صفحات سورية

خطاب الرحيل

 


عبدالباقي حسيني

من منبر مدرج جامعة دمشق، ألقى الرئيس بشار الأسد خطابه الثالث، بعد مرور سوريا بجملة من الأحداث الدراماتيكية خلال الأسابيع الماضية، والتي اتسمت بعدة مواقف داخلية وخارجية، إذ أن الشعب في الداخل و على مساحة الوطن تطالب النظام ومن خلال المظاهرات الشبه يومية، بالتغيير الديمقراطي والانتقال السلمي للسلطة، تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. أما في الخارج، فمعظم الدول الغربية ومن خلال الدولة التركية كانت تطالب النظام السوري بالإصلاحات الحقيقة أو التنحي، وقد أعطت تركيا مهلة محددة للنظام بين 3-5 أيام على اتخاذ الموقف النهائي من عملية الإصلاح و خروج سوريا من أزمتها. كان حظوظ بشار الأسد ونظامه قبل هذا الخطاب لاتتجاوز 10% لإنقاذ شخصه، وربما جزء من نظامه، لكنه نسف كل أمل كان متبقياً عند بعض السوريين من جهة، وعند بعض الدول الصديقة، مثل تركيا من جهة أخرى.

الخطاب الذي ألقاه لم يرتق إلى مستوى الأحداث الجارية في البلاد، بل كان مكتوباً بلغة خشبية، خالية من الإحساس، متعالية، أبوية، تخوينية، تهديدية، بعيدة عن تطلعات الشعب السوري، أراد منها الأسد أن يؤجل الإصلاحات السياسية إلى أجل غير مسمى، عندما ذكر فقرة ” تعديل أو تغيير الدستور”، يحاول أن يستفيد من عامل الزمن ويماطل في عملية التغيير الديمقراطي.

إذا ما دققنا ما جاء في كلمته من نقاط رئيسة، سنتأكد أن هذا الخطاب يغرد في واد بعيداً عن صيحات الشارع و مطالبه، لا بل يتحدى الشعب في كثير من النقاط. إليكم أهمها:

في بداية الخطاب تكلم عن المصداقية حيث قال” فالمصداقية التي شكلت أساس العلاقة بيني وبين الشعب والتي بنيت على الفعل لا القول”. هذه المقولة على عكس الواقع الذي يعيشه الشعب السوري تماماً، فلا ثقة للشعب بالوعود التي يطلقها الرئيس، فوعوده السابقة لم تنفذ حتى الآن، فكيف سيثق به في المستقبل؟. ثم جاء على تقييم الأحداث، وقال عنها “هل هي مؤامرة أم هي خلل”، وشدد على فكرة المؤامرة أكثر من فكرة الخلل، عندما قال:” فالمؤامرات كالجراثيم تتكاثر في كل لحظة وكل مكان”. لم يحاول الأسد أن يقترب من صلب الموضوع، بل حاول وفي كل مرة كعادته التهرب من الحدث، وربط ما يجري في البلاد ب “المؤامرة”، ومحاولة البعض في التدخل بشؤون البلاد الداخلية، دون ان يعير مطاليب الشعب في الحرية والديمقراطية أي اهتمام.

أشار الأسد في خطابه وبشكل غير مباشر إلى القانون 49 والقاضي بحكم الإعدام لكل منتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، قال “إن الحكومة حملت الأجيال الجديدة وزر آبائهم”، و اعترف بأن الإجراءات التي اتخذت بحق هذا الجيل كانت غير صحيحة. وهذا بحد ذاته إشارة لاستمالة جماعة “الإخوان المسلمين” إلى صفه، لكن الجماعة تدرك جيداً ألاعيب هذا النظام.

كما أشار وبطريقة ملتوية إلى المعتقلين السياسيين وعدم إطلاق سراحهم، عندما تحدث عن موضوع العفو، حيث قال: ” لقد شعرت في لقاءاتي الأخيرة أن هذا العفو لم يكن مرضياً للكثيرين”. بالرغم من أن موضوع إطلاق سراح السجناء السياسيين هو مطلب كل من مواطن في سوريا، وتطالبه أيضاً الدول الغربية لتحسين سجل النظام في مجال حقوق الإنسان، وحق الإنسان في الرأي والتعبير.

توصيفه وتقسيمه للشعب المتظاهر في ثلاثة مكونات خطيرة ك ( أصحاب الحاجات، المخربون، أصحاب الفكر المتطرف والتكفيري) واتهام المتظاهرين بالعمالة للخارج مقابل بعض الأموال، كانت بشعة و سخيفة و غير صادقة. و إذا اقتنعنا بهذا الكلام، معناه أن الشعب السوري بمجمعه هو “خلايا إرهابية نائمة” أو “جواسيس” وها قد استيقظت لتعيث فساداً في الأرض. إن الأرقام التي ذكرها عن عدد المجرمين في سوريا، إذ دلت على شيء فإنما تدل على الأعمال الإجرامية للمافيات والشبيحة المرتبطة بالأجهزة الأمنية التابعة لنظامه، وهي التي شوهت صورة الوطن، وليس المواطنون الذين يريدون دولة العدالة والقانون.

تذرع الأسد بالمظاهرت اليومية على إنها تعيق عملية الإصلاحات والتطوير، عندما قال: ” فلا تطوير دون استقرار، ولا إصلاح عبر التخريب والفوضى”. هذه الحجج وغيرها لم تعد تنطلي على أحد، فهو منذ 11 سنة ويوعد الشعب السوري بعملية ” التطوير والتحديث” و “الإصلاحات”.

ركز كثيراً على اللقاءات التي أجراها مع الوفود التي جاءته من كل المحافظات وسمع لمطالبهم، وقال عنها إنها مفيدة ولا تمر عبر الأقنية التي تفلتر المعلومات، بمعنى انه يعرف كم كان مخدوعاً بالحاشية التي تحيط به، وتنقل الأخبار الكاذبة عن الأوضاع المعيشية الصعبة للناس، و عن “كرامة الإنسان السوري المهدورة”، ولكنه الآن قد عرف كل شيء، فلماذا يتصرف مثلهم تماماً؟.

في كلامه عن الحوار، حاول أن يتفلسف ويعطي لهذه الحالة أكثر من وجه، وتحريف مسار الحوار الحقيقي، و الذي من المفروض أن يتم بشكل مباشر بين المعارضة و مسؤولين في النظام لوضع خارطة الطريق لخروج البلاد من أزمتها. لكنه أعطى الموضوع أكثر من تفسير و”مطمط” فكرة الحوار ليجعل منها مادة غير معروفة المعالم.

عدد في خطابه “الإصلاحات” أو “الإنجازات” التي أقرها سابقاً، و بعض التي سيعتمدها مستقبلاً، مثل: رفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة، تنظيم حق التظاهر السلمي، تشكيل لجنة لقانون جديد للانتخابات، قانون النزاهة، قانون الإعلام، قانون الإدارة المحلية، منح الجنسية السورية للمواطنين “الأكراد”، قانون جديد للأحزاب وأخيراً تعديل الدستور أو وضع دستور جديد. يستشف من كلام الرئيس، إن النظام ليست له نية في الإصلاح إطلاقاً وهو غير جدي فيه، فجملة المراسيم والقوانين التي أقرها خلال فترة الأحداث، لم ينفذ منها إلا الشيء اليسير، فالأرقام الذي ذكرها في موضوع منح الجنسية “للأكراد” لا تتعدى 10% من حجم المشكلة، وان المماطلة في موضوع الدستور، غايتها عدم إلغاء المادة الثامنة منها، وكذلك ربط أغلب الأمور بتشكيل “مجلس الشعب” الجديد، وهذا الكلام هو نوع من التهرب و إعطاء نظامه فرصة للتحايل و كسب الوقت.

لاشك إن الأحداث الجارية في سوريا و تداعياتها تركت آثاراً سلبية على الوضع الاقتصادي في البلد، و خاصة على صعيد تدهور قيمة الليرة السورية. كل هذا كان بسبب تصرفات هذا النظام الأرعن الذي تحدى المجتمع الدولي و قوانين الأمم المتحدة، فكانت نتيجة ذلك الحصار على هذا النظام وتجميد أرصدته. وفي الوقت نفسه فقد خاف الشعب في الداخل من المستقبل، لذا سارع أغلبهم إلى سحب ودائعه من البنوك وتحويلها من الليرة السورية إلى العملات الصعبة من الدولار واليورو، وبهذا انخفضت قيمة الليرة السورية، وأصبح الاقتصاد السوري على شفة من الهاوية. وفي هذا السياق طلب الأسد وبشكل مباشر وبلغة تهديدية من الشعب بدعم الليرة السورية، عندما قال: ” يجب أن نسأل في يوم من الأيام عندما نتجاوز هذه الأزمة بإذن الله أن نسأل كل مقتدر ما هو دورك، كيف ساهمت في هذه الحملة؟”.

في خطابه تطرق عن ملاحقة و محاسبة كل من أراق الدماء أو سعى إلى إراقتها، وسيعفو عن بعضهم ولن يتبع منطق الانتقام منهم. السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المتابعين في هذا الأمر، كيف سيتم هذا؟، عن من سيعفو؟، هل عن الضباط الذين قتلوا المدنيين بمسدساتهم (الفيديوهات شاهد على ذلك)، أم سيعلق مشانق الذين خرقوا القانون و خربوا الممتلكات العامة -ويعني بها تماثيل أبيه- كل هذه الأسئلة برسم الضمير الوطني للمسؤولين المتابعين لهذه القضايا.

بالنسبة للمهاجرين والنازجين إلى تركيا من أهالي جسر الشغور، تناول الأسد الموضوع بشيء من الاستخفاف وعدم الاهتمام، فكلماته كانت خالية من أي أحساس إنساني اتجاه الناس الذين تركوا منازلهم وسكنوا العراء، أطفال ونساء قطعوا الحدود الدولية خوفاً على أرواحهم من آلة الحرب التي استخدمها الجيش ضد مواطنيه، لم يشعر بمأساتهم ووضعهم في الخيم التركية ولو للحظة، لم يطمئنهم بأي ضمانة محلية أو إقليمية ملموسة تحسسهم أن رأس النظام سيؤمن لهم الحماية والعودة بالسلامة إلى ديارهم.

لم يشر الرئيس لا من قريب ولا من بعيد إلى أن الجيش سيرجع إلى ثكناته، بالرغم من أن هذا المطلب هو الأول الذي يطلبه كل من الشعب والدول الإقليمية والدولية،بل استبعد ذلك، بمعنى انه ضرب عرض الحائط كل النداءات والمطالب الدولية في وقف العنف و عدم استخدام الرصاص الحي ضد المواطنين. لا بل طلب هو من المتظاهرين التوقف عن الخروج، وإستبدال التظاهر بقلم يكتب عن فكرة أو رأي، وذلك لحصر الكتاب والمثقفين في زاوية وزجهم في السجون، وتاريخ هذا النظام مليء بمثل هكذا مواقف. كما طالب من الشعب المحتج بأن يحصر مشكلاته داخل الوطن، ولا ينشرها خارج الوطن لعدم إعطاء فرصة التدخل من قبل الدول الإقليمية والدولية، وكأن المتظاهر هو الذي يقتل ويسجن ويشرد هذا الشعب، وإن من هو واثق من سلوكه في الداخل لا يخشى إطلاع الخارج على ممارساته.

الخطاب بمجمله كان خطاباً محبطاً، ليس فقط للشعب الذي كان ينتظر “الفرصة الأخيرة” من الرئيس ونظامه لرسم خارطة طريق سورية، بل كان مخيباً لآمال الأشقاء العرب والأصدقاء الأجانب، الذين كانوا يعولون على هذا الخطاب الذي كان يأمل منه وضع حد لأزمة سوريا من حالة العنف والقتل إلى حالة منح الشعب السوري حريته و إعادة كرامته، لكن هيهات من نظام تربى طوال خمسة عقود، على الحكم الشمولي وعبادة الفرد وسلب الحريات ونهب المال العام، أن ينظر إلى تطلعات الشعب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. النظام السوري ورئيسه بشار الأسد بهذا الخطاب حدد يوم رحيله، فالشعب السوري لم يعد له أي ثقة بهذا النظام ووعوده في الإصلاحات، لقد كان هذا الخطاب، خطاب الرحيل.

أوسلو 21.06.2011

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى