صفحات سوريةوائل مرزا

حين يهرب العربي من همومه إلى همومه/ وائل مرزا

 

 

يحاول العربي اليوم أن يهرب من قَدَره بأي طريقة، فلا يجد نفسه إلا في مواجهة ذلك القدر. يهرب العربي من مأزق التاريخ، فيجد نفسه أمام مأزق الجغرافيا. يهرب من تخبط السياسة، فيجد نفسه أمام فوضى الاقتصاد. يهرب من بؤس التشدد، فيجد نفسه أمام خيبة الاعتدال. يهرب من ظلامية الماضي، فيجد نفسه في فوضى الحاضر. يهرب من تلك الفوضى بخياله إلى المستقبل، فيجد نفسه أمام شيءٍ غامضٍ ومجهولٍ ومخيف. يهرب من التطرف الإسلامي، فيبصر أمامه التطرف من كل نوع وفي كل مجال: إثني ومناطقي وأيديولوجي وقومي وليبرالي وعلماني، بل وتطرف وطني.

يهرب من اهتراء الثقافة، فيواجه ابتذال الفن والأدب والرياضة. يهرب من حصار الداخل في كثيرٍ من المواقع، فيرى أمامه حصاراً خارجياً، في كل مكانٍ يذهب إليه، أدهى وأمرّ. يهرب العربي من قصص الانقسامات والهموم، فلا يلقى أمامه سوى المزيد منها. يهرب من أخبار العراق، فتحاصره أخبار سورية وليبيا واليمن والسودان. يهرب من الأخبار نفسها، فيكتشف أنه في واقعٍ عملي قاس يحيط به، من كل مكان، إحاطة السوار بالمعصم.

يهرب من الانقسام الطائفي والمذهبي، فيحاصره الانقسام السياسي والحزبي. يهرب من همّ السكان المقيمين، فيُفجع بهموم الملايين من اللاجئين والمُهجّرين. يُقال له إن الحرب الأهلية في أوطانه خطٌ أحمر، فيمضي كل شيء في اتجاه الحرب الأهلية. يُقال له إن السلم الأهلي في بلاده خطٌ أحمر، فيبدو الجميع مشغولين بتخريب ذلك السلم. يُقال له إن الدم العربي خطٌ أحمر، فيسيل ذلك الدم بيد العرب، قبل غيرهم. يُقال له إن الأمن القومي العربي خط أحمر، فيرى ذلك الأمن ممزق الأشلاء كسيحاً مكشوفاً يستجدي غطاءً من هنا وغطاءً من هناك.

يرى كل الحدود الحمر تنهار أمام عينيه، فيغمضهما ويحاول أن يهرب من كل الشعارات وكل المقولات. يدرك أن كل مقولةٍ ستُصبح لعنةً على قائليها. وأن كل شعارٍ سيسقط بأيدي حامليه. يقرأ عن انتخابات مقبلة في العراق، فيستبشر. ثم يقرأ عن تفاصيلها فيُصاب بالدوار من تحالفاتها السوريالية، خاصةً وهو يرى كيف ستنتقل ميليشيات متوحشة من ساحات المذابح إلى قاعات البرلمان. يسمع عن انتخابات قادمة في لبنان، فيستبشر أكثر. ذلك هو العراق وهذا لبنان، يقول في نفسه. فيقرأ مقالات حازم الأمين عن الموضوع… ويهرب من التفكير بها كلياً. ينتظر المبادرات العملية، فيرى الوعود والقرارات الورقية.

يقرأ بأن روسيا وأميركا وأوروبا تتحدث عن رفضها تقسيم سورية والعراق وغيرهما، فيرى ملامح السيناريو الجديد والحقيقي الآتي. يمسك قلبه ويركض هارباً خوفاً من القادم المجهول المعلوم. يترحم على سورية وقلب العروبة النابض فيها، ثم يسحب كلامه ويهرب من أفكاره خشية أن تنسحب الرحمة بعدها على بقية بلاد العرب.

يسأم من السياسة بكل قضّها وقضيضها ويحاول أن يهرب إلى الاقتصاد فيرى خطوطاً حمراء تتهاوى واحدةً تلو الأخرى.

يحاول أن يهرب إلى العمل والإنتاج، فيسقط في فخ التضارب بين القوانين. يهرب من الفخ فيقع في حفرة غياب التخطيط. يخرج من الحفرة فيبتلعه وادي المحسوبيات والفساد. يقرأ قائمة أفضل 40 مدينة للعيش فيها (وفق تقرير «جوائز اختيارات القراء لعام 2017» العالمي)، فيُصاب بالهم والغم والإحباط. يهرب من الاقتصاد إلى الفن فيجد نفسه أمام خيارٍ بين المؤدي شعبولا والمؤدية هيفاء. أو أمام خيار أوسع بين فيلم «آخر ديك في مصر» وفيلم «دعدوش» أو فيلم «يا تهدي يا تعدي»!

يسحب نفسه سحباً هارباً من الطرب العربي، ومن الفن العربي السابع، ليجلس أمام الفضائيات محاولاً أن ينسى همّه وغمّه. يضغط أزرار «الريموت كونترول» قافزاً من محطةٍ إلى أخرى. يكاد يُصابُ بالدوار وهو ينظر إلى تلك الخطوط التي تزحف وتتدلى كالأفاعي على الشاشة من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين ومن الأعلى إلى الأسفل. خطوطٌ صفراء وخضراء وحمراء تحمل العجيب الغريب من الأسماء والكلمات والمصطلحات والرموز.

يلملم كل خيباته وآلامه ومواجعه ويرمي بها في ساحة الرياضة. يرى العرب عاجزين عن الفوز بميدالية واحدة في الألعاب الأولمبية الشتوية، في كوريا الجنوبية، من أكثر من مائتي ميدالية فازت بها 27 دولة خلال أقل من أسبوعين فقط. يتذكر أنها ألعاب شتوية. يرجع إلى أولمبياد 2016 في ريو دي جانيرو الحارّة، ليجد أن العرب كلهم «حصدوا» 13 ميدالية من مجموع 972 ميدالية، في حين فازت كينيا بـ١١ ميدالية.

يقرأ عن أبرز 10 إنجازات مذهلة للصين خلال السنوات الخمس الماضية، فيشعر بإنهاكٍ ما بعده إنهاك. يخطر له خاطر بأن يهرب إلى الصين. لكنه سرعان ما يجد أن الدنيا بأسرها سبقته إلى هناك.

يجلس الإنسان العربي بعد كل هذا. متسمراً في مكانه. غارقاً في لحظة زمانه. واضعاً رأسه بين كفيه. مرسلاً بصره ليحدق في الأفق البعيد. وفجأةً، تخطر بباله الحقيقة: يكتشف أنه يفكّر في المربّع الخاطىء. يكتشف أن هروبه الكبير هو في حدّ ذاته سببٌ من أسباب المشكلة. أن استقالته من صناعة واقعه جعلت ذلك الواقع يصل إلى ما وصلَ إليه. وأنه هو، هو بنفسه، الداء والدواء.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى