صفحات الثقافة

خريف البطريرك وربيع الناس !

 


خيري منصور

كان لا بد لماركيز من ان يقدم مشاهد روائية لربيع البطريرك قبل أن يتوغل في تفاصيل خريفه وقرائن الشيخوخة المنخورة والتي حُرمت بفضل فائض العمى من الحكمة والرّشد . فهو في ربيعه يعيش حفلة تنكرية، بحيث تحجب روائح العطر التي تضمّخ المكان وثياب الخدم الرائحة النتنة لأفكار ومفاهيم غادرها التاريخ منذ زمن طويل، كما يحجب الرخام السّخام الذي يعشّش في الأعماق وبعيدا عن العين المجردة، وكان ماركيز قد تساءل باندهاش : أين تعشش غربان السلطة الجائرة في هذه المشاهد التي يرشح منها الترف والرفاهية الكاذبة ؟

ان ربيع البطريرك يحفظه عن ظهر قلب مَن عاشوا في الحاشية، ومن احترفوا الاسترضاء وتدليك النرجسية الذابلة، ورغم ان ماركيز الكولومبي كتب روايته عن البطريرك في بيئة لاتينية بدت ذات يوم بعيدة … الا انها تشمل بلا جهد كبير في التأويل قارات منكوبة بهؤلاء الذين عقدوا مقايضة مع التاريخ وهو في قيلولته … ربيعهم خريف شعوبهم وخريفهم هو ربيع تلك الشعوب، لهذا فإن عافية البطريرك مسروقة بكاملها من ضحاياه، ودمه أشبه بقدم البقّة كما في مسرحية شهيرة للشاعر فلاديمير ماياكوفسكي، فالبقة لا دم لها الا ما تمتصه من دم الاخرين وكذلك الوطواط الذي تزدهر مواسمه عندما تكون الضحية شبه مخدّرة او غارقة في سبات يحرمها من حراسة عافيتها ودمها !

البطريرك سواء كان آسيويا او افريقيا لا يختلف كثيرا عن بطريرك ماركيز، لأن المعادلة التاريخية هي ذاتها رغم التباعد الجغرافي . فهو في ربيعه الآسيوي او الافريقي يقترف الجرائم ذاتها، ويغذي بطالته وتنبلة حاشيته من دم الناس، لأنه كما يتوهم خلق من أجل ضرورة قُصوى، وهو خالد وأبدي وسواه هم الفانون والعابرون… والطبعة العربية من البطريرك أجري لها الكثير من التنقيح، والزيادة، فهو يضيف الى سيرته الغاشمة شرعية ملفقة من زواج السماء بالأرض، وما من روادع ذاتية او حتى موضوعية تعوقه عن ممارسة ساديته، وهو محروم من لحظة صدق يعيشها أحد المقربين منه ليهمس بأذنه ما همس به الخادم السومري لسيده عندما ذكر بشرطه الأرضي، وبأنه ميت لا محالة رغم اوهام الخلود ! وما من مستشار أمين يقول له بأن الدم الذي يتلذذ وهو يتلمّظ به هو دمه في النهاية، لأنه أشبه بالهرّ الاحمق الذي تورط لسانه بمبرد حديدي … وفات الاوان قبل ان يصحو على الحقيقة السوداء وهي انه كان يمتص دمه وينتحر ببطء …

في ربيعه يُبرطِع البطريرك ومن يجتذبهم مغناطيسه كبرادة الحديد في ركن هو حديقة قصره الخلفية وان كان للملك النعمان، كما تروي الحكاية التاريخية، يومان هما يوم نعيم ويوم بؤس فإن لأحفاده من سلاطين العرب اياما كلها بائسة، ولا تعرف النعيم …

* * * * * *

ان لحظة انفجار المؤجل والمكظوم غيظا قد تصبح ملتبسة، بحيث تتاخم الفوضى او توشك في السقوط داخل كمائن الثأر وفخّ تصفية الحسابات، وهذا على اية حال عرض جانبي يصعب تخطيه ولو الى حين. وقد أدى تراث العسف الى تراكم مديونيات عربية خارج المدار الاقتصادي وحاسوبه ، فمن كان يجب ان يحدث قبل عقود تأخر عن موعده فأتاح للبطريرك اطالة عمر ربيعه مقابل ادامة خريف ضحاياه، لكن الآجل قد يفرز اضافة الى مديونياته النفسية والسياسية دروسا بليغة وصالحة للاعتبار بها بل التلقح بأمصالها ضد تكرار عهود الاحتكار والاقصاء والمعصومية الكاذبة لمن يملك الصولجان، وفي تاريخنا العربي لم يكن الطغيان جملة معترضة في كتاب بقدر ما كان المتن ذاته، لهذا يصدق على منجزنا التعبيري ما قاله دانتي ذات يوم عن شحّة المادة الخام التي يشكل منها الفردوس مقابل وفرتها عندما يتعلق الامر بمكونات الجحيم ومشاهده …

لهذا لا نستغرب ان يكون أدبنا الحديث خصوصا الروايات نصوصا مفعمة بالشجن وأبطالها يقارعون الهوامش والضواحي النائية التي يتم نفيهم واقصاهم اليها …

وبإمكان مؤرخ عربي قادم ان يفعل ما فعله مؤرخ مكسيكي، وهو تحويل الرواية بالتحديد الى وثيقة وجدانية، هي اكثر من مجرد قرينة لواقع، واحيانا قد يكتب التاريخ في بعده التأويلي روائيا او أدبيا بشكل أعمّ !

* * * * * * *

عاش العربي الجريح في سويداء هويته وذاكرته قرونا وهو بعيد عن نفسه، ويرقص بمفرده على ايقاع سياط جلاديه او كالديك الذي يخيط من نزيفه رقصته الاخيرة … فالاستبداد الذي كان في القرن التاسع عشر كما افتضحه النهضوي عبد الرحمن الكواكبي طبائع كان عليه ان ينتظر استقلالا ناقصا ومشكوكا فيه كي يتحول الى صنائع وبينهما .. بين الطبائع والصنائع ازدهرت محاصيل الشقاء، وتفاقمت الهوة بين المسكوت عنه والمسموح به، وبين الرغبة والقدرة على تحقيقها، مما ادى الى ذلك الاحباط الذي سرعان ما تحول الى ثقافة سائدة، وأدى الى شلل شبه كامل في الارادة والوعي …

وقد حمل البطريرك العربي ألقابا عديدة، لكنها في النهاية مجرد مترادفات للمعنى ذاته، وهو تحريم الفطام عن حليب السلطة المغشوش، وتأبيد الوصاية بحيث لا يبلغ سن الرشد غير الموتى !

* * * * * *

ما تقتضيه ثقافة العصيان على القطعنة وموروث الامتثالية والتقريد هو اعادة النظر في مناهج تدريس ملغومة بالتعقيم والتدجين، وثمة حكايات توارثناها جيلا بعد جيل علينا اعادة النظر فيها …

لقد قيل لنا ان الدب الأحمق والطيّب رمى صاحبه النائم بحجر وقتله لأنه اراد تخليصه من ذبابة تحوم على أنفه، لكن لم يكملوا لنا الحكاية وهي ان الذبابة فرّت ونجت لتحوم حول أنف شخص آخر تحرسه الدببة الحمقى … وقيل لنا ان الفأر نجح في تعليق الجرس بعنق قط كي تسمع بقية الفئران الرّنين وتنجو، لكنهم لم يقولوا لنا ان الجرس عُلّق بعنق قط واحد وان آلاف وربما ملايين القطط بقيت بلا أجراس، وقيل لنا اطيعوا اولي الأمر، لكن لم يقل لنا احد ما هو الفارق غير اللغوي بين اولي الأمر واولي القهر والفقر والزَّجر !

ان للتخلف كما الجهل والمرض قوانين نمو ايضا، وهي متواليات تمضي قدما في مضاعفة الشقاء والحرمان وليست مجرد زكام اصمّ . والمريض العربي ـ اذا استعرنا العنوان البريطاني عن المريض الانكليزي كما قدمته السينما يعاني من تخلف ومرض وجهل يضاف اليها التأجيل في التشخيص والمعالجة، وهذا الثالوث الاسود يتحالف استراتيجيا بقيادة البطريرك لابقاء الحال على ما هو عليه او أسوأ بأضعاف مما هو عليه، لهذا فمهمة التغيير في بُعدها المعرفي شاقة ومزدوجة، فثمة آنية يجب افراغها من السوائل التي استنقعت فيها قبل ملئها بسائل نظيف، خصوصا اذا كان هذا السائل هو دم الناس الذي ينزف في الميادين والأزقّة والزنازين …

بقي ان نقول ان الرواية القادمة التي يشترك ملايين العرب في تأليفها هي : خريف البطريرك وربيع الناس !!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى