات صالون الكتاب الفرنكوفوني.

[ كيف نظرت الى عنوان صالون الكتاب الفرنكوفوني “كتابات الآخرين”؟

ـ بصراحة لم التفت كثيرا الى العنوان، والعنوان يتعلق بالجانب الأدبي في المعرض، وما يخصني أكثر هو الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي اعمل عليه.

[ هل لمست تبدلاً ما في زيارتك الحالية لبيروت؟

ـ أزور بيروت كل شهرين تقريباً وهي مدينتي، كلا لم تتبدل بيروت منذ شهرين ولم تتبدل على مستوى الأمور الأساسية.

بيروت الحالية مختلفة جداً عن بيروت ما قبل الحرب وعمري كاف لأقيم اي تغيير مهم على المستويات كافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأني عشت المراحل كلها.

[ تركز في أبحاثك العميقة كمؤرخ على الابعاد الاقتصادية والاجتماعية وتقدم تحليلاً ملموساً للقوى الاجتماعية المنخرطة في احداث المنطقة والمتعلقة بمسائل الفقر واللامساواة واللااستقرار الاجتماعي، في ظل أنظمة تعتمد الاستبداد والمحسوبية اسلوبا اساسياً للسلطة وبالتالي الاشكالية هل يمكن بناء ديموقراطيات بمعزل عن التنمية.

ـ موضوع التنمية هو اساس المشكلة وهو كبير، وجرى تجاهله في الانتفاضات العربية التي بدأت العام 2011 بالانتشار في عموم المنطقة العربية، وجذور هذه الأحداث والانتفاضات ليست سياسية بالدرجة الأولى. طابعها البارز كان الطابع السياسي، كاي انتفاضات تواجه السلطة. لكن جذورها العميقة الاقتصادية والاجتماعية هي التي ادت الى الانفجارات وهو ما اسمتيه في كتابي “الشعب يريد” “التنمية المعاقة”. نحن نشهد في المنطقة منذ عام 2011 “حقبة من الثورة الاجتماعية” ناتجة عن انسداد في تطور القوى المنتجة يعود الى عوامل مشتركة بين بلدان المنطقة وقاصرة عليها. على نحو يمكن مقارنته بموجة الصدمة الأوروبية الشرقية في سنوات الثمانينات. بيد ان هذا الفوران لم يحمل معه ـ حتى الآن على الاقل ـ تغييراً جذرياً في نمط الانتاج، وظاهرياً، لا تلوح في الافق السيرورة الثورية الجارية في الفضاء الناطق بالعربية، اي شيء مماثل بالعمق للتحول الكبير الذي انتهى الى ادماج البلدان المسماة “شيوعية” في الراسمالية المعولمة (…) هذه “التنمية المعاقة التي ميزت المنطقة العربية منذ عشرات السنين، مقارنة بدول أخرى وبمناطق في افريقيا وآسيا، سائر مناطق افريقيا ـ المنطقة العربية عندها بشكل خاص تأخر بمعدلات النمو الاقتصادي وبتباطؤ شديد بالنمو، ادى الى البطالة المستشرية حيث تسجل المنطقة أعلى معدل نسبة بطالة عالمياً.

طاقة انفجارية

منذ عشرات السنين والمسألتان مرتبطتان: اكثر معدلات نمو انخفاضاً وأعلى معدلات من البطالة، هذا هو صلب المشكلة الحقيقية الذي ولد اسمه عن الأوضاع القائمة وراينا تراكماً لطاقة انفجارية في بعض البلدان التي للناس مجال للتعبير عن الراي فيها ما أدى الى تصاعد اضطرابات عالية كما في حالة مصر. منذ اواسط العقد الماضي 2005 ـ 2006 رأينا تصاعداً واضحاً للانفجارات مما مهد للانفجار الكبير. كلنا تعلم درساً مهماً في الربيع العربي.

فرغم ان الارقام الاقتصادية الاساسية ـ للنمو على سبيل المثال ـ كانت تبدو جيدة في الغالب، فان عدداً كبيراً من المواطنين لم يلمس أي تحسن. هذا على الرغم من تقييم صندوق النقد الدولي للأداء الاقتصادي في حالة مصر (2007) حيث وصفه الصندوق بأنه “قصة نجاح صاعدة” تعود الى الاصلاحات المدخلة سنة 2004 باتجاه تشجيع القطاع الخاص على ان يصبح محرك النمو المولد للتشغيل.. وقد احتاج الأمر الى اندلاع الانتفاضة العربية لكي ينبه الصندوق بلسان مديرته كريستين لاغارد، الى حقيقة عادية جداً للغاية. وبديهية في نظر اي شخص. اتحدث عن صندوق النقد الدولي فأقول إننا نبهنا بالتأكيد الى القنبلة الموقوتة التي تمثلها البطالة المرتفعة بين شباب المنطقة، ولكننا لم نتوقع كل العواقب التي ترسبت على عدم المساواة في توزيع الفرص، وبصراحة لم نتنبه بالقدر الكافي الى الكيفية التي توزع بها ثمار النمو الاقتصادي. أما لاآن فقد بات أوضح بكثير ان المجتمعات كلما اصبحت اكثر مساواة زاد فيها الاستقرار الاقتصادي وتعزز النمو المستمر.

… والديموقراطية

[ إذاً هل الديموقراطية هي مسار تنموي ناجح وليست سبباً؟

ـ الديموقراطية مرتبطة بالموضوع، تنمية المجتمعات تؤدي عاجلاً إلى المطالبة بالديموقراطية في حين التنمية الفاشلة تؤدي الى انفجار النقمة “الشعب يريد”. كان لهذا الاعلان ولا يزال وجود طاغ في الانتفاضة الطويلة الأجل التي تهز الفضاء العربي منذ استهلال المشهد التونسي في سيدي بوزيد في 17 كانون الأول 2010. وقد جرى تعريفه وفق كل الصيغ والنبرات تعبيراً عن مطالبات شتى ومتنوعة، ذلك الافتتاح الذي يعد السمة الأولى لكل انتفاضة ديموقراطية، فخلافاً للإعلانات الصادرة عن جمعيات من الممثلين مثل “نحن الشعب” في ديباجة دستور الولايات المتحدة الأميركية، فإن إرادة الشعب يجري التعبير عنها هنا بلا وسيط، إذ تهتف بها ملء الحناجر جماهير غفيرة مثل تلك التي رأيناها محتشدة في ميادين تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وغيرها من البلدان. ومع ذلك فإن استخدام اسم “الثورة” وصفاً للفوران الجاري كان ولا يزال موضع نقاش حار وتنازع، حتى في الحالات التي نجحت في التخلص من الطاغية الذي كان يقهر الشعب.. واقع الحال أن العالم شهد تحولات بهذا الاتجاه المنطقة العربية لها ميزة خاصة.

السلطات الاستبدادية

منطقتنا تشهد أرقاماً قياسية في التمركز العالمي لسلطات استبدادية بعد زوال الديكتاتوريات من منطقة الى منطقة أخرى في العالم. السلطات الاستبدادية بقيت في منطقتنا العربية وسبق ورأينا نهاية الثمانينات كيف سقطت الأنظمة الديكتاتورية في أوروبا الشرقية وهي موجة ديموقراطية طالت أميركا الجنوبية. لا يمكن أن يشكل الاستبداد في حد ذاته السبب الكامن لاندلاع الثورة الديموقراطية بنجاح، وإلا كيف نفسر لحظة انتصار الموجة الثورية التي انطلقت من تونس الى جموع الفضاء الناطق بالعربية، لماذا 2011 بعد عقود من الاستبداد في المنطقة العربية؟ لماذا 1789 في فرنسا بعد تاريخ طويل من الحكم المطلق والتمردات الفلاحية؟ لماذا 1989 في أوروبا الشرقية وليس 1953 1956؟ إنما يدل هذا على وجود أسباب أعمق من مجرد البعد السياسي، وهذا يعني أيضاً أن تغيرات جذرية لا تزال في الطريق وأنها ستقود على أقل تقدير الى مشاهد أخرى من الثورة والثورة المضادة في البلدان التي شهدت انتفاضات كما في البلدان الأخرى. في نهاية المطاف على اعتبار 14 يوليو/ تموز 1789 اليوم الذي بدأت فيه الثورة الفرنسية، فلا يزال الجدال محتدماً بشأن سنة انتهائها 1779، 1830، 1851 أو حتى 1870، 1875 والثورة العربية من المرجح أن تستمر لسنوات طويلة مقبلة.

المستغرب كان أن لا تحدث هذه الانتفاضات حتى في إفريقيا جنوب الصحراء صارت الأمور أكثر تقدماً في المنطقة العربية حيث تمركز السلطات الاستبدادية والسلطات المطلقة لغاية الانفجار والانفجار هو انفجار على الواقع.

[ إذاً لماذا يجري كل الحديث اليوم من ناحيتين: الشعارات الديموقراطية في الانتفاضات العربية ولماذا أكثر الأبحاث في هذا الجانب الديموقراطي الى الجانب الثاني الأكثر سطوعاً هو الموقف من الإسلام المتشدد تجاه المعتدلين في المنطقة العربية؟

ـ هي النظرة الانطباعية تسيطر عبر الطاغي على السطح، والطاغي هو الجانب السياسي المتمثل بالشعارات الديموقراطية من جهة، والتيارات الدينية المتشددة والناطقة باسم الدين من جهة ثانية. هذه ظواهر حقيقية وعناصر مهمة في هذا الوضع المعقد جداً. لكن نحن معتادون من الناحية المهنية والعلمية والمنهجية البحثية على النظر الى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، والمهتمون مثلنا لهذه الجوانب أدركوا منذ عشرات السنين جذور المشكلة، وحدثت أن تفاقمت المشكلة قبل عقدين أو ثلاثة عقود وبتصاعد مستمر بحيث تراكمت طاقة انفجارية عبرت عنها أحداث هنا وهناك مكبوتة نتيجة طبيعة الأنظمة. هذه الطاقة شهدت نمو تيارات استغلت الدين كلافتة مناسبة للتعبير عن النقمة وذلك على خلفية تاريخ سياسي تميز بانحسار موجة القومية العربية (الخمسينات والستينات) وتراجع اليسار بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

هذه سرديات تاريخية خلت معها الساحة من قوى سياسية قادرة على التعبير بصورة ديموقراطية عن هذه النقمة الجماهيرية. الذي بقي على الساحة هي تستغل الدين وهذه قوى لها ماض من حيث أنها كانت هي الأداة الرئيسية في مواجهة “التيار القومي العربي كحركة المسلمين (الخمسينات والستينات) وتيار ساهمت دول عربية مهمة حينها ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة التيار الناصري والتجذر اليساري والمتسع.

لما جرى الانحدار في عمل التيارات الأخرى، كانت القوى الوحيدة الباقية في الساحة لا سيما وأنها لم تجرب هي القوى الإسلامية المتشددة، وكان من السهل عليها من خلال الاستعداد الديماغوجي للدين التعبير عن السخط الجماهيري، وبالتأكيد الدين قوي وله جاذبية مرشحة منذ قرون عديدة وكل من يود استقلال هذه الأيديولوجيا أمامه حق مفتوح.

وما فاقم المشكلة أكثر انعطافة السبعينات التي أدت الى استقرار أنظمة الحكم الفردي بعد عدم الاستقرار الشديد الذي اتسمت به العقود السابقة، فالقذافي بقي في السلطة على مدى 42 عاماً، والرئيس حسني مبارك 30 عاماً حتى عام 2011، وحكم حافظ الأسد لمدة 30 عاماً حتى وفاته سنة 2000، ولم تنزع سلطة صدام حسين سوى بواسطة غزو قادته الولايات المتحدة الأميركية في 2003، أي بعد 35 عاماً وظل علي عبدالله صالح 34 عاماً في السلطة، واستولى بن علي السلطة العام 1987 واحتفظ بها 24 عاماً.. رافق ذلك تطور في أغلب الحالات نحو النظام النيوميراثي بشكل متزايد في ظل الحكم الفردي مع وجود استثناء من الجزائر.. هذا المزيج في النمطية السياسية والخصوصية نمط الإنتاج ومزيد من النظام الوراثي والمحسوبية والرأسمالية، رأسمالية المحاسيب ونهب الممتلكات العامة والتضخم البيروقراطي والفساد وهزالة سيادة القانون. هذا شكل كله السلسلة التي انكسرت في كانون الأول 2010 في تونس، دافعة بقية الحلقات الى الانكسار بدورها، الواحدة تلو الأخرى. قد نستخلص ضرورة تجمع القوى الديموقراطية من أجل فرض تغييرات أساسية، ومن جهة أخرى لا يمكن إرساء الديموقراطية وتعزيزها من دون تنمية حقيقية. وتعزيز الحريات والديموقراطية بشكل مستدام لا يستمر أيضاً من خلال تغيير متفق عليه لا مع الحركات الدينية المتشددة ولا مع جزء من الطبقات الحاكمة، وهو أكثر توهماً بكثير في العالم العربي مما كان عليه في ما مضى من عهد الملكيات المطلقة الأوروبية، أو حديثاً من عهد الديكتاتوريات البيروقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية. أما موضوع صعود الأصولية الإسلامية على امتداد المنطقة، فالأمر الأول الذي ينبغي الإشارة إليه هو أنه ليس في الأمر ما يثير الدهشة وأولئك الذين يتخيلون أنهم برهنوا على قدرة تنبؤية عبر “توقع” أن القوى الإسلامية ستكون المستفيد الأكبر من الانتفاضة العربية لم يفعلوا في واقع الأمر سوى اكتشاف المكشوف والمشهور. والواقع أن أغلب مراقبي المنطقة توقعوا منذ عقود عدة أن القوى الإسلامية المناضلة سوف تكون لها اليد الطولى في حالة وقوع انفجار سياسي. بل إن هذا التوقع كان الحجة الرئيسة للحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في تبرير تواطئها مع الحكومات الاستبدادية في المنطقة.

العولمة

[ هنا السؤال يطرح نفسه في ظل العولمة وللخروج من المأزق ألا يطرح الأمر تعاوناً مشتركاً بين ضفتي المتوسط للخروج من المأزق المشترك ولمعالجة قضايا عابرة للحدود سياسية واجتماعية واقتصاية وأمنية؟

ـ التعاون ضروري في جميع الأحوال بين ضفتي المتوسط وعلى نطاق عالمي. لكن أي تعاون؟

الدول الغربية لها مسؤولية مباشرة بما فيها أوروبا، لها مسؤولية من الوصول الى الحالة التي وصلنا لها، مسؤولية تاريخية عن البنية الأولية بما وصلت إليه. سواء عبر الاستعمار في المنطقة، ومسؤوليتها بخلق نوع من التجزئة وتحويل جزء من موارد المنطقة النفطية لصالح الاقتصاديات الغربية الأوروبية والأميركية. أكثر من ذلك الدول الغربية كان لها دور مباشر ولا تزال في تعزيز السلطات الاستبدادية كضمان لاستقرار مصالحها في المنطقة ويتخيل الرأي العام الغربي بسهولة مفرطة أنه لا يوجد بديل عن الإسلام السياسي في البلدان المعنية، والخوف من الوقوع في فخاخ رهاب الإسلام يدعو الناس بسهولة الى قبول “البديل التعس” وهو ليس ببديل والحجة التي يطرحها كم كبير من المؤلف: المنشورة في بريطانيا والولايات المتحدة تزعم أن “أسلمة السلطة والمجتمع” والمقصود هنا هو النموذج الإيراني ليست متناقضة مع التقدم بالإشارة الى ارتفاع سن زواج الفتيات من إيران، ودخول النساء الى العمل، وتراجع الأمية ووفيات الأطفال، وازدياد عدد الطلبة، والحال أن هذه الأمور نجدها في كل مكان، نجدها في مصر مثلاً، وهي ترجمة لواقع لا يمكن لأي مجتمع أن يتملص من متطلبات “تطور العالم الحديث” وبرأيي أن المعركة من أجل العلمانية في العالم الإسلامي كما في غيره تمثل شرطاً لإمكانية تحقيق تقدم اجتماعي وديموقراطي، تلك الإمكانية اتي تمثل بدورها شرطاً لتطور مستدام للأمم والشعوب المعنية.

التعاون بين ضفتي أمر ضروري جداً ولن يصبح قادراً على دفعنا الى الأمام إلاحين نتبدل نحن وحين تتبدل نوايا الضفة الأخرى. ومثلما كانت الانتفاضة العربية مصدر إلهام لنضالات الشباب والعمال في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة الأميركية فإن تطورها سوف يتأثر بمصير النضالات الجارية في أوروبا المجاورة ضد محاولات حل الأزمة الحادة للنيوليبرالية على حساب الشعوب العاملة. والانتصارات في إحدى المعارك ستؤثر حتماً على الأخرى في زمن الاتصالات والمعلومات، وإحدى أشد الوصفات النيوليبرالية فجاجة هي التي تأتي في سياق من الديكتاتورية “ذات المرجعية الإسلامية”.

والقضية الفلسطينية

[ بالحديث عن الولايات المتحدة الأميركية، هل يمكن الرهان على دور ما لا تزال الإدارة الأميركية تملكه لإنجاز تسوية كبرى عربية إسرائيلية فيما يخص مسألة القضية الفلسطينية ومسألة الدولتين، أم أن الأمور خارج السيطرة؟

ـ نحن أمام نوع من العجز المتصاعد للولايات المتحدة الأميركية وبموضوع إسرائيل بشكل خاص لا شك أن أميركا تملك القدرة على الضغط عليها لو كان لديها الرغبة، وهي الوحيدة القادرة على إجبار إسرائيل لتقديم ما يتطلبه الأمر من تنازلات من أجل صيغة سلمية معقولة للشعب الفلسطيني والمنطقة العربية. ليس هناك من مبادرة في هذا الاتجاه والأمر تفاقم أو متفاقم لا سيما أن النفوذ الأميركي يعيد كارثة العراق يمثل كارثة لمشروع الهيمنة الأميركية. أميركا في موقع ضعف في المنطقة لا مثيل له.

علينا أن لا نتأمل كثيراً لا سيما مع وجود سلطة يمينية في إسرائيل وأكثر الأمور تذهب من تطرف يميني، الى تطرف يميني، والحكومة الحالية في إسرائيل غير مستعدة على الإطلاق لأي خطوة فعلية نحو سلام فعلي، بالعكس هي تنظر الى أفق ضم الأراضي وطرح الفلسطينيين من جديد، أكثر من أي تنازل فعلي لإنجاز تسوية سلمية عادلة بالحد الأدنى.

[ والخلاصة لهذه الثورة الاجتماعية.

ـ في الوقت الحاضر، يتمثل الإنجاز الرئيسي للانتفاضة العربية من أن شعوب المنطقة تعلمت أن تريد، وهو ليس بالأمر الهيّن. تعلّمت الشعوب أن تعبّر عن إرادتها الديموقراطية بأكثر الطرق جذرية. ليس فقط عبر صناديق الاقتراع في مواعيد تحددها السلطة القائمة، ولكن أيضاً في الشارع كما أرادوا. وقد تعلّم العمّال والعاطلون عن العمل والطلاب في المنطقة العربية أن “السلطة في الشارع” وأن هذه السلطة مكمل ومصحح لا غنى عنه لتلك التي تنبع من صناديق الاقتراع، حتى حينما لا يكون الاقتراع مزوراً. الانتفاضة العربية ليست سوى في بداياتها و”المستقبل يدوم طويلاً” كتب الجنرال ديغول في مذكراته خلال الحرب، إنه لتعبير جميل عن الأمل.. لكن هذا ليس كافياً.

إن وجهي الإله يانوس في الميثولوجيا الرومانسية ينظران في اتجاهين مختلفين: وجه ينظر الى المستقبل والآخر ينظر الى الماضي. ولا يمكن الفصل بينهما. وهذه طريقة للاعتراف بحقيقة أنه من غير الممكن التطلع الى مستقبل سلمي في المنطقة من دون تسوية الحسابات مع الماضي واستيعاب دروسه. يجب على العالم أن يعترف بما حل بالشعب الفلسطيني كأنما يعترف بما حل وليس أقل هولاً بالمحرقة اليهودية.. والاعتراف بالمسؤولية عن “المحرقة” وعن “النكبة” لا بد له من أن يزيد تقارب خطابات الأطراف كلها بشأن كل من المسألتين، وبات من الملح أن توصد الأبواب المفتوحة على الحرب الى الأبد في منطقة الشرق الأوسط، الأبواب المفتوحة على مصاريعها لأكثر من ستين عاماً.

يقظان التقي

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى