صفحات العالم

المعارضة والمآسي السورية/ فـداء عيتانـي

 

 

كان يفترض بالمآسي السورية أن تكون عوارض جانبية لعملية التغيير التي بدأت منذ ما يقارب أربعة أعوام، إلا أنها اليوم ومع اقتراب الذكرى الرابعة لانفجار الثورة في سوريا، تتحول هذه المآسي إلى المتن، وتتجه عملية التغيير نحو الهامش، وتُصبح هي العارض الجانبي لصراع يمتدّ ويحرق المنطقة ويحوّل الشام الى بلد مضيف لكل انواع الفيروسات.

يصعُب إبعاد المسؤولية الرئيسية في المآسي السورية عن النظام القائم، فهو السبب الأساس لكل المعاناة القائمة حالياً، كما لمعاناة الشعب السوري طوال العقود الماضية، وهو سبب أساس في منع تطور – أو إعاقة التطور في – سوريا، وفي تنمية بطئية بليدة شبيهة بتطوره، وهو السبب الرئيس في مجموعة من الأزمات في المنطقة، ويحمل مسؤولية كبرى في تخلّف حال اللبنانيين، ومنعهم من إنهاء صراعاتهم، وإطالة العنف الكامن والظاهر، كما يحمُل مسؤولية كبرى في تأخّر الوصول الى حلول جدّية لأزمة الفلسطينيين المستطيلة والأسطورية، وكذلك له أكثر من ضلع في انتشار السلفية الجهادية بنسختيها اللادنية والزرقاوية في العراق وبعدها في سوريا والمحيط.

ومن يرغب في الدفاع عن النظام السوري عليه مراجعة العديد من العقود، منذ ستينيات القرن الماضي الى اليوم، وخاصة مرحلة السبيعينيات والثمانينيات، والمحاولات المستميتة التي قام بها حافظ الأسد للإمساك بقرار منظمة التحرير الفلسطينية حتى لو اقتضى ذلك تدمير ما لم تتمكن إسرائيل من تدميره في العام 1982، وكذلك السيطرة الكاملة على لبنان، ومنع قيام أي حراك سياسي أو عسكري غير منضبط، حتى لو أدّى الأمر إلى إرتكاب مجازر متبادلة بين حزب الله وحركة أمل لثلاثة أعوام.

كما على من يرغب في الدفاع عن النظام السوري اليوم مراجعة العلاقات المتشابكة والمضلّلة، وجلسات الحوار الطويلة التي أقامها النظام مع ممثلين عن شرائح في المجتمع الإسرائيلي، قبل أن يشرع في ترداد مقولات الممانعة والمقاومة، والصمود ومواجهة الإمبريالية. عليه أولاً أن يقرأ مئات الصفحات من أرشيف السفارات السورية في واشنطن ودول الغرب “المتآمرة”.

هذه ناحية واحدة من الصورة، ويمكننا أن نسحبها على اليوم الحالي، وهي بكل الأحوال تجسّد “حُسن” إدارة النظام السوري لمصالح من يمثّل من شرائح حاكمة، ورؤية جدّية قادرة على التحوّل إلى فعل يومي في مسيرة رسمها حافظ الأسد عن وعي وإدراك شديدين للواقع والتاريخ، مع معرفته الكاملة بلاأخلاقية الخيارات الكبرى، والصغرى. وهذا أيضاً ما استنسبه الأسد الإبن، وما قام به لحماية مصالحه ومصالح شركائه في النظام (الداخليين والخارجيين). وبغضّ النظر عن لاأخلاقية وعنف، وحتى إجرام ما يقوم به، فإنّه يحسن إدارة الصراع، سواء اكانت هذه الإدارة من بنات افكاره القليلات، ام بمساعدة خارجية.

لكن الناحية الأخرى من الصورة هي ما يجعل المرء يندهش، إنّها صورة المعارضات السورية المتنوّعة، تلك التي تعيش في الخارج، او تلك العاملة في الداخل، وعلى اختلاف مستوياتها.

وإذا كان المرء لا يمكنه أن يتوقّع من “جبهة النصرة” الكثير غير الخشية من يوم تقوى شوكتها، وتسعى الى اللحاق ومنافسة شقيقتها الكبرى “الدولة الاسلامية في العراق والشام”، فإنّه يراقب مذهولاً كيف يمكن للإعلام المُعارض ان يخدم اي شيء وكل شيء، إلا القضايا السورية المركزية، وكيف يمكن لهذا الإعلام أن يغرق في تصفية الحسابات وخلق العداوات، دون أن ينجح في طرح القضايا السورية على النقاش العام، وانتقاد الفساد الداخلي في اجسام المعارضة المتعددة، دون ان يغرق في النزاعات الشخصية.

يمكن تأمل الصراعات القائمة بين شخصيات النظام السوري، وكتمانها الشديد عن أسماع الإعلام، ومراقبة كيف تمكّن الإعلام الموالي للنظام من إقناع العالم بأنّه الشريك الوحيد المتاح لمكافحة الإرهاب “الاسلامي”، وأنّه الدواء الشافي من مرض الاسلاموفوبيا الغربي، بعلمانيته وتعدديته، بينما لم يشتبك جيش النظام وحزب الله وكافة الحلفاء مع داعش الا في اطار “ترسيم الحدود” بين سوريا الصغرى والدولة الاسلامية الكبرى.

في المقابل خسرت كل المنظومة الإعلامية المؤيدة للثورة كل المعارك، وبقيت كل الاعوام الماضية تراوح بين مقولتين “ساعدونا لأن قضيتنا محقة”، و”كل المعارضين عملاء إلا أنا”. خضع عدة آلاف من السوريين لدورات إعلامية مكثفة، وتم تمويل مئات من وسائل الإعلام، إلا أن التطور الوحيد الذي حصل في الإعلام السوري المؤيّد للثورة هو ذاك الذي وظفته القنوات العربية والدولية لمصلحتها الخاصة. وخسرت الثورة صورتها التي تعاطفت معها مئات الشعوب العام 2011.

على المستوى الميداني ذهبت الثورة السورية الى العسكرة، ربما بناءً للفعل ورد الفعل، إلا أن الكل في القوى المعارضة وافق بسهولة على “عسكرة من دون عسكريين”، ومع موت القادة الأُول الذين انشقّوا عن جيش النظام، تنحّى (ونُحّي) آلاف من الضباط السوريين إلى مخيمات الضباط، وتركوا المواطنين يُقتَلون بعنف سواء حملوا السلاح أم كانوا عزلا، وشاهدت المعارضة السياسية (مع التحفظ على الصفة) موت المقاتلين غير المدربين ببرودة قلّ نظيرها، واكتفت كما عادتها بالمطالبة بالتسليح والحماية الدولية واتّباع خارطات طرق كل المصالح الدولية الا مصالحها الوطنية.

الإرادات الدولية والإقليمية لمن يسمّى “أصدقاء سوريا” عملت على تمثيل مصالحها هي، لا مصالح الشعب السوري، ولا برهان غليون أو معاذ الخطيب أو أحمد الجربا. طبعاً يمكن إرضاء المعارضين السوريين ببضع آلاف من الدولارات وغرف خمس نجوم في فنادق بعض العواصم، إلا أن الصراع بين اصدقاء الشعب السوري من قطريين وسعوديين وأتراك وغيرهم، إضافة إلى النعاس الأميركي من الملف السوري برمته، يترك الشعب السوري نهباً للموت المتساقط من السماء ببراميل متفجرة او مياه امطار غزيرة.

ومع تراجع ملف التغيير في سوريا عالميًا، والاهتمام بالإسلاميين المتشددين منذ بداية العام 2013، أصبح المطلب شبه الوحيد للمعارضات السورية هو “الدعم، المساعدات، الحماية الدولية، اللجوء السوري”، علماً أن أغلب الناشطين بات حلمهم الوحيد اضافة الى الظهور الاعلامي هو الحصول على تأشيرات لاجئ في دول اوروبية محددة.

لقد حوّلت المعارضة السياسية والعسكرية الشعب السوري إلى “مدمن مساعدات دولية وشفقة عالمية”، مع تنفيس وحيد ممكن لحالات الإحباط هو التحاق السوري بالتنظيمات الجهادية طالما أن لا تنظيمات وطنية (عسكرية او سياسية) يمكن ان يعثر عليها في غير الاعلام الخارجي.

أصبحت المعارضات السورية المختلفة في ما بينها متّفقة على امر وحيد: السير قدماً في تكرار تجربة اللجوء الفلسطيني، والشتات الفلسطيني، وإن كان الفلسطينيون تعلّموا الكثير خلال أزمات شتاتهم، إلا أن المعارضات السورية تصر على تكرار التجربة من حيث بدأت لا من حيث انتهت.

ولا بد من تسجيل نجاحات المعارضات السورية في هذه الأيام المآساوية، فهي تمكنت من تحويل الثورة الى قضايا متفرقة، ووزّعتها على فصول العام. في فصل الصيف يمكن متابعة مجازر تنظيم داعش، وعقد المؤتمرات المطالبة بالدعم الدولي للقضاء على الإرهاب. في فصل الخريف يمكن عقد الاجتماعات الانتخابية التي لا تقل حزناً عن مشاهدة ملايين السوريين يعيشون تحت الخيام. في أشهر الربيع يمكن الحديث عن التواطؤ الدولي والهجمة الإيرانية والأمراض المنتشرة في الداخل السوري أو المناطق المحاصرة من قبل قوات النظام. ويبقى فصل الشتاء موسم المطالبة بالمزيد من المساعدات لشعب أصبح أكثر من ثلثه يعيش في الخيم في ثلاث دول، هي لبنان وتركيا والأردن، اضافة الى المناطق السورية الحدودية، ويحار الصحافيون في اي من هذه الدول يعتبر وضع اللاجئ السوري اسوأ.

هناك مسؤولية اخلاقية وتاريخية وسياسية لكل ما يحصل، ولكن ليس هناك من يحملها كما يبدو.

موقع لبنان ناو

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى