صبحي حديديصفحات مميزة

حين يصبّ الفرات في العاصي


صبحي حديدي

أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، يسهم في تطوير مهارات الإلتفاف على أساليب العنف الوحشية التي تعتمدها أجهزة النظام الأمنية لقهر الإنتفاضة السورية، من جهة أولى؛ ولعلّه ينفع في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين ما يزالون يتردّدون في المشاركة، لأسباب شتى يمكن تفهّم معظمها، من جهة ثانية. ذلك الجديد هو تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، مثل هذه مثلاً: نهر الفرات يصبّ في نهر العاصي!

أمّا مبتدعو هذا الجديد فهم شباب محافظة دير الزور، في المدينة ذاتها، وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة، وفي قرى نهرية عديدة؛ وكأنّ خروجهم إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في ‘جمعة أسرى الحرّية’ لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الإحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف لا يلتمسون عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في هذه البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير ‘أخوة بطّة’، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ!

وهكذا صارت ساحة ‘دوّار المدلجي’ في مدينة دير الزور تتمة رمزية، وامتداداً جغرافياً طبيعياً، لساحة العاصي في مدينة حماة، فولدت هذه التوأمة التلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الإنتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: مليون متظاهر، في نهار واحد. وكما ذاقت حماة أفانين وحشية النظام في مطلع الثمانينيات، مثل حالها اليوم خلال أسابيع الإنتفاضة؛ كذلك فإنّ دير الزور شهدت بعض تلك الأفانين في الحقبة إياها، وتشهدها اليوم أيضاً، إسوة بجميع المحافظات السورية.

الشهداء يتساقطون، يوماً بعد يوم، وفي عدادهم يخرّ أطفال لا يتجاوزون الـ 14 سنة؛ والمجمعات السكانية تُحرم من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت، وتُغلق المدارس والكليات الجامعية، وتُعطّل الإمتحانات؛ ويُمنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على الفرات، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وتُحرق السجلات في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ كما تذهب الأجهزة شوطاً أبعد في التخريب بهدف التحريض الطائفي، كأن تحرق كنيسة عتيقة في البوكمال، وتنسب الفعل إلى المتظاهرين! وبالأمس أنبأتنا ‘الوطن’، صحيفة رامي مخلوف، أنّ بلدة البوكمال قد تشهد إعادة إنتاج، أعنف وأشدّ وحشية، للسيناريو الدموي الذي عاشته بلدات تل كلخ وجسر الشغور ومناطق جبل الزاوية وسواها.

وأجدني أشير، بعد التماس المعذرة على هذه الشطحة نحو الشأن الذاتي، أنني ولدت في مدينة القامشلي، درّة منطقة ‘الجزيرة’ السورية، التي سُمّيت هكذا لوقوعها بين نهرَيْ دجلة والخابور، فضلاً عن محاذاة الفرات بالطبع. وفي القامشلي نشأت ودرست حتى التحاقي بجامعة دمشق، ممّا يجعلني ‘جزراوياً’ بامتياز، بالولادة وبالاختيار أيضاً؛ الأمر الذي لا يلغي أنني ‘ديري’ أيضاً، لأنّ الوالد والوالدة من أبناء دير الزور. ورغم أنني زرت المدينة في فترات متقطعة خلال سنوات الطفولة، كما نُفيت إليها عملياً (وهنا ذروة المفارقة في سلوك الأجهزة الأمنية) حين تمّ إبعادي عن قطاع التدريس، فأقمت فيها فترة قصيرة؛ إلا أنني على يقين من مقدار افتتاني بهذه الواحة الفريدة التي تتباهى بسلسلة ألقاب باذخة، تُجمع على أنها العروس: للفرات، أو للبادية، أو للصحراء.

وإلى جانب مسرّات العيش في كنف أهل وأصدقاء ورفاق، ومعايشة أوجاع محافظة أهملتها السلطة عن سابق قصد وتصميم (لأنّ النظام اعتبرها مناهضة وعاصية وعصيّة!)، اكتسبت المدينة شخصية ملحمية في ناظري، كفيلة باجتراح مصالحات شتى بين النقائض، وقادرة على استنهاض جماليات غامضة من منابع غير منتظَرة. ولقد خصّتها الطبيعة بقسوة قصوى في المناخ تارة (حين يغطّيها العجاج تماماً، فيستنشق البشر ذرّات غبار تتسلل حتى إلى الثلاجة؛ أو حين ترتفع درجات الحرارة، فيغلي الإسفلت في الشوارع…)؛ ورقّة قصوى في المناخ نفسه تارة أخرى (فيصبح السهر في ‘جرداق’ على ضفة الفرات نعمى استثنائية، والمبيت في معسكر صحراوي تجربة فارهة)؛ ولكنّ النهر ظلّ قاسماً مشتركاً يُدني القسوة من الرقّة، ويضفي المزيد من البهاء على الشخصية الملحمية.

وحين صار ‘دوّار المدلجي’ يتردد في الأخبار، وقعت في حيرة، وأصابني خجل، لأنني لم أتمكن من استذكار الموقع الفعلي لهذا الدوّار، حتى أنقذني صديق ديري طمأنني بأن المكان جديد ولم يكن قائماً على عهدي. وفي سياق تعاقدي الجديد مع هذا الدوّار، وتجديد افتتاني القديم بتلك المحافظة الكريمة، لا أملّ من مشاهدة اعتصام ليلي حاشد في الدوّار، تسيّدته طفلة لا تتجاوز العاشرة كما أرجّح، كانت تهتف ويردّد الكبار بعدها: ‘مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا’. وللموّال أن يصل بين الحناجر والقلوب، حتى على مبعدة مئات الكيلومترات، بالطبع؛ إسوة بنهرَيْن يصبّ واحدهما في الآخر، فتحلّق بطّات الفرات فوق نواعير العاصي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى