صفحات الرأي

الجغرافيا الجنسية والتأنيث المتبادل!/ خيري منصور

لفترة ما بدت موضوعة التأنيث في بعده الجنسوي حكرا على الشرق، ففي اطروحة جورج طرابيشي الرائدة في هذا المجال كان التأنيث حكرا على الشرق، وذلك من خلال رصد واستقراء ابطال روايات عربية عاشوا في الغرب مثل يوسف ادريس في رواية ‘ الحي اللاتيني ‘والطيب صالح في ‘موسم الهجرة الى الشمال’ وتوفيق الحكيم في ‘عصفور من الشرق’.

وثنائية الذكورة والانوثة تبعا لهذا التصور ترتهن لتكوينات نفسية واجتماعية وتاريخية، يمارس من خلالها الشرقي تعويضا يعانيه ازاء الغرب المتفوق والكولونيالي، وكأن المسألة تصفية حسابات مع هذا الغرب الذي يصبح تأنيثه سبيلا للانتقام منه، وان كانت قصة د. يوسف ادريس ‘سيدة من فيينا’ قدمت اطروحة مضادة، حين يكتشف الشرقي في فيينا ان فهمه للغرب قاصر وبالتالي للانثى التي تعيش في نطاقه الحضاري، والغرب ذاته سعى الى التأنيث لكن من زاوية اخرى، ففي عام 1537 نشر يوهان بوتش خريطة لاوروبا على شكل امرأة، وكانت الاسطورة الشرقية قد سبقته الى ذلك، من خلال الحكاية المعروفة عن فتاة مدينة صور المخطوفة والتي صار اسمها اوروبا، ولكي لا يبقى الامر مقتصرا على الجغرافيا المجنسنة، فإن البشر منذ اقدم العصور نظروا الى البلد الاخر خصوصا اذا كان معاديا على انه انثى يجب اخضاعها بفض البكارة، وهناك امثلة عديدة يقدمها الكاتب التركي ارفين جميل شك في كتابه ‘الاستشراق جنسيا’ في هذا المجال، والحب ايضا كان له قاموسه المستعارة مفرداته من الحرب، والتي رصدها هيراقليطس على نحو آسر .

ان ما كتبه فلوبير عن مصر يفرط في التأنيث لأنه يضيف الخيال الى مشاهد تبدو كما لو انها من غير هذا العالم، وفي كتابه ‘رحلة الى الشرق’ يدفع هيرمان هيسه بأربعة من شخوصه كي يتوجهوا الى الشرق أحدهم هاجسه جنسي ويجتذبه سحر الشرق المضمّخ بالانوثة، لكن الفارق بين تأنيث الغرب للشرق والعكس هو دوافع هذا التأنيث، فالغرب لم يكن يمارس انتقاما ثأريا بقدر ما يلبي رغائب شحذتها الترجمات الأولى للّيالي العربية، وما اضافت المخيلة من سحر اسود.

* * * * * * *

في كتابه ‘الحب والغرب’، قارن دورجمون بين الحب العذري في الشرق وما يماثله في الغرب، وانتهى الى ان البحث عن عائق للوصال في الثقافتين يتكرر في الحالتين، انه الغزل والتشبيب بالحبيبة الذي يحول دون زواج العاشق من حبيبته في المثال العربي لمجانين ليلى واخواتها، وهو السيف الذي يمدد بين الجسدين كما في اسطورة تريستان وايزولده. اكثر من ذلك يقول دورجمون ان ليكوركوس مشرّع اسبارطة كان يفرض على المتزوجين من الشباب الامتناع الطويل عن ممارسة الجنس ليكونوا افضل قوة وأشدّ رغبة . ويذهب دورجمون الى القول بأن هناك تطابقا بين الحب الافلاطوني والحب العذري، وتفسيره هو ان حب تريستان وايزولده كان تعبيرا عن القلق من كونهما اثنين منفصلين ورعاية هذا الحب السقوط في المطلق، وكأنهما يحملان حنينا الى المثال الافلاطوني الذي يرى بأن الجنسين انشطرا كبيضة مسلوقة بشعرة او خيط حرير. ويبدو ان الشاعر بول جيرالدي صدق هذا الكلام حين كتب ديوانا يقول ان هدفه حذف حرف الواو بين أنا وأنت . وحين قرأت المقاربة الاستثنائية والفريدة للحب العذري في كتاب الطاهر لبيب ‘سوسيولوجيا الحب العذري’، استوقفتني مقارنة تاريخية بقدر ما هي اجتماعية بين قصة الشاعر العذري عروة بن حزام واسطورة تريستان وايزولده، مما دفعني الى قراءة الاسطورة مجددا التي اعاد صياغتها الفرنسي فاديه، ودفعني فاديه بدوره الى الاصغاء عدة مرات لاوبرا فاغنر عن الاسطورة، فالقواسم المشتركة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب ايضا قدر تعلق المسألة بالجسد والغرائز والحنين لا حدود لها شرط ان نعود الى الجذور ولا تستوقفنا التجليات فقط، ولعلّ هذا هو ما حفّز الشاعر اراغون في كتابه ‘مجنون ايلزا’ على الاعتراف بأن احداث شمال افريقيا جعلته يدرك جهله ونقصه الثقافي، وقد سبقنا جميعا سلامة موسى قبل عدة عقود وفي النصف الاول من القرن الماضي الى عقد مقارنة بين تناول توفيق الحكيم لبيجماليون وبين معالجة برنارد شو للاسطورة، واستطاع ان يستنتج بأن الفارق بين المعالجتين هو نتاج ثقافة وتاريخ، وما اراه ان مثل هذه المقارنات والبحث عن قواسم مشتركة هي بمثابة دحض ونقض للاطروحة الاستشراقية العمياء والمؤدلجة، فالشرق والغرب يلتقيان وليس كما قال روديارد كبلنغ، اشبه بمستقيمين متوازيين، وان كانت الحقبة الكولونيالية قد حاولت اعادة انتاج الشرق بحيث حوّلته الى مجرد شيء او موضوع او اصبح الشرق بٍدعة الغرب كما قال الراحل ادوارد سعيد.

* * * * * * * * *

لم يحظ الكتاب القيّم لايرفين شك عن الاستشراق الجنسي بالاهتمام رغم صدوره قبل عشرة اعوام، شأن العديد من الكتب التي ما ان تصدر حتى يتراكم عليها الغبار رغم ان هذا الكتاب يتوغل في قارة المسكوت عنه، لكن مؤلفه لا يعرف ما الذي حدث لكتابه في المكتبات العربية، فلأول مرة أرى كتابا محجبا، يستر غلافه كفن من الورق الأبيض لأنه يحمل على غلافه لوحة استشراقية لامرأة، وبذلك تكون الدعوة الى تحطيم التماثيل وتحجبها مجرد مرحلة يليها تحجب اللوحات وأغلفة الكتب وتلك حكاية تثير من الأسى ما يضيق به المقام. وبمناسبة ما اسميه التأنيث المتبادل اعود الى ظاهرة أخرى من صميم الاستشراق، هي التمدد المتبادل، فالقواسم المشتركة يمكن العثور عليها الى حدّ ما بين رحلة ادوارد لين الى مصر ورحلة ابن فضلان الى بلاد البلغار، لهذا نحتاج الى حفريات جريئة تكشط الطلاء وتسقط الاقنعة عن قضايا اصبحت تابوات، فالعصمة ليست من نصيب جهة او جنس او عرق، والقوي اذا احسّ بفائض قوته يتمدد تبعا لفيزياء تاريخية لا تختلف كثيرا عن فيزياء الطبيعة في ملء الفراغ.

* * * * * * * *

اذا كان توجه الاساطيل شرقا بحثا عن مادة خام واسواق ومياه دافئة، قبل ان يصبح النفط هو المغناطيس، فإن ذلك ليس حكرا على السياسة، لهذا خسرنا كثيرا من عزل الظواهر الانسانية ومنها الجنس وانماط الحب عن الصراعات، فالحروب الصليبية مثلا وجدت بعد قرون من يعيدها الى اسبابها الحقيقية، رغم امتلاء الذاكرة الاوروبية بأسباب اخرى.

واذا كنا قد حسمنا الامر بأن الشرق سعى الى تأنيث الغرب كانتقام ذكوري فذلك ليس ثابتا ميتافيزيقيا يجب التسليم به، لأن الغرب مارس هذا التأنيث للشرق سواء بدافع الاحلام والشهوة او بدافع الإخضاع، تبعا لما قاله الكاتب التركي اوريفين شك في كتابه عن الاستشراق الجنسي، واذا كانت معالجة د. يوسف ادريس لهذه الظاهرة من خلال ‘سيدة من فيينا’ هي استثناء وقطع لمتوالية رتيبة وافقية سار بها الحكيم وصالح وآخرون، فان في الغرب ايضا معالجات كهذه، هي جملة معترضة لا في كتاب الاستشراق فقط بل في سفر الثقافة الغربية كلها ، لهذا ارى في كتاب ‘الحب والغرب’ لدينيس دورجمون اعتذارا معرفيا للشرق تماما كاعتذار لويس اراغون الذي تقمّص مجنون ليلى وقام بتهجيره الى الوجدان الفرنسي.

ما تبقى هو ان عدوى التحجب انتقلت من الافكار الى اغلفة الكتب في عالم يصرّ على مواصلة الجهل بذاته قبل تورطه المزمن بجهل الآخر!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى