صفحات العالم

حول بعض ملامح العلاقة بين الداخل السوري والخارج


حسن شامي

تحفل التصريحات السورية الرسمية، الزاعمة تقديم مخارج للأزمة الوطنية العميقة، بصياغات مراوغة لا يعرف فيها إذا كانت العصا عصا والجزرة جزرة. إلى ذلك هناك حرص واضح على التلويح بشيئين يفترض على الناظر أو المستمع إليهما أن يعتقد بلا كيف بأنهما عصا وجزرة. ثمة من يحسب صناعة هذا الالتباس فناً من فنون الغموض أو التمويه البناء. ويفهم من هذا أن تأجيل المكاشفة وما تفترضه من اعتراف بوجود أزمة فعلية يكاد يكون حتى الآن الوجهة الغالبة على تعاطي النظام الأمني مع الحراك الشعبي ومع اتساع الهوة بين «جماعة» السلطة و «جماعة» الشارع المنتفض.

التصريحات التي أدلى بها قبل أيام قليلة وزير الخارجية السوري وليد المعلم لا تشذ عن هذه القاعدة علماً أنها تناولت مسائل حساسة تتعلق بالسيادة الوطنية وباستقلالية الداخل السوري. فقد حملت في آن وجه التلويح بتصعيد في الاضطراب الديبلوماسي مع الولايات المتحدة وفرنسا، ووجه التطلع إلى تهدئة تأمل مراجعة حكومتي البلدين الغربيين لمواقفهما مما يجري في سورية. فعلى خلفية الزيارة التي قام بها قبل أسبوعين تقريباً سفيرا الولايات المتحدة وفرنسا إلى مدينة حماة، حذر الوزير السوري المعروف ببراعته في تدوير الزوايا السفيرين، روبرت فورد وأريك شيفالييه، من التجول خارج دمشق من دون إذن رسمي، موضحاً أنه سيتم فرض منع تجول عليهما في محيط يزيد على 25 كلم إذا رفضا الانصياع. هذا التحذير، ومعه التظاهرات الهجومية التي استهدفت سفارتي أميركا وفرنسا، من شأنه أن ينذر بأزمة ديبلوماسية. لكن المعلم الذي كان يتحدث في ندوة حوارية في جامعة دمشق، اعتبر أن عدم طرد السفيرين هو مؤشر الى «رغبتنا المستقبلية في علاقات أفضل مع فرنسا وأميركا»، مما يعني أن التحذير هو من قبيل التصعيد المحسوب.

أهمية هذا التصعيد المدروس تكمن في اندراجه في حقل العلاقة المضطربة بين الداخل والخارج، وفي التعويل على هذه العلاقة كمصدر لشرعية السلطة الحاكمة. وتأتي مسألة السيادة الوطنية في صدارة المسائل التي يحفل بها حقل العلاقات المتنوعة والمتبدلة بين داخل وخارج مفترضين. والحال أن هذه المسألة ترقى إلى العهد العثماني، خصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع تزايد الحاجة، لدى النخبة الإدارية العثمانية، إلى إصلاحات تحقق قدراً أكبر من المساواة بين رعايا السلطنة وإلى إدخال تجديدات على البناء الحقوقي للدولة عبر إشراك الولايات والملل في تمثيل يتزاوج فيه المحلي والترابي والوطني العثماني. وقد اعتبر الإصلاحيون ودعاة الحكم الدستوري، بالأحرى قسم كبير منهم، أن استكمال وتنفيذ ورشة «التنظيمات» من شأنهما أن يضعا حداً للتدخل الخارجي في شؤون الإمبراطورية التي أخذت تفقد ولاياتها وتضطرب أوصالها بفعل الفكرة القومية الحديثة. وكان السلطان عبد الحميد الثاني قد عثر على الصيغة التي تحفظ السيادة خصوصاً بعد أن خسرت السلطنة ممتلكاتها الأوروبية في البلقان وغيره. فعلق الدستور ونفى مدحت باشا وعطل مجالس التمثيل مستعيناً برمزية الخلافة الإسلامية وبأعوان سلطويين ومخبرين بحيث يستطيع أن يشرف بنفسه على سائر شؤون السلطنة، رابطاً مصيرها وسيادتها بشخصه وبما يمكن اعتباره بداية عهد استبدادي وبوليسي في المعنى الحديث نسبياً لهاتين الصفتين. الاستبداد هو ما يضمن السيادة. تلك هي المعادلة التي ورثها العسكريون المنقلبون على السلطان ثم توارثوها في إطار الدولة القومية التركية المحــروسة بالــعسكر حتى ثــمانيــنات الـقرن الماضي تقريباً.

يمكن القول إن المعادلة المشار إليها بقيت ماثلة، وإن في صيغ وقوالب مختلفة باختلاف التجارب وأشكال التنظيم الاجتماعي وتباين نظم الحكم بين ملكية وجمهورية. وقد نحت هذه المعادلة مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين منحى التعويل على التأييد الغربي باعتباره مصدراً لشرعية دولية تفوق من حيث الأهمية الشرعية الشعبية الداخلية. وشهدنا حالات كثيرة بدا فيها أنه كلما تزايدت الشرعية الدولية الممنوحة لسلطة عربية ما كلما تآكلت وضمرت شرعيتها الشعبية. وقد ارتضى الغرب عموماً هذه اللعبة مبرراً ذلك بقراءات ثقافوية لا يخفى وجهها النفعي والاستعمالي. وقد ظهر في شكل واضح نزوع السلطات العربية إلى مخاطبة الغرب أكثر بكثير من مخاطبتها للداخل الوطني مستندة إلى عصبية ما كقاعدة اجتماعية للنظام. وينطبق هذا وإن بطريقة ملتوية وحافلة بالتجاذبات على السلطة السورية. في هذا المعنى، يمكن القول إن الحراك الحالي أعاد الاعتبار للسماكة الداخلية للمجتمعات العربية. فقد يكون صحيحاً قول الوزير السوري إن «موقع سورية الجغرافي في قلب الشرق الأوسط ودورها الكبير في سياسات وتوازنات الوطن العربي والمنطقة عموماً، وكونها مجاورة لإسرائيل كل هذا يجعل من بلدنا هدفاً لمؤامرات خارجية…». على أن هذا التوصيف لا يعود ذا دلالة إذا لم يجد ترجمته في بنية حقوقية وسياسية تشمل كافة أطياف المجتمع وتدعوها إلى المشاركة في المسؤولية والمصير المشترك. وينسحب هذا المنطق على التفاتة المعلم إلى الداخل حيث شدد على التمسك بالوحدة الوطنية، معتبراً أن الحياة السياسية الجديدة تتطلب فعلاً أن تكون في سورية أحزاب، وأن يكون لها برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي، وستكون لها صحافة. ولذلك يجري الإعداد لقانون إعلام جديد وقانون انتخابات جديد. من الضروري بالطبع، أن تعمل هذه الأحزاب في ظل سقف الوطن وثوابته الوطنية «وأن تحرص على استقلاله ومنع التدخل الخارجي وتعزز الوحدة الوطنية». هنا أيضاً يطغى الطابع الإرشادي الذي يملي مستلزمات الحياة السياسية الجديدة، أي يصادرها.

فلنقل إنه ليس أمراً مفرحاً أن يزور السفير الأميركي حماة وأن يستقبله البعض بحفاوة. ومن المستبعد أن تحصل الزيارة من دون علم السلطات السورية. لا نعلم ما كانت حسابات السلطة عندما سمحت بجولة السفيرين. لكننا نعلم أن رد المتحدثة باسم الخارجية الأميركية على تحذيرات وليد المعلم لا يفرح السياديين ولا الوطنيين. فقد اعتبرت أن «هذه ليست تصرفات حكومة لا تخفي شيئاً»، موضحةً «بما أن الحكومة السورية ترفض السماح لوسائل الإعلام الدولية وأعضاء منظمات حقوق الإنسان بالعمل يجب أن يكون بمقدور الديبلوماسيين التجول في البلد من أجل رصد الوضع على الأرض». وهذا الرد غريب وصلف، فالديبلوماسيون يرصدون ما تعرفه من قبل حكومات بلادهم. هم ليسوا صحافيين ولا علماء اجتماع ميداني إذا افترضنا في هؤلاء النزاهة المطلوبة. لائحة الأكاذيب والتلفيقات في هذا الميدان طويلة، ولا تقتصر على حرب العراق. نتمنى أن يكون الرد أكثر احتكاماً إلى السيادة الشعبية منه إلى الحسابات الأمنية المؤدلجة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى