صفحات سوريةعمر قدور

حُماة الثورة المجهولون


عمر قدور

قبل سنوات، وفي أثناء ما سمي حينها “ربيع دمشق”، قال أحد المعارضين: “إن الرئيس السوري هو أصغر السياسيين السوريين سناً!”. ومن المعلوم أن الرئيس كان حينها في منتصف الثلاثينات من العمر، وقد شاع كلام المعارض لما يحمله من سخرية من جهة، ولما ينطوي عليه من مرارة إزاء نجاح النظام في إقصاء أجيال بأكملها عن الفضاء السياسي العام.

لقد بدا حينها أن آخر الذين خبروا الممارسة السياسية هم في الأربعينات من أعمارهم، أما الأجيال اللاحقة فقد نشأت على الغياب الكلي للسياسة، وبذلك لم يكن ثمة قنوات للتفاعل بين أولئك المعارضين الذين خرجوا تواً من المعتقلات والأجيال اللاحقة التي لا تكاد تعرف شيئاً عنهم، وبالتأكيد لا تعرف تفاصيل الحالة السياسية السورية في سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي. في الواقع كان ثمة جهل متبادل. فمن جربوا الممارسة السياسية كانوا قد انخرطوا في العمل السياسي السري، ويمكن على نحو ما وصفهم بالنخبة ضمن أجيالهم. وبحكم الأيديولوجيات التي حملوها والطبيعة الأمنية القاسية للنظام لم يُتح لهم التفاعل مع المجتمع، فضلاً عن مدة اعتقالهم الطويلة والتي استهلكت نحو عقدين من الزمن وأدت إلى تغريبهم عن المتغيرات في الحياة العامة السورية. أجيال عرفت السياسة على نحو تجاوزه العصر وأخرى لاحقة لم تعرف السياسة مطلقاً، وغياب شبه تام لجسور التواصل بينها؛ هذا من العوامل الهامة لفشل ما عُرف بربيع دمشق ومن ثم تراجع وانحسار الأطر السياسية التي نجمت عنه.

على الشاكلة نفسها كان الأمر بالنسبة إلى النظام، فالرئيس الأب كان قد أقصى الشخصيات القديمة الوازنة المساهمة معه في الحكم، وأخلى الساحة تماماً من أجل مشروع التوريث، من دون إنتاج كوادر جديدة بديلة، ما جعل الرئيس الابن لاحقاً يعتمد على كوادر الصف الثالث القديمة من نظام يعجز عن إعادة إنتاج نفسه بحيوية العصر. بدا النظام في طبعته الجديدة فاقداً الانسجامَ السابق وأقرب إلى الابتذال. على ذلك أيضاً نقرأ حنين الموالين الآن إلى زمن الأب، فهو وإن كان على السطح يأخذ شكل الإعجاب بقدرته على قمع كل تمرد واجهه إلا أنه من جهة أخرى يعبر عن انكشاف السلطة السياسية الحالية بحيث لا ترضي حتى جزءاً من المدافعين عنها. فالنظام بهذا المعنى لم يعد نظاماً، وما ظاهرة الشبيحة سوى تعبير فظ عن غياب الكوادر السياسية في النظام ذاته وعن عقمه السياسي لحساب العقل الأمني في أدنى مستوياته.

في هذا المناخ لم تكن الثورة السورية متوقعة، إن من قبل النظام أو من قبل المعارضة التقليدية التي تم قمعها بشراسة إثر ربيع دمشق. لم تكن الأجيال الشابة الجديدة توحي بإمكانية إشعال الثورة، حتى بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية. كان الشباب السوري مجهولاً إلى الحد الذي غيّبه عن حسابات الطبقة السياسية، وعندما تقدم بشكل صاعق عبر الثورة فإن الاستبشار به لدى الكثيرين أخذ منحى عاطفياً لا منحى معرفياً، تحيلنا إلى ذلك العبارات الحماسية التي يكررها بعض المعارضين القدماء، والتي تبقى في حيز الانفعال من دون أن تشي بمعرفة عميقة بواقع هؤلاء الشباب الذين أشعلوا الثورة بعناد كبير، واستمروا بها بعناد وصمود قلّ نظيرهما.

أخيراً وجدت المعارضة السورية سندها بأجيال لم تتفاعل معها سابقاً، وليس سراً أن الالتقاء بين الطرفين كان أشبه بالضرورة الموقتة، فشباب الثورة لم يسعفهم الظرف الأمني بالانتظام سياسياً واختيار ممثليهم وكوادرهم القيادية، فتقدمت الشخصيات المعارضة القديمة لملء الفراغ. بل أتاح هذا الفراغ لبعض الذين ليس لهم رصيد سابق أو حالي تقديم أنفسهم كناطقين باسم الثورة، وتعددت الأطر السياسية الناشئة خارج البلد خاصةً، وبعضها لا يعدو كونه منبراً إعلامياً لا أكثر. بعد أكثر من سنة على اندلاع الثورة استقر الأمر على وجود هيئات رئيسية تشكل مظلة سياسية لها، وعلى استمرار الانتفاضة الشعبية رغم القمع الاستثنائي، لكن من الملاحظ أن الثورة لم تدفع إلى الواجهة الإعلامية إلا بعدد محدود جداً من الشخصيات الجديدة، فبقيت آليات عملها الميدانية غامضة، وبقي العدد الأكبر من النشطاء بمثابة الجنود المجهولين، ولعلها مفارقة كبرى أن الذين عُرفوا من نشطاء الثورة هم الذين غادروا البلد بحكم الظروف ففقدوا تماسهم المباشر مع المستجدات اليومية لها!.

لو أن من أشعل الثورة هم رجال المعارضة التقليدية القديمة لاستطاعت الأجهزة الأمنية التعامل معها بيسر منذ البداية، فهؤلاء مكشوفون تماماً بالنسبة إليها، فضلاً عن انكشاف أساليبهم وأدواتهم. ودون نفي لمساهمة السابقين ونواياهم الطيبة فإن امتياز الثورة أتى من شباب جدد تحدوا الشبكة الأمنية الهائلة بعقل جديد، وأساليب مستحدثة لم تختبرها الأجهزة الأمنية من قبل. هذا لا يعني الاستهانة بقدرة الأجهزة لأنها استطاعت استيعاب جزء مما يحدث مع مرور الوقت. في الواقع أدركت الأجهزة الأمنية أهمية بعض النشطاء الميدانية فباتوا هدفاً للملاحقة والاعتقال، وللتصفية الجسدية في كثير من الأحيان. مما لا يجب إنكاره أن الثورة نزفت في أماكن متعددة بعضاً من خيرة أبنائها، وهذا ما أدى إلى بعض الانتكاسات والتراجعات قبل أن ينجح ناشطون آخرون في ترميم صفوفهم وسد الفراغ الناجم عن التغييب القسري لزملائهم.

شباب بعيدون عن الواجهتين السياسية والإعلامية، ويعرف المهتمون الجادون أنهم هم من يتعامل بمرونة مع الواقع المركب والمعقد الذي فرضه النظام الأمني. ففي ظل تقطيع أوصال البلد ومحاصرة المناطق الثائرة هؤلاء الشباب هم الذين يؤمنون الاتصال رغم قطع كافة وسائل الاتصال، هم الذين يخترقون الحصار لإيصال المساعدات الطبية الملحّة، وهم أيضاً الذين ينشطون في أعمال الإغاثة للنازحين من المناطق المنكوبة إلى المناطق الآمنة. يشاركون في المظاهرات ويقودونها ويصورونها، هم مصدر المعلومات والصور لوكالات الأنباء العالمية التي لا تستطيع الدخول إلى البلاد؛ قلة منهم صارت معروفة لظهورها على شاشات التلفزيون، أما الأغلبية الساحقة فتفضّل البقاء في الظل حماية للنشاط الدؤوب الذي تقوم به لا حماية للذات التي تسير طوال الوقت على حافة الموت.

لنعدْ إلى البداية؛ ما حدث في غالبية المناطق السورية هو أن قلة قليلة من الشباب خاطرت في ظروف أمنية صعبة وفي مناطق لم تكن جاهزة تماماً للانخراط في الثورة؛ تختار مجموعة من الشباب مكان التظاهر، وإن أسعفها الحظ تلقى مساندة من بعض شباب الحي. هذا النوع من المظاهرات كان يستمر أحياناً لدقائق قليلة جداً، دقائق ربما لا تتجاوز مدة تصويرها وبثها على اليوتيوب، لكنها كانت كافية لإيصال الفكرة وتشجيع الخائفين والمترددين على المشاركة. قبل أن تعم الثورة كانت المجموعات ذاتها تنتقل من مكان لآخر فتوحي بانتشارها؛ المبالغة تصبح حقيقة مع مرور الوقت، الشباب لا يكلّون وكلما كسبوا موقعاً يبحثون عن موطئ قدم جديد. إنهم بمثابة المهماز المتنقل.

المؤسف أن الوقت لم يحن لكشف الكثير من الأسرار، والمؤسف أيضاً أن ما يراه المشاهدون على شاشات التلفزيون لا يعكس في كثير من الأحيان الواقع الغني لنشاط الشباب السوري. لكن بوسعنا الجزم بأن هؤلاء الشباب هم الضمانة الأكيدة لاستمرار الثورة ومحافظتها على الطابع الوطني العام. فهم الذين يخترقون الحواجز العسكرية والأمنية، وهم أيضاً الذين يخترقون الحواجز الطائفية التي اصطنعها النظام، قد لا يكون عددهم كبيراً جداً ولكن لولاهم لربما اختلفت الثورة كثيراً عما نراه اليوم. في الحقيقة هم روح الثورة وإن ذهب تمثيلها السياسي الآن إلى آخرين، أما لاحقاً فسيكونون الأجدر بتمثيل أنفسهم، والأجدر تحدثاً بالأصالة عنها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى