صفحات سوريةطيب تيزيني

حين تُفتقد الشرعية والحرية


د. طيب تيزيني

ثمة أنظمة أمنية راهنة في بعض البلدان العربية تعصف بها العواصف والأعاصير، ويقف على رؤوسها ساسة يحملون صفتين اثنتين، تظهران في نمط الحكم الذي يتبعونه. إنهما غياب الفكر السياسي مع التجربة السياسية أولاً، بحيث يفتقدون درجة أو أخرى من الحكمة السياسية، بل يفتقدون أحياناً ما يتصل بهذه الأخيرة، فيصل الأمر بهم إلى الانهيار شبه الكلي. أما الصفة الثانية، فتُفصح عن نفسها، من ناحية أولى، بوصولهم إلى السلطة دون مسوِّغ شرعي، لمجيئهم إليها عن طريق القوة والمنعة والشوكة، كما يرى ابن خلدون، أي الانقلاب العسكري الذي شاع في العالم العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين.

وعلى هذا النحو، نجد أمامنا قوة جديدة تضع هدفاً لها يتمثل بـ”اغتصاب السلطة”، وبتحويلها باتجاه مصالحهم. فيُبدأ بتأسيس جديد لـ”الشرعية” عبر الإطاحة بالشرعية القانونية التاريخية، متقدمة ناضجة أو أقل من ذلك. وبهذا، تكون العملية قد بدأت بتكوين مسارها ومنظوماتها السياسية والفكرية والأخلاقية. وحيث يكون الأمر قد انطلق في هذا الاتجاه، فإنه لابد أن يُفضي إلى “تجميع” كل الوثائق والأجندات، كي يسوّغوا بها استمرارهم بالسلطة ودورة بعد دورة، وتكريساً بعد تكريس، إلى أن يصبح من طبائع الأمور أن يعتقد المواطن بأن منْ هم على رأس السلطة لن يأتي يوم يغادرونها فيه. أما السبب الكامن وراء ذلك فهو بسيط يتحدد في أن ما يلزم عمله على هذا الصعيد يتمثل في إعادة بناء المنظومة السياسية والنظامية، التي سبقت مجيء مُغتصبي السلطة المذكورين لصالح هؤلاء القادمين الجدد، ولأزمنة طويلة قادمة. فيُبدأ بتعديل الدستور أو بإيجاد واحد جديد يضمن “حقوق” الحكام الجُدد في أبدية الحكم، ويثنّي ويثلّث…إلخ بأمور حيوية أخرى.

هذا ما يتعين على “مُحبّي” السلطة أن يفعلوه، كي يضمنوا حقوقهم المعنية، لكن هذا وإنْ كان ذا أهمية تأسيسية، إلا أنه لا يكفي. فهنالك خطوة أخرى تُكمله، وتستلزم حدوثه، نعني مطالبة الشعب بتحقيق حريته، لأن فعل ذلك يمثل “تعدياً” على حقوق الحكام الأبديين المذكورين من جهة، وتوريطاً للشعب نفسه فيما لا يعنيه. ها هنا، ينبغي صوغ هذا الموقف بكيفية “قانونية” واضحة، بالقول -مثلاً- بأن أداة الحكم المعنية كالحزب، هي المخوّلة بتلك المهمة. إذ حينئذ يكون قد أعلِم الشعب بذلك، عن طريق “استفتاء” يقول الشعب فيه بحرصه الحاسم على بقاء القائد في موقعه، الذي لا يستطيع أحد آخر أن يشغله ويتصرف به.

وحين يكتشف أعضاء “المؤسسات الشرعية” أن الحكم في بلد الحاكم قليل عليه مُهين له، يقدمون اقتراحاً “لا رجعة عنه”، بأن يتسع حكم ذاك الأخير، الحاكم، إلى العالم كله، ففي ذلك كل العدل بحقوقه، وكذلك بواجبات الشعب حيال سيده. وحيث يصبح الموقف على ذلك النحو، يصل المجتمع إلى غاية سعادته وحريته!

ولكن، حين يستفيق الشعب من نومه المخدَّر، تقوم القيامة، ويغدو الانتقام من الشعب أمراً لا عودة عنه. ويكتشف هذا الشعب أن ما قدمه من ضرائب لسادة النظام الأبدي، راح يتحول إلى رصاص يخترق صدور أبنائه وبناته وأطفاله.وهنا يحدث الانكشاف الأعظم: إن ما يقوم به الشعب من دفاع عن حقوقه المستباحة، إن هو إلا “مؤامرة خارجية” ضد الوطن المنيع المقاوم” يستحق الموت، نعم الموت!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى