أحمد نظير الأتاسيصفحات سورية

حين تأتي القيامة ولا يأتي الحساب

 


أحمد نظير الأتاسي

يمر بلدنا وأهلنا بأوقات عصيبة اليوم. كثير من الأذى قد وقع وأعتقد أن كثيراً من الأذى سيقع. إن لغة “نحن” و”هم” أصبحت واقعاً في مجتمعنا سواءً داخل أو خارج سوريا أو على الإنترنت، ولا أعتقد أن الرصين فينا سيستطيع الصمود طويلاً أمام الغاضب والأعمى الموجود في داخل كل منا. سيضطر كثيرون منا قريباً، أو قد اضطروا فعلاً لأسباب مختلفة، لأن يتخذوا موقفاً مما يحدث في سوريا، إما مع أو ضد. ليس من المهم أن نعرف مع مَن أو ضد مَن لأنه عندما تصبح الخيارات محصورة بخيارين إثنين مع أو ضد ينتفي العقل وتتبخر الرصانة وتهرب الحكمة وتبدأ القيامة. هذه قيامة لا حساب بعدها، هي قيامة لا تجلب معها عدلاً مطلقاً ولا حتى عدلاً جزئياً لأن الجميع سيخسرون. يريد كل منا أن يحقّ العدل ويقتص من الظالمين وينتصر للمظلومين، لكن مَن يقرّر توزيع الأدوار؟ في غياب القانون والدولة المحايدة والقضاء المستقل لا يوجد توزيع للأدوار، لا يوجد ظالم ولا يوجد مظلوم بل يوجد قاتل ومقتول فقط. صراحة، ورغم ما أحمله ويحمله الكثيرون من تفاؤل بالمستقبل فإني أعتقد بأننا نسير بخطى حثيثة نحو حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، حرب هي القيامة التي لا حساب فيها ولا بعدها. وحتى نتفادى هذه الإحتمال الذي يتحدث عنه الجميع أكتب هذه الكلمات.

أكثر المقالات التي أقرؤها هذه الأيام تتحدث عن احتمال حرب أهلية في سوريا. حين بدأت الإنتفاضة منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر كان الجميع خائفين ومترقبين، لكن اليوم حصل استقطاب هائل وتجييش أعمى ألوم عليه النظام الحاكم وحده الذي عمل منذ البداية على ربط مصيره بمصائر شرائح واسعة من الشعب السوري وخاصة الأقليات الدينية. لقد صوّر هذا النظام الإنتفاضة الشعبية المطالبة بالحرية وبتغييرات إقتصادية على أنها حرب طائفية تستهدف قهر طائفة وإعلاء طائفة أخرى فوقها. لا أحد يدافع عن الظالم عندما يكون الظلم واضحاً ولذلك يلجأ الظالم إلى ستر جرائمه بتحويل الأنظار عنها إلى أخطار مختلقة مفتعلة. وهو بهذا يخفف عن نفسه كلفة الدفاع عن نفسه وأعوانه بأن يجعل من أفراد طائفة بأكملها جنوداً متطوعين للدفاع عنه معتقدين بأنهم إنما يدافعون عن أنفسهم. لقد نجح النظام في سوريا بتصوير الإنتفاضة الشعبية ضده بأنها ثورة إسلامية غرضها إخضاع الأقليات العلوية والمسيحية والإسماعيلية والدرزية لحكم متطرفين طالبانيين. الأنكى في الأمر أن هؤلاء المتطرفين المزعومين ليسوا إلا الأغلبية السنية في سوريا. طبعاً هناك إفتراض خفي هنا وهو أن كل أفراد هذه الأغلبية مدفوعون بأيديولوجية دينية عمياء ولا يرون في بقية الشعب السوري إلا أتباع ديانات كافرة يجب قتلهم. وهنا يظهر النظام بمظهر الحامي لفئات من الشعب ضد تعدي وظلم فئات أخرى، وبهذا تنقلب القضية من ثورة على النظام إلى صراع بين طرفين منفصلين عنه ويبقى هو متفرجاً. هذا الصراع يبدأ حين ينخرط الأفراد طواعية في قمع إخوانهم في الوطن معتقدين أنهم بهذا يحمون أنفسهم فيصبحون مذنبين كذنب النظام الذي ضللهم وتنقلب نبوءة الحرب الطائفية المزعومة بدايةً إلى حقيقة واقعة نهايةً. المستفيد الوحيد من هذه الحرب الأهلية هو النظام. وهذا ما أود توضيحه في هذه المقالة.

أولاً، لن يستطيع النظام قمع حركة الإحتجاجات لأنها حركة مطلبية تنبع من مطالب حقة ومظالم حقيقية، ولأن المشتركين في الإحتجاجات الذين كسروا حاجز الخوف قد حرقوا كل خطوط الرجعة فهم إن عادوا منفردين إلى بيوتهم فإن النظام سيلتقطهم الواحد تلو الآخر ليسجنهم ويعذبهم ويقتلهم حتى لا يثوروا مرة أخرى. إذاً بالنسبة للنظام الظالم المذنب والعارف بذنبه الحل الوحيد حتى يقضي على حركة الإحتجاج هو التخلص من المحتجين جسدياً أو من أغلبهم. وبما أنه غير قادر على تحديد هوية المشاركين في الإحتجاجات وعاجز أيضاً عن القبض عليهم واحداً واحداً فالأفضل له أن يستخدم استراتيجية شبكة الصيد العملاقة التي تحصد الجميع، المطلوبين وغير المطلوبين، السمك الكبير وسلاحف البحر البريئة. ولا يهم النظام أن تموت مئات من الناس من غير المحتجين مادام نجح في قتل من يخرج للإحتجاج بهذه الطريقة. وأفضل وسيلة لتنفيذ هذه الإستراتيجية دون تبعات قانونية دولية هي غوغائية الحرب الأهلية، لأن الناس في هذه الحروب  تموت على أيدي عصابات مجهولة لا تطالها يد القانون ولا يردعها رادع. حتى النظام نفسه يشارك في هذه الحروب بتمويل عصابات يدربها ويسلحها لتقوم بالقتل والترويع دون أن يضطر لبذل أي جهد للبحث عنها وإيقاف أعمالها متذرعاً بفوضى الحرب الأهلية وغوغائيتها. هذا ما حدث في الجزائر أثناء عقد التسعينات، وأرى هذا السيناريو الأكثر احتمالاً في سوريا إن انزلق الناس في منزلق الحرب الأهلية. وحتى يستفيق الناس كلهم، القامعون والمقموعون، لخطورة الحرب الأهلية، لا بد لي من أن أفصّل هذا الإحتمال وأعرض بعض السيناريوهات التي أراها محتملة.

الحرب الأهلية لا تحصل مباشرة بمجرد أن يقرر الناس الرد على قمع النظام وعنفه بالمثل، لأن العنف يحتاج إلى موارد لتحقيقه وأعني موارد مالية وموارد بشرية وسلاح وخبرات ووقت ويحتاج أيضاً إلى عمق بشري وجغرافي. فمن أين ستتوفر كل هذه الموارد والعوامل معاً حتى يكون هناك طرفان قادران على التناحر؟ حالات الثأر الفردي لا تكوّن بمجموعها حرباً أهلية، ونحن نرى هذه الحالات الآن. وكذلك حالات الدفاع عن النفس لا تعني حرباً أهلية مادامت محصورة جغرافياً ولم تتحول إلى عمليات هجومية. الحرب الأهلية تصبح واضحة عندما تتكون مجموعات من المسلحين الذين ينفذون عمليات هجومية ضد أهداف محسوبة على الخصم وليست بالضرورة معتدية. تشكيل مجموعات كهذه يحتاج إلى تواصل بين الراغبين بالإشتراك وتجميعهم وتدريبهم وتسليحهم وإطعامهم وإسكانهم وضمان سلامة ومستقبل عائلاتهم بالإضافة إلى ضمان استمرارهم بالعمل المسلح عن طريق إمدادهم بالمال والحوافز. الإنسان الذي قُتل أهله جندي محتمل في صفوف ميلشيات الحرب الأهلية، وكذلك العاطلون عن العمل والذين فقدوا عملهم نتيجة دخولهم السجن لمدد طويلة وتعرضهم للتعذيب الذي تحتاج آثاره الجسدية إلى رعاية صحية لمدة طويلة، عدا عن أن الجروح والكدمات تبقى علامة مكشوفة تعرّض صاحبها لخطر الإعتقال مرة أخرى مما يعني ضرورة التخفي عن الأنظار حتى تزول آثار هذه الجروح والكدمات. استمرار الإحتجاجات والقمع سيؤديان إلى كساد إقتصادي سيؤدي بالضرورة إلى تسريح مزيد من العمال، هذا عدا عن معاقبة موظفي الدولة الذين اشتركوا بمظاهرات بتسريحهم من عملهم وحرمانهم من المال والرعاية الصحية التي قد يوفرها العمل الحكومي. وأخيراً هناك الفلاح الذي أحرق أعوان النظام محصوله وقتلوا مواشيه كما بدأ يحدث الآن، فهذا الفلاح لن يجد مورداً آخر للرزق إلا عن طريق السرقة أو الإنتساب إلى ميلشيات تتعهد بدعمه مادياً ومعنوياً. يحسب النظام بأنه يعاقب المحتجين بهذه الطريقة ويجبرهم على الخضوع، لكنه في الحقيقة يحفر قبره بيديه ويعطي للحرب الأهلية المحتملة جنودها ووقودها. ويحسب من ينادي بمزيد من القمع أن العقاب الجماعي سيحل مشكلة الإحتجاجات وهم لا يدرون أن الإحتجاجات ليست مشكلة بحد ذاتها فهي موجودة في جميع أنحاء العالم، لكن المشكلة هي في العنف الذي قد يلجأ إليه المحتجون بعد أن يفقدوا كل أمل وبعد أن يدفعهم إليه القمع والإذلال والإفقار. إن الحرب الأهلية التي يخافها الجميع إنما يصنعها النظام في كل يوم يلجأ فيه إلى القمع والخيار الأمني.

هناك أيضاً جنود لا يخطرون على بال أحد الآن، لكني أعتقد بأنهم جنود أية حرب أهلية وصانعوها والمديمون لها، وأعني جنود النظام نفسه وعناصر أجهزته الأمنية وضباطه وصف ضباطه. حين يضطر الناس إلى اتخاذ موقف، إما مع وإما ضد فإنهم يذهبون مع الجهة التي تحقق أكبر فائدة آنية لهم وذلك بسبب انعدام الخيارات الأخرى. فعنصر الأمن والضابط الذي يقاتل في صفوف النظام ضد أبناء طائفته سينقلب على النظام حين يحس بضعف الأخير أو حين يحس بأن النظام يشك بولائه، وهذا ما سيحصل بالطبع لأنها حرب طائفية. المنقلب على النظام والذي ارتكب الموبقات كلها حين كان في صفوفه لا بد له من أن يغطي على أفعاله القديمة ويكسب ولاء طائفته الأصلية التي عاد إليها فيضطر إلى أن يكون أكثر طائفية من الآخرين وأكثر حماسة على القتل والتنكيل بالطرف الآخر. في الحقيقة، المظلوم يريد أن ينتقم من ظالمه ويعرف أن النظام هو ظالمه، أما الذي يغير معسكره فيتجنى على الأبرياء زاعماً بأنهم ظلموه حتى يكسب ثقة معسكره الجديد. إن الطائفية لن تأتي من المظلوم الذي خرج للإحتجاج والمطالبة بحقوقه وتعرض للعنف لأنه يعرف ظالمه، لكنها ستأتي من أزلام النظام نفسه الذين أجبرتهم متغيرات موازين القوى أن يغيروا معسكرهم. وهذا ما رأيناه في العراق بعيد الإجتياح الأمريكي، فرجل مخابرات صدام الذي فقد سلطته المطلقة ومصدر رزقه تحول بين ليلة وضحاها إلى وطني يدافع عن البلد، ولا أقصد هنا رجل المخابرات السني فقط بل السني والشيعي فكل واحد عاد إلى طائفته زاعماً أنه ما تركها يوماً وأنه سيحميها ويدافع عنها بأن يقتل أفراد الطائفة الأخرى. رجل المخابرات السني سيقتل الشيعي متهماً إياه بالتعاون مع المحتل، ورجل المخابرات الشيعي سيقتل السني بحجة أن صدام كان سنياً وأن حكمه كان مقتصراً على السنة وأنه بعمله هذا يحرر طائفته ويعيد إليها حقوقها. وهذا ينطبق تماماً على المثقفين ورجال الدين الداعمين للنظام الأسدي الآن والذين سيأججون نار الطائفية لاحقاً مظهرين الندم على مساندتهم للنظام وقمعه بحجة أنهم كانوا مجبرين، فالطائفية ستكون عنوان توبتهم وعربون ولائهم للطائفة التي هجروها. الطائفية هي ملاذ كل انتهازي يريد أن يغطي انتهازيته بحماس مفتعل وحميّة مصطنعة.

في أية حرب يحتاج المحارب إلى عمق جغرافي وسكاني يعود إليه بعد ممارسته العنف، هذا العمق يحميه جسديا ويقدم له الدعم المادي والمعنوي. وفي حالة الحرب الأهلية الطائفية، لا بد أن تنقسم البلد إلى مساحات يكون سكانها متجانسين طائفياً. لكن هذا ليس متوفراً في سوريا فالأغلبية السنية والأقليات الطائفية متناثرة ومتشابكة بطريقة يستحيل معها وجود تجانس في مساحة أكبر من حي في مدينة أو قرية صغيرة: القرى السنية والمسيحية متناثرة في كل مكان، والأحياء السنية أو المسيحية أو العلوية موجودة في كل مدينة كبيرة أو صغيرة. لا توجد مساحة كبيرة في سوريا تسكنها طائفة واحدة، لا يوجد مثلث سني ولا جنوب شيعي ولا شمال كردي ولا جبل ماروني أو درزي، وتشكيل مساحات متجانسة طائفياً يحتاج إلى هجرات سكانية هائلة داخل البلد وخارجه. الذي سيخرج من قريته أو حيه للإعتداء على جيرانه الشماليين من الطائفة الأخرى سيجد نفسه محاصراً من الجنوب بقرية أو حي من نفس طائفة تلك التي إلى شماله. إن سوريا ليست مصممة لتخوض حرباً أهلية، ولذلك فإن النظام الذي يدفع باتجاه حرب كهذه لا يعرف حتى تركيبة شعبه وبلده. ويعتقد هذا النظام بأن تجييش بعض الطوائف في صفوفه سيعطيه الأعداد الكافية لقمع المتظاهرين والغطاء القانوني اللازم لتحقيق هذا الهدف باستخدام الحل الأمني. إنه إذ يدفع الناس إلى حمل السلاح يعتقد بأنه سيستطيع قصف أحياء وقرى بأكمالها بالمدفعية والطائرات أو أن طائفة ستقوم بإخضاع طائفة أخرى مما يعفيه من التدخل ويرفع مسؤولية القتل عن كاهله. إن القرية أو الحي المعتدي محاصر من عدة أطراف بأحياء من الطوائف الأخرى المعتدى عليها، ولن يستطيع أي جيش في العالم أن يمنع الناس من الإنتقام من جيرانهم ببندقية خفيفة أو سكين منزلي. لقد قتلت الحرب الأهلية في الجزائر قرابة مئتي ألف إنسان ولا يعرف أحد من قتلهم فالكل يتهم الكل لكنهم يعرفون أن معظمهم قضى بحد السكين قرابة الفجر بيد ملثمين يلبسون السواد. وأقول الآن للموهومين بأن النظام سيدافع عنهم لأنهم قاعدته، لا يهم النظام أن يدافع عنكم ولن يستطيع ذلك لأن الحرب الأهلية ليست معركة في سهل واسع بين أرتال طويلة من الدبابات والمدرعات، إنها حرب خفية أحداثها طلقات معدودة وطعنات سكين تحت جنح الظلام وضحاياها أناس يسكنون أحياء وقرى وليس ثكنات أو خنادق. الحرب الأهلية في سوريا ليست خط المتحف الذي يفصل بين شرق بيروت وغربها بل آلاف الخطوط التي تفصل بين أحياء صغيرة في مدن صغيرة. في أية حرب أهلية لا يكون هدف أية هجمة أو معركة إحتلال موقع متقدم بل المعركة ذاتها هي الهدف والقتل هو الغاية القصوى والإنتصار يقاس بعدد القتلى، ويعود الأطراف في اليوم التالي للإنتقام لقتلى البارحة.

من أين سيأتي السلاح؟ ومن سيدفع لشرائه؟ الحروب الأهلية عادة آلة ضخمة للعنف تصنع وقودها بنفسها وتأكل من جسدها. حين يفقد الإنسان أحبابه وحين يفقد أحسن سني شبابه وفرصته في البدء بمهنة وتأسيس أسرة فإن الحرب تصبح حياته. حينها تتحول الميليشيات التي أنشئت بغرض الدفاع عن النفس إلى عصابات مخدرات وتهريب سلاح وابتزاز أموال وسرقة ممتلكات فتستولي على مناطق وتضع لها الحدود وتتنافس على التسلط عليها وتفرض عليها الضرائب وتجمع التبرعات من المهاجرين وتجند الشباب من مخيمات اللاجئين، أي تصبح باختصار مجموعات تمتهن القتال وحمل السلاح. ولا نغفل هنا عن التدخلات الخارجية فكل من يريد تصفية حساباته يصفيها على الأرض الخراب التي لا حامي لها، وكل من يبحث عن مرتزقة يجدهم في أرض الحرب الدائمة، وكل من يسعى لكسب المال السريع يعرض بيع السلاح وتهريب الناس وشراء المسرقات وتمويل المحلات بالبضائع الإستهلاكية، والسوريون يعرفون هذا أكثر من غيرهم لأن بعضهم اغتنى من حرب العراق بالوسائل السابقة الذكر. الجماعات المسلحة ستبحث عن داعمين وممولين وستجدهم في كل من يرغب في بناء إمبراطورية محلية أو عالمية وفي كل الجيران الذين يريدون توجيه الأحداث بحيث تنفعهم أو بحيث لا تؤذيهم. وتركيا أفضل مثال يمكن أن يساق هنا. يتخوف الأتراك من حرب أهلية في سوريا لأنها قد تعني آلافاً لا بل ملايين من النازحين الفقراء الباحثين عن عمل وسكن وخدمات في بلد يعاني من غلاء شديد سببه نموه الإقتصادي السريع. وقد تعني أيضاً إنفصال أكراد سوريا واستعانتهم بأكراد العراق ومطالبتهم بدولة كردية تشمل شمال العراق وشمال سوريا وشرقي تركيا. هناك أكثر من مليون عراقي في سوريا، وهؤلاء إما سيدخلون في الصراع الدائر وإما سيبحثون عن مأوى آخر، ليس في الأردن طبعاً فالأردن على شفا الهاوية ولكن في تركيا الناجحة والتي سوقت نجاحها كموديل يحتذى لأهل الإسلام الراغبين في الجمع بين ثقافتي الإسلام والغرب. الحل الوحيد للمشاكل العويصة التي قد يسببها اندلاع حرب أهلية في سوريا هو احتلال شمال سوريا لكبح جماح الأكراد الإنفصالية ولتوفير مأوى لملايين النازحين من سوريا الذين لا مكان لهم في تركيا لا بل قد يتسببون في كسر إقتصاد تركيا النامي وابتعاد الناخبين الأتراك عن حزب العدالة والتنمية. إن استمرار أسطورة الموديل التركي الشرقي الإسلامي (وليس هو كذلك بل موديل رأسمالي متغرب مع خليط من عثمانية جديدة لا تزال تعتبر الإسلام وسيلتها لجذب الجماهير) يعتمد على نجاح الإقتصاد التركي (وهذا أمر لا يزال مشكوكاً به) واستمرار حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، وإن مصيبة إنسانية كمصيبة حرب أهلية في سوريا ستقضي على كل هذه الأحلام. ولا أعتقد بأن الأتراك مستعدون للتخلي عن هذه الأحلام التي بدأت تواً بسبب غباء مجموعة من الشباب المراهقين الذين يحكمون سوريا، جارتهم الجنوبية التي تمتد حدودها مع تركيا على مسافة أكثر من 500 كم والتي يصل عدد سكانها إلى حدود العشرين مليوناً.

لا أعتقد أن بلداً من المحيطين بسوريا سيحجم عن التدخل في حرب أهلية محتملة. إيران وحزب الله سيخسران حليفهما الأهم في المنطقة وستكون خسارته بداية النهاية لكليهما أو على الأقل لحزب الله الذي تفرعن مؤخراً في لبنان ولم يبق له لا صديق ولا حليف. الأردن ضاقت موارده شبه المعدومة بسكانه وحمت عائلته المالكة نفسها من أغلبيتها الفلسطينية بأقلية من “أهل البلد الأصليين”، هكذا. هذه الأغلبية الفلسطينية هي بالذات ما تبني عليه إسرائيل مشروع الدولة الفلسطينية البديلة. أي ضغط سكاني من الشمال سيقضي على هذا البلد الفقير الذي يعاني من غلاء فاحش وجفاف مماثل لما يعانيه السوريون الآن. إسرائيل بدورها ستستغل فرصة غياب الجارة الشمالية القوية لتوطيد أركانها والقضاء على أعدائها، وأعني حزب الله بالدرجة الأولى وحماس بالدرجة الثانية، وكلاهما يعتمدان على النظام الأسدي في تمويلهما وتسليحهما. القاعدة التي فقدت العراق ستجد في سوريا مرتعاً لها، والسعودية التي تخاف من المد الإيراني لن تقصّر بإمداد “أهل السنة” بالمال “ليعيدوا سيطرتهم” على هذا البلد ذي الموقع الحساس. وملايين المهاجرين السوريين لن يقصّروا أيضاً في دعم ذويهم إما “لينتصروا” وإما ليلتحقوا بهم في مهاجرهم الأوروبية أو الأمريكية، وهذا قد يعني عشرات الآلاف من المهاجريين “الشرعيين” إلى أوروبا. وأوروبا التي حولت مؤخراً حرب العراق إلى “حرب على المسيحيين الشرقيين” بدعايتها الغبية وعزلها لمأساة المسيحيين العراقيين عن مأساة إخوانهم العراقيين من بقية الطوائف لن نستطيع إلا أن تستقبل آلاف المسيحيين السوريين الذين سيكونون من أكثر المتضررين بالحرب الطائفية السورية المحتملة نظراً لما ذكرته سابقاً من انتثارهم في كل أرجاء سوريا وافتقادهم لعمق جغرافي طائفي يحميهم من الإعتداءات العشوائية التي يتعرض لها جيرانهم. وإن المأساة كل المأساة في أن يكون هذا الإنتثار سبباً لضعفهم كطائفة وقد كان نتيجة لكونهم أصليين في البلد وليسوا محدثين فيها فهم في كل مكان فيها كما كانوا دائماً وكما يجب أن يكونوا.

وكما قال الأستاذ عزمي بشارة في آخر مقالة له، المتفرجون والمتخوفون في سوريا والباحثون عن الحماية والإستقرار يعرضون استقرارهم المتخيل بدعمهم للنظام أو بسكوتهم، لأن كل يوم يمر يستمر فيه النظام بقمعه الممنهج والدافع إلى حرب أهلية تقترب البلد أكثر فأكثر من تلك الحرب. هذه الحرب لن تكون أبداً في مصلحة الأمان والإستقرار ولن يستطيع النظام أن ينهيها كما لن يستطيع أن يحمي أي طريف من الإحتراق بنارها. وقد كتبت هذه المقالة لأشرح كيف سيخسر الجميع من حرب كهذه وكيف أن النظام حصان خاسر (وخاسر بغباء) لا تجوز المراهنة عليه فهو يفتقد الحكمة والقدرة والنية الصالحة الصادقة. أساس الأزمة هو النظام وحلها في إسقاطه (وأعني مؤسسات القمع والفساد ورموزه، وليس إسقاط الدولة). لن تقتل الأغلبية السنية إخوتها من بقية الطوائف لأنها ببساطة لا تنوي ذلك ولا تستطيعه، فالدنيا تغيرت ولم نعد نعيش في عام 1860. سيطلب الناس محاكمة جلاديهم، وهؤلاء ليسوا إلا النخبة في النظام وليسوا كل فرد يعمل في مؤسساته أو ينتمي إلى طائفة رئيسه.

خاص – صفحات سورية –

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى