صفحات العالم

بداية النهاية في سوريا


عبد الوهاب بدرخان

في اليوم الأول من شهر رمضان، العام الماضي، كان قتلة النظام السوري يحاصرون مدينة حماة ويستبيحونها ويذيقون أهلها المهانة. اصطفت أرتال سيارات النازحين على مسافة طويلة، معظمهم من المسنين والنساء والأطفال. فرض عليهم العساكر خزي المغادرة، واستهزأ “الشبيحة” بهم: ألقوا نظرة أخيرة على مدينتكم، فلن تعودوا إليها، وإنْ عدتم فلن تجدوها.

دفعت حماة الثمن دماراً وتخريباً والكثير من الضحايا، للمرة الثانية خلال ثلاثين عاماً. لم ينقذها من الزوال سوى ضغوط الانتفاضة في المدن الأخرى المجاورة، مما اضطر النظام إلى سحب قواته لمواجهة الثوار في حمص التي ما لبثت أن غدت عاصمة الثورة وشهيدتها الحيّة. كان هذا أحد الأساليب الناجحة لـ”التنسيقيات”، التي أدركت أن النظام لا يستخدم كل قواه، بل يعتمد على جزء محدود منها لانعدام ثقته بالجزء الأكبر. لكنه عندما حاصر حي بابا عمرو في حمص عوّض قلة عديدة باستعمال الأسلحة الثقيلة والتدمير المنهجي.

في اليوم الأول من شهر رمضان، هذا العام، لم تعد أحوال النظام ومعنوياته كما كانت. خسر لتوّه عناصر ما يعرف بـ”خلية الأزمة”، وانتهت كل حملاته للحسم إلى الفشل، وأصبح مشكوكاً في قدرته على السيطرة على كامل البلد. فـ”المناطق العازلة” بدأت ترتسم، وهي في طريقها لأن تكون “مناطق آمنة”، ثم أنه دخل مرحلة تدمير العاصمة دمشق التي كان يباهي بهدوئها و”ولائها” له وبالحياة الطبيعية التي تعمّها. لم يسبق تاريخياً لأي حكم أن استطاع البقاء بعد انقلاب العاصمة عليه. أصبحت مقار النظام في قلب المعركة وتحت مرمى النار، وقريباً تحت مرمى الصواريخ، ولم يعد كبار المسؤولين قادرين على أخذ قسط مضمون من الراحة.

على الهاتف، من قلب دمشق، يقول الصديق السوري (كان حتى الأمس القريب موالياً للنظام): إنهم (عسكريو النظام وسياسيوه) يرحّلون عائلاتهم جميعاً. طوال الشهور الماضية تحدّوا الداخل والخارج بأن لديهم شعبية واسعة، لكنهم اليوم لا يسألون عن أحد. العلويون وبعض المسيحيين يقصدون مناطق الساحل، السنة وبعض المسيحيين إلى لبنان. لا يستطيعون المغادرة إلا إلى موسكو أو طهران، ولا رغبة لهم في ذلك. أحياء العلويين في العاصمة صارت مهجورة. الأحياء الأخرى ينزح أهلها في كل اتجاه. لم تعد هناك مناطق آمنة. القتال يمتد من حي إلى حي. خلال بضعة أيام تبدّلت الحال. لم نعد نستطيع مغادرة بيوتنا لم يعد النظام يعني لنا شيئاً. ولا أحد هنا ليحمينا.

هذا مناخ نهاية عهد، ولا ملامح واضحة للعهد الجديد. في الأساس ما كان لهذا القتال أن يحصل، وما كان لهذه الأزمة أن تطول. لعلها لا تزال تنذر بمزيد من الكوارث. شهادات كثيرة نقلت عن قادة أمنيين على الأرض، ومن أحد الذين قضوا في تفجير مبنى الأمن القومي. مفادها أن النظام لن يسقط بسهوله. إنه سيترك المدن الكبرى رماداً، إنه لن يتورع عن استخدام السلاح الكيمياوي و”ليبلّط مجلس الأمن البحر”. عرف النظام الحقيقة منذ الصرخة الأولى في درعا لكنه أنكرها. راهن على الوقت ولم يعرف كيف يستفيد منه. لم يعرف أنه مقطوع إلى هذا الحد من الشعب، وأنه كان أحرق كل الجسور معه. ذهب في إتقان القتل إلى أبعد مدى، لكن استسهال الشعب الموت فاجأه وشلّ آلته. للمرة الأولى لم يعد القتل ليرهب أو يردع أو حتى يميت، فكلما قتل كلما ازداد الشعب استبسالاً.

رغم تكاثر مؤشرات السقوط وعوارضه، وتسارع التطورات، لا تبدو النهاية وشيكة أو قريبة جداً. فطالما أن هناك سلاحاً، وطالما أن العائلة والطائفة اللتين تسيطران على السلطة أصبحتا مهتمتين بمصيرهما أكثر من حرصهما على الشعب والدولة والجيش، فإن القتال مرشح لأن يطول. فمن المتوقع أن تنتقل القيادة إلى اللاذقية، وإلى طرطوس، على الساحل لتكون بحماية القاعدة الروسية وتدافع عن كونها “الحكومة الشرعية” إمعاناً في إرباك الداخل والخارج… ومن يدري، فربما يحل الأول من شهر رمضان، السنة المقبلة، فيما تقول الأنباء إن قوات المعارضة التي حررت المناطق كافة تشن هجمات على “الدولة العلوية” القائمة بحكم الأمر الواقع حتى لو لم يعترف بها أحد.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى