صفحات العالم

حوار مع اليد الدموية والغادرة؟

 


وضاح شرارة

بينما كان نحو 200 معارض (ومعارضة طبعاً) سوري وسجين سابق في معتقلات النظام الاسدي وصاحب رأي يلتقون في فندق سميراميس بدمشق، في 27 حزيران، عقدت “هيئة الحوار الوطني” وأعضاؤها التسعة في رئاسة فاروق الشرع، نائب الرئيس، اجتماعاً آخر في مقر من المقرات الحكومية.

وفي أثناء الاجتماعين المتواقتين عمداً، والتعمد عملياً هو في يد السلطات ووسيلة من وسائلها الى دمغ اللقاء المعارض بمعنى تتوخى فرضه عليه في الاثناء استقبل رأس النظام نائباً أميركياً ديموقراطياً هو دينيس كوسيتيتش وآخر بريطانياً محافظاً هو بروكس نيومارك. ونوه بيان رئاسي بزيارة النائبين، وتذرع بهما الى تجديد مزاعمه في سياسته وأغراضه، والى الايهام بأن الزيارتين الفرديتين هما مرآة انعطاف سياسي وايذان بـ”مفاوضة” جانبية، على ما أوحى مساعد وزير الخارجية السوري الى بوق صحافي لبناني من أبواق الخدمة الكثيرة.

وأرادت بثينة شعبان، الاعلامية الاعلانية، الايحاء بأن تواقت اجتماعي بعض المعارضين وأصحاب الرأي و”هيئة الحوار الوطني” (المزعومين) دلالة عميقة ذهب صحافيون “مأذونون” ومجازون، إجازتُهم من مخدومهم، الى أن لقاء بعض المعارضين العلني معناه “الحوار ينطلق”. وهو “الحوار” الذي ينسبه رأس الجهاز الامني العشائري الى نفسه وجهازه. فيزعم أن “الحوار الوطني بات عنوان المرحلة الحالية” وهي مرحلة ابتدأتها كتابة أولاد درعا على جدرانها “الشعب يريد اسقاط النظام”. واستأنفتها، فصلاً بعد فصل، تظاهرات المدن والارياف والدساكر والحارات، والتظاهرات في النهار والليل على رغم الحصار والتجويع وقصف الترويع الميداني والاعتقالات الجماعية والقناصة المتربصين والمروحيات المحومة في سماء محافظة ادلب والمتعقبة الهاربين الى الملجأ والمنفى التركي.

ويغفل التوازي الظاهر والمتعمد، بإراداة وتخطيط بوليسيين ومسرحيين، العنصر الجوهري والثابت وهو دوام حملة الاعتقالات الجماعية في جسر الشغور والقرى التي تحوطها و”فرار أهلها الى الاراضي التركية”. وطاولت الاعتقالات، في اليوم العتيد إياه، 400 طالب بمدينة حلب الجامعية، “أحيلوا الى القضاء” (بعد التحقيق “الطاحن” معهم، على قول حسن نصرالله في عنجر، أم قبله؟)، وتهمتهم هي “الشغب وتحقير رئيس الدولة”. والى الطلاب الـ400، أحصى جمال صائب، وهو معارض نزح الى تركيا، 500 معتقل آخر شحنوا في شاحنات عسكرية الى جسر الشغور، قبيل بلوغ صحافيي الجولة الاعلامية والديبلوماسية المدبرة البلدة، وحملوا على “تمثيل” أدوار الاهالي النازحين والهاربين، وملء المدينة الخالية والمقفرة بأشباه أهلها. وهو انجاز مسرحي وبوليسي آخر في سجل بيروقراطية أمنية وبوليسية تقرن العنف المتمادي بـ”المساخر”، على ما سمى بعض الكتاب العرب المسرح المملوكي.

فهذا اللقاء الدمشقي لبعض معارضي الرأي والقلم والموقف وهم يجمعون مدد اعتقال تفوق عمر مدينة دمشق (نحو 3 آلاف سنة) -، أهو من تدبير المسرح البوليسي، ويعود عليه برداً وسلاماً وتسويغاً؟ وانقاد اليه “مثقفون” سذج لا يدرون ما يفعلون ويستحقون لوم تنسيقيات المتظاهرين على غفلتهم وحسن نيتهم؟ أم هو انجاز انتزعه المعارضون، ويعود إفضاله الى المتظاهرين والمعتقلين والنازحين، والى الجرحى المكتومين الذين لا يحصون عدداً، والى الورود الراعفة التي تفتحت في الحدائق السورية وتربتها الملونة والمخططة كأجنحة العصافير بالمطر، على قول ناديا تويني حمادة؟

والكلام في لقاء سميراميس بدمشق، والداعي الى تحفظ اتحاد تنسيقيات الثورة السورية عن “عقده تحت مظلة النظام” (“… وذلك من دون تخوين لأي من الاشخاص الحضور فيه”، على قول البيان مستدركاً ومتمماً)، هو كلام في ملابسات الانعقاد الذي تحكم فيه الجهاز البوليسي والعصبي. والملابسات هي الانعقاد ومكانه وعلانيته، ومن باب آخر بعض الغائبين ربما. وليس كلاماً في الحاضرين، وهم فوق الشبهة. ولا كلاماً في تقارير المناقشة والبيان الختامي والعهد الذي تعهده المشاركون وأخذوه على أنفسهم. وهذا ما لم يعب عليه اتحاد التنسيقيات غير صدوره عن اللقاء، أي عن ملابسات حصوله والتئامه.

وعلى نحو ما يستجيب اللقاء، أي ملابسات انعقاده، بعض دواعي الجهاز البوليسي والعصبي السياسية والمسرحية، يستجيب بيان اتحاد التنسيقيات الدواعي نفسها على وجهها أو مقلبها الآخر. فالبيان يقصد تبديد معنى (وهو ابتداء “الحوار” المزعوم الذي اضطرت السلطة الى اللغو به) يلوح الجهاز الاسدي به بينما هو يمضي على بث الترويع والقتل والارهاب والكذب في البلاد والناس. وتبديد هذا المعنى هو ما تولاه اللقاء في أعماله نفسها، وتولاه أصحابه وعاقدوه في أنفسهم، وهم ليسوا محل تشكيك التنسيقيات ولا تجريحها. ويبطل اللقاء معنى ابتداء “الحوار” المزعوم الذي تريد الخطب الرسمية حمله عليه، من طريق أخرى هي الانعقاد نفسه.

فلم يكن للقاء معارضين لم يتستروا على رأيهم في الاستبداد الاسدي وقايضوا الرأي المعلن والصريح أعوام اعتقال- أن يحصل قبل تظاهرات الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية، وثباتها وتعاظمها وتوسعها. والجهاز البوليسي العشائري والعصبي حين يجيز لقاء معتقليه السابقين، ومعارضيه المنددين بتسلطه واستيلائه ومصادرته المجتمع وجماعاته على حقوق أفراده الانسانية والمدنية والسياسية، هذا الجهاز انما ينصاع مرغماً وضعيفاً لميزان قوى جديد نشأ عن حركة السوريين الوطنية والمدنية. وفي وسع الحركة الوطنية والمدنية هذه ان ترى الى انعقاد اللقاء نصراً متواضعاً (قياساً على قيامها) وفرعياً أحرزته على سلطان جائر ومتناقض يفزع الى المراوغة والمسرحة ستراً لضعفه وكذبه وعماه.

ولكن الخلاف بين بعض المعارضين وبين اتحاد التنسيقيات لا يقتصر على وجوه تأويل الواقعة ومحلها من علاقة الحركة الوطنية المدنية بالجهاز المتسلط. فهو يتناول كذلك مسألتين رئيسيتين: الاولى هي ميزان القوى والمشارب داخل الحركة. وتتناول الثانية مسالك الخروج من الازمة السياسية العامة التي افتتحتها الحركة، وزج تكالب الجهاز البوليسي والعشائري الدولة والمجتمع السوريين فيها من غير احتساب طريق عودة. فقوى الحركة الوطنية المدنية ليست متجانسة ولا متناغمة. وهي مولودة من مخاضات وسياقات متفرقة، لم يتح القمع والشرذمة والتحجير والتحجر على الفروق والاختبارات، التأليف بينها. فيبدو بعضها (المدني “الخالص”) متحفظاً عن بعضها الآخر (الأهلي “الاسلامي”).

ويبدو الجناح الآخر، إذا صدق تبويب أو فرز الحركة المختلطة، مستلهماً ماضياً دامياً لم يصب الجناح المدني على نحو ما أصابه هو. وكلام الجناح الاهلي و”الاسلامي”، وهو الغالب على التظاهرات والتنسيقيات، على النظام المستولي وعنفه ومراوغته لا يقصد به حاضر النظام وحده. وهو يندد بماض يحسب الجناح الاهلي، على ما يفهم من بعض ألسنته، أنه لا يتقاسمه وسائر السوريين، مدنيين ومتعلمين ويساريين وناصريين على هذا القدر أو ذاك، قسمة عادلة. فهو يرى أنه هو الاجدر بحماية الامانة وتعهدها. وقد يحسب أن هذا يخوله “حصة” تفوق حصة غيره من الحركة.

وتتقدم مسألة الخروج من الازمة العامة المسألة الاولى، وهما متصلتان. فقد يحسب الجناح الاهلي أن تصدع النظام وانهياره يتوجان الازمة تلقائياً، وهما مفتاح حلها “الطبيعي” وتصفية ذيولها من غير بقية. والحسبان هذا، الى تفاؤله المفرط، يغفل عن أثمان التصدع والانهيار الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية الباهظة. ووحدها “قيادة” الجهاز البوليسي والعصبي يسعها، في ضوء التاريخ الفظيع الذي خلفته هذه القيادة في سوريا وفلسطين ولبنان، استخفاف الاثمان هذه. فالتصديع والانهيار، إذا لم تتدارك مخلفاتهما المدمرة والانتحارية جسورٌ ووصلات وقناطر تسوغ اختيار انصار الجهاز الباقين، قلوا أو كثروا، تكلفة أقل دماراً، تصورا في صورة المخرج الاضطراري والشمشوني. وهذا ما تريد “قيادة” الجهاز اقناع السوريين، والعالم أجمعين وفيهم المجتمع الدولي، به.

والحق أن اشتراطات لقاء المعارضين بدمشق على السلطة المستولية (الكف عن العنف والنار والقمع، والاقرار بالتظاهر من غير ترخيص، والاعتراف بالكيانات الحزبية والجمعيات القائمة من غير قيد ولا شرط، وإلغاء المواد “الفرعونية” من “الدستور”…) مقدمة لقبول الحوار، هذه الاشتراطات يترتب عليها نتائج سياسية كفيلة بإطاحة الجهاز من أركانه. فإذا عجز القمع الدموي والغادر عن ثني المتظاهرين عن التظاهر، فما هي حال التظاهر والمتظاهرين إذا ارتفع سيف القمع المرسل وغير المقيد عن الاعناق والصدور؟ وإذا أمسكت “قيادة” الجهاز المستولي عن المضي على تلبية شروط الحوار، وعمدت الى اسكات من أغضت عن لقائهم، كشفت عن كذبها، وفضحت ما تشتري به انتظار بعض القوى المحلية والاقليمية والدولية وترددها. وثبتت قذافيتها. وحقَّ إذ ذاك إنقاذ السوريين وسوريا من “قيادة” المَقاتل والحروب الاهلية والمعتقلات كلاً وجميعاً.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى