صفحات الثقافة

خطـــاب الرئيـــس

 


عباس بيضون

كان جورج الخامس يتأتئ لا بين عائلته ولا مع طفلتيه بل عندما يقرأ خطاباً. أي عندما يقتضي العرف منه أن يقف ملكاً، كان يستطيع بسهولة أن يكون أباً وزوجاً، أن يحكي قصصاً لابنتيه وأن يغازل امرأته لكنه لا يقدر بالسهولة نفسها أن يخاطب الأمة وأن يتحدث اليها كملك. الذين شاهدوا فيلم «خطاب الملك» حبسوا أنفاسهم وهم يرون الملك يكد ويتعذب ليصبح حقاً ملكاً. لست في وارد نقد سينمائي. لكن صناعة الملك مهمة شاقة، وإذا كانت صناعة الملك هكذا فكيف تكون صناعة الرئيس. إذا قسنا على القذافي ومبارك وبن علي فإننا لا نعرف من صنعهم وكيف كانت صناعتهم. لقد ارتجلهم في الغالب ظرف عجول وأزمة مستديمة. جاءت بهم انقلابات وجرفتهم ثورات. قبضوا على السلطة أو قفزوا عليها. لم يتدربوا ولم يقاسوا ولم يُسألوا الا حين آن رحيلهم. لم يتعلموا الحكم لقد وجدوه في دمهم، احتاجوا فقط إلى غريزة قوية. إلى جشع وضراوة واحتراس، كان هذا خطابهم وحملته إلى الأمة شبكة لا متناهية من المتنصتين والجلاوزة والمنتفعين والأقارب والمعذبين. من هذا خطابه لا يحتاج إلى كلام. السلطة موجودة في الهواء والسلطة بين كل اثنين او ثلاثة والسلطة بين المرء ونفسه، وعلى هذا فإنها كلية الحضور ولا خوف من أن تتأتئ او تنقطع، الرعايا هم الذين تنحبس أصواتهم ويتأتئون. الرعايا هم الذين تتقطع أصواتهم وإراداتهم. في حين أن السلطة المتدفقة السيالة لا تنقطع ولا تتلجلج. أمثال القذافي ومبارك وبن علي لا يحتاجون إلى كلام. السلطة السيالة تتكلم عنهم ويتكلمون بها، لن نسمع أصواتهم الحقيقية إلا حين تنقطع عنهم القوة. إذ ذاك نسمعهم يتوسلون: أعطونا بضع دقائق بعد، بضع دقائق لا أكثر، لم يحن وقت الرحيل. هكذا فعل مبارك وبن علي. وربما هكذا سيفعل القذافي.

في الخطاب الثالث سقط مبارك وفي الخطاب الثالث سقط بن علي، لقد نضبت قوتهم الشخصية بسرعة حين انقطع عنهم التيار، حين تكلموا بأصواتهم. حين استمدوا من قوتهم الخاصة وقعوا في الخطاب الثالث. صوت القذافي من دوي طائراته المغيرة، من فرق الموت التي هي كتائبه الأمنية. وما زال يستمد من الحديد والنار. حين ينقطع ذلك عنه، سيفعل كما فعل الآخرون، سيتوسل هو الآخر دقيقة أخرى، سيتلو مرافعته الأخيرة ويرحل.

رحلوا ويرحلون جميعاً بالسرعة نفسها. يكفي ان يتداعوا أمام الثورة ليظهروا مثلما كانوا دائماً، كاريكاتورات، جثثاً ملونة، دمى من قش. مجرد فزاعات. لقد ارتجلتهم صدفة واستردتهم عاصفة. لقد وُجدوا من هرائنا وتعاستنا، وُجدوا من تقلب الأيام علينا، من تعثرها بنا، وُجدوا من ضعفنا وخيباتنا، وها هم الآن يُرُوننا حجم ضعفنا وخيبتنا، كانا عظيمين حتى صنعنا منهما هذا المعبود المضحك، كانا عظيمين بحيث خرج منهما ذلك المهرج الذي قفز على أكتافنا وتركناه يفعل. سودناه علينا وكان في وسعنا ان نسوّد عصا أو خرقة، نصّبناه وكان في وسعنا أن ننصب دمية. عبدنا خوفنا وعبدنا يأسنا، كان هؤلاء هم ملوك اليأس. أصغر من أن يكونوا ملوك الشر. لم يكونوا حتى ملوكاً، كانوا في الأكثر ألاعيب اليأس، لعبوا بنا ولعبنا بهم. ضحكنا منهم وضحكوا منا، كنا وإياهم في ملعب التفاهة واحتقرنا أنفسنا فيهم واحتقروا أنفسهم فينا، حين لم يبق وقت للعب الدمى، رأيناهم يتأتئون، ويتصاغرون ويبصقون حصى من قلوبهم وأسنانا كبيرة متآكلة من داخلهم، رأيناهم يرحلون بدون أن يتركوا أثراً سوى خجلنا بأنفسنا وبهم. يجروّن وراءهم سلطتهم الباهظة لكن ما يبقى ليس شيئاً سوى كناسة عادية. رأيناهم يرحلون كما يولّي منام مسرع، ما يتبقى منه لن يكون حتى ذكرى مرعبة، يوم يرحلون ننتبه الى اننا أتلفنا أعماراً وأجساداً بلا سعر. لعبنا على رؤوسنا وقوتنا، لعبنا على شراييننا وانفصلنا عن إرادتنا وقوتنا، بل أجّرناهما للاشيء.

جورج الخامس تعب ليجد صوته. رؤساؤنا لا أصوات لهم ولا لغة ولا حتى ملامح، لهم فقط الهيئة نفسها. لا شيء ليصنعوه فكل شيء مصنوع من قبل، كل شيء، لم يتعبوا ليجدوه. لهم الهيئة النمطية لدمية الحاكم، لهم صوته المعدني ولهم فقط دعاؤه المستحب. دهاؤه الذي يتسمى ذكاء وهو ليس سوى صنعة وحرفة. عباراته التي تسمى مأثورات وهي فقط هراؤه اليومي، هي فقط أحابيله الممضوغة وحنكته التي تكوم عليها الغبار. لهم جمله البالية التي تخرج من فمه طينية متحجرة. لهم دمية الحاكم وأراجوزه. إنهم يدُلّون علينا بذكاء مغشوش. يدلون علينا بحيلة متآكلة وحكمة محنطة. يدلون علينا بتهم يشبه الفهم كما يشبه الغباء ويدلقون علينا صورهم كما الغسيل. إنها دمية الحاكم ونحن حينئذٍ نكون دمى، نصفق كدمى، ونهتف كدمى في لعبة خرساء وتظاهر احتيالي غالباً بالفعل، واستحضار سحري للتاريخ وادّعاء ملحمي وزجل نضالي. نحن الدمى الميتة الحية الشهيدة المقتولة المنبعثة حطباً وجذاذات. ملأنا الدائرة التي رسمناها كاملة حول وجودنا، ملأناها رماداً، ملأناها هواء سائغاً كجملنا، ملأناها كلمات يابسة كالقش. نحن الدمى التي تكره نفسها، ليس لنا سوى أحلام الدمى.

جورج الخامس أراد ان يكون ملكاً. خطاب واحد جعله ملكاً. كانت هنا صفة للملك، كلمة للملك. أما رؤساؤنا فليس لهم أي صفة. إنهم يغدون ملوكاً بصفات السوقة. زعماء بنفوس اللصوص، قادة بنوازع الشحاذين، وجبِّلة المحتالين والصعاليك. رجال دولة بذهنية العبيد، أنصار ومؤيدون مكبوسون كالأكياس. أكوام أكوام بلا صفة ولا ميزة. أكوام مكدسة. ركام من كل لون. عاديون بلا أي اختلاف. عاديون في سلطة عاديين، حيث السلطة هي فقط درجة، حيث تضيع الفوارق تماماً ويولد سديم ومزيج فحسب.

نتكلم من لبنان الذي فجأة شحبت ميزاته. فجأة لم يعد له سوى استثناءات ملتوية. سوى التواءات حديدية. سوى خصوصيات شبه مرضية حيث للامتياز أحياناً وغالباً شكل عاهة. نفكر في لبنان الذي يعيش على كسوره. الذي داخليته حرب خرساء، الذي يلفظ أكثر فأكثر بقايا ديموقراطيته الذي ديموقراطيته نفسها نزيف داخلي، لا نعرف متى يتحول هذا النموذج الصغير الذي استعمله الجميع بحيرة هذيان. الدم يلون كلامه وكلام من فيه، حتى الهذيان نفسه يخرج دامياً. يتكلم من فمه دماً ويحلم دماً ولا شيء يخرج منه سوى أحشائه وجوفه، نفكر في لبنان الذي فجأة غدا مستعملاً بكثرة وفوق الحاجة، قديما للغاية. نفكر في البلد الذي لا نعرف الآن كيف نحلم فيه، وكيف ننتمي إليه. هل نحلم بموجة ما ترفعنا فوق ذلك. هل نحلم بجيل ما يتكون خارج الصغائر والحزازات. هل نحلم بألم أخلاقي يضعنا فوق نعراتنا، هل ننتظر ان يحملنا الخجل الى ما فوق صغاراتنا، خجل نقي ومعذب وجدير من جديد أخلاقياً. ضد النعرات والمفاسد والغش السياسي والأحابيل الجامعة نرفع الولادة الأخلاقية. أفكارنا وأحاسيسنا فاسدة، مواقفنا فاسدة وأغانينا وحماساتنا فاسدة، لا بد من أزمة ضمير ومخاض اخلاقي للخروج. أيها الشباب ابحثوا عن خطابكم. أيها الشبان جدوا صوتكم وكونوا أعلى وأبعد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى