صفحات الحوار

خليل صويلح: نصوص المدونات ركيكة ونجوم الدراما التلفزيونية احتلوا دور المثقف

 


سامر اسماعيل

ضد الرواية التاريخية التي وسمت المشهد الروائي السوري فترات طويلة

تتعامل رواياته مع المدينة السورية من موقع مختلف تمام الاختلاف، على أنه وفي روايته الجديدة «سيأتيك الغزال – صادرة مؤخراً عن دار رفوف بدمشق يعود خليل صويلح ليتذكر فيلم عمر أميرالاي وسعد الله ونوس «الحياة اليومية في قرية سورية» ليقول: «عندما رأيتُ هذا الفيلم لأول مرة عرفت حجم المفارقة التي وقعتُ بها، فبعد أن سافرت من الحسكة شمال شرق سوريا قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قاطعاً قرابة ألف كيلو متر لأكتب نصي في دمشق، عرفت أنني قد تركت نصي ورائي». هكذا أدرك صاحب «ورّاق الحب» أن نصه المؤجل في انتظاره بعد قرابة ثلاثين عاماً على غيابه عن الجزيرة السورية العليا.

التقينا الروائي السوري ليتحدث لنا عن روايته الجديدة ورأيه في اللحظة السورية الراهنة مبيناً أسباب غياب أو تغييب النخب المثقفة عن ساحة الفعل في بلاده..فكان الحوار الآتي:

÷ بدأت الكتابة كشاعر، والجميع يذكر لك ديوانك «اقتفاء الأثر» ما الذي أتى بك إلى الرواية؟

} جئتُ إلى الرواية من الشعر كون الشعر لا يؤلم أحداً فكل السوريين شعراء. في ذلك الوقت لم يكن في سوريا سوى قرابة خمسة عشر روائياً، مما يجعل من أي روائي جديد في نظر هؤلاء تلويثاً لأوكسجين الرواية، فلو كتبتُ الرواية وأنا شاب صغير يحلم بأن يصبح مثل وليد إخلاصي مثلاً لما كان هناك مشكلة، لكن كوني كنت قد نشرت ثلاثة دواوين شعرية حتى ذلك الوقت؛ كان من الصعوبة بمكان أن اقتحم عالم الرواية. لقد عرفت وقتها أن عليّ أن أقدم نصاً روائياً مفارقاً سردياً وفنياً، وإلا ما الذي يدعوني لدخول عالم الكتابة الروائية، ربما كانت لحظة وعي فردي قدمت ولادة ناضجة لروايتي الأولى «بريد عاجل» أضف إلى ذلك نظرة الروائيين المكرسين في الساحة الثقافية السورية الذين تساءلوا عما يريده ذلك الفتى القادم من الشعر…

÷ ولكن البعض يتهم رواياتك بأنها روايات إعلامية؟

} ربما لأنني ضد الرواية التاريخية التي وسمت المشهد الروائي السوري على مدى سنوات طويلة، فرواياتي كانت بمثابة شتيمة بالنسبة للروائيين المكرسين، أضف إلى أنه كان حتى مطلع التسعينيات ستة أو سبعة روائيين يعتبرون أنفسهم عباقرة الفن الروائي في سوريا، ولا أكتمك سراً أن هؤلاء كانوا مسرورين لموت هاني الراهب المفاجئ، وهذا اعتراف يجب أن أقوله كون الراهب كان من أكثر المجددين في الكتابة الروائية السورية المعاصرة، وموته أراح الكثيرين وجعلهم يتوقعون أنه ليس من أحد قادر على منافستهم أو تعكير صفوهم، إلا أن بزوغ جيل جديد من الروائيين القادمين من أماكن قراءة مختلفة للمشهد الاجتماعي والسياسي غير المعادلة، فجيلي قرأ أدب أميركا اللاتينية وروايات ميلان كونديرا، وقدم إلى دمشق من الريف البعيد، وأجزم أن هذا الجيل يعرف عن دمشق ما لا يعرفه الدمشقيون أنفسهم، جيل عايش عن قرب أحياء العشوائيات وسكانها، ودلف إلى ردهات مختلفة في المدينة، تسكع في حاناتها وحواريها الخلفية، واستطاع أن يكوّن معرفته الخاصة بالعاصمة كمدينة متعددة المشارب ثقافياً وديموغرافياً، فيما ظل الجيل السابق مستلق على ما يظنه كنز من أفكار قديمة وبائتة عن المدينة التي عاش فيها مستكيناً لأفكاره الراسخة عنها، و لهذا لا أستمد شرعيتي من أبناء ذلك الجيل.

÷ صحيح أن معظم كتّاب الجيل السابق قدموا رواية تاريخية لم تستطع جس نبض المجتمعات الجديدة، بل ظلت أشبه بـتخييل على نص تاريخي تم اجتراره، هل هذا ما جعل جيلك يتخذ من اليومي مقترحاً جديداً لنصوصه؟

} مشكلة جيل الرواد أنهم يعتقدون بأن الرواية عبارة عن نص يجب كتابته عن حياة منتهية حكماً، شخصياً حاولت أن أورد الحياة في الرواية كمقطع من نهر جارٍ؛ فالحياة اليومية كانت وما زالت شغلي الشاغل في نصي الروائي، ولذلك كنت مهموماً بكيفية إدخال جماليات قصيدة النثر على الرواية الجديدة، والعمل على التفاصيل الصغيرة، كيف تبني موزاييك ونسيجاً متكاملاً من هذه التفاصيل، فرواياتي لا تشتمل على قصص مشوقة، بل إنني أصر دائماً على خذلان قارئي حتى النهاية، وهو لا يعرف إلى أين يتجه النص، فالمشهد لديّ يلغي المشهد التالي، والصورة تلغي الصورة، لا وجود لمسار تقليدي في الذي أكتبه، كون حياتنا التي نعيشها ليس فيها هذا المسار التقليدي الصارم أصلاً كالذي يمكن أن تجده في الرواية التقليدية، أعتقد أن التشكلات الأولى للنصوص الجديدة هي نتاج اللحظة التي نعيشها من دون أن نستطيع توقع وجهتها ومساربها الحياتية الخاطفة، أمر آخر يمكن إضافته هنا لماهية ما أكتبه، وهو كوني مستقلاً عن أمراض الأيديولوجية ووجِدتُ على تخوم اليسار، أمر مكنني من أن تكون كتابتي أقل أمراضاً من نصوص الآخرين، ولذلك أشعر أن رواية اليومي التي حققتها هي أقرب إلى مزاج القارئ الجديد، لأن أغلب من أحب رواياتي كان من الشباب الجديد الذي خرج أخيراً من سطوة الأسماء الكبيرة؛ وعزلتها في غرف كتابتها الغامضة، مما ساهم بإعطائي مفتاحاً لمعرفة مزاج هذه القراءة الجديدة، ومن هنا جاء اتهام رواياتي بأنها روايات إعلامية، وهذا ليس صحيحاً، فقارئ اليوم يريد ما يشبهه، إنني أكتب من موقع القارئ، لا من موقع التعالي عليه، ولهذا كان اشتغالي على المشهدية، على الصورة التي استعرتها من عالم قصيدة النثر، لا على استطالات الوصف الذي يضني القارئ ويدمر أعصابه، أضف إلى استفادتي من لغة الصحافة الثقافية وتكريس الاختزال كمنطق في السرد، والذهاب إلى الموضوع مباشرةً، خذ مثلاً روايتي «وراق الحب» التي أعتقد أنها الرواية السورية الأولى التي تعاملت مع الأسماء الحقيقية للأمكنة والشوارع، فيما ظلت الرواية التقليدية مصرة على تسمية أماكنها بتسميات خيالية، ولذلك تلاحظ دائماً في روايات الجيل السابق أسماء أماكن عجيبة من قبيل.. «مقهى الوردة الحمراء» أو «شارع الزهور» وملهى «البنفسجة» وما إلى ذلك من تسميات غريبة، فيما عكفتُ في رواياتي على تسمية الأمكنة بأسمائها الأصلية، محاولاً مساعدة القارئ على تلمس خارطة الأمكنة وتضاريسها.

أسوأ ما جرى معي أن جميع رواياتي مكتوبة بضمير المتكلم، مما دفع بعض النقاد إلى مناقشتي على أنني بطل هذه الروايات، وعلى أن هذه الروايات نوع من أدب السيرة الذاتية، مع أنها ليست سيرة إطلاقاً، بالفعل هذا إشكال بأن يصبح الروائي هو المؤلف، مما دفع أحد الصحافيين للكتابة عن روايتي وراق الحب مقالاً بعنوان « لا ورق ولا حب» مستغرباً ما يعيشه بطل الرواية من ملذات ورغبات وشهوات جامحة مع جوقة من نساء جميلات، ولذلك شاغبت مناكفاً هذا القارئ لإبعاد الشبهات عني أو ربما إثباتها، فأطلقت على بطل روايتي التالية «ناريمان وسارة وزهور» اسم «خليل» مع فارق أن بطل الرواية هو مخرج سينمائي، فيما أنا لم أقم بإخراج أي فيلم حتى الآن، كنت أريد إشباع رغبة هذا القارئ بالتلصص الشخصي على الروائي، وإشباع هذه الرغبة لديه عبر إقناعه بواقعية ما يجري لهذا البطل-المؤلف.

الرواية التاريخية

÷ بعض رواياتك اشتبكت مع أوساط المثقفين السوريين، وسخرتهم لصالح سردها اللاذع، هل هذا نوع من التعويض عن الاشتباك المباشر مع السلطة؟

} بصراحة عملت على هذا في رواية «دع عنكَ لومي» لكن ذلك لم يكن انتقاماً من المثقفين، بل على العكس لقد كنت أريد أن أقول أن هؤلاء المثقفين هم عبارة عن ضحايا، وذريعة للكتابة عن جو عام لنخب جديدة، وذلك عبر استعارتي لبار رطب هو «الكهف» كنت أيضاً أريد أن أقول أن سوريا كلها هي عبارة عن كهف رطب ومظلم وهذا الإنشاء الناتج عن هذا الكهف لا يليق باللحظة السورية الجديدة، لقد كتبت ذلك مطلع عام 2000 مع دخول سوريا عالم المجتمعات الرقمية الجديدة، أعتقد أن روايتي كانت تبحث عن رواية بديلة، رواية تكون بمثابة رد على النص المتهرئ والجاهز للدخول في اللحظة التاريخية المختلفة، لحظة دقيقة قدمت أطيافاً لشكل مثقف تلك اللحظة، مثقف قادر على استبدال الكيبورد بالخنجر في أية لحظة، فدخول هذا النوع من المثقفين إلى لحظة العولمة أو الميديا الجديدة كانت لحظة زائفة؛ الخنجر ما يزال على خصر الكثير من المثقفين السوريين، ودخول هؤلاء في لحظة الحداثة كانت مسألة شكلانية غير ذات عمق معرفي أو اجتماعي، ولذلك ظلت المجتمعات القبلية على مكاتب الكثيرين ممن يدّعون القيام بأدوار ثقافية هي مجرد ديكورات، فحتى هذه اللحظة ما زالت القبلية تحكم عقول كثير منهم رغم كل ما أنجزه السوريون بعد الاستقلال نحو الحداثة والمدنية؛ إلا أن ذلك بقي على السطح، بدلالة أن معظمنا كسوريين ارتد في الآونة الأخيرة، نحو مربعه الاجتماعي الأول، عبر انتمائه الدفين إلى العشيرة والقبيلة وسواها من انتماءات ما قبل الدولة.

الزي الموحد

÷ إلام تعزو هذه الردة نحو العشائرية والقبلية؟ وأين دور المثقف من كل ما يجري اليوم في سوريا؟

} أعتقد أن السبب الجوهري لما يحدث اليوم في الشارع مرده الزيّ الموحد الذي فُرض على السوريين، حيث لم يكن هناك مساحة حقيقية لتنافر أو تجاور آراء، فكان هذا الزيّ «براني» يعكس مصالح وبراغماتية القوى التي فرضت هذا التشابه القسري على جميع الناس، فمع أن المثقف هو الجدار الاستنادي الأخير لأي سلطة عربية، إلا أن هذا المثقف تم شراؤه وإفساده باكراً، فطوال وجود هذه السلطة في الحكم فقد المثقف أمله في التغيير، فكان على الدوام سجين لحظته المسروقة منه، أضف إليه التهميش الذي تعرض له هذا المثقف حتى في الوسط الثقافي نفسه، وهنا يجب الإشارة لنوع آخر من المثقفين «المتنفعين» الذين تم إدخالهم إلى الوسط الثقافي، فما أسهل الدخول في عالمنا العربي إلى وسط الثقافة، لا سيما في مجال الصحافة الثقافية التي تعتبر من سقط متاع الصحف السورية ومطية للكثيرين من الدخلاء والمتنفعين، طبعاً مع ضرورة القول أن في سوريا ازدراءً للمثقف ونظرة احتقار له.

÷ لكن بالمقابل المثقف أيضاً نظر إلى الجمهور نظرة القطيع المتجانس، وعدم الجدوى من تحريضه، «فيل يا ملك الزمان» لسعد الله ونوس كانت مثالاً عن هذه النظرة، تذكر قصة الفيل الوحيد الذي احتاج في النهاية إلى فيلة كي تخرجه من ضجره وتنجب له عشرات الفيلة؟..

} أعتقد أن هناك فترة زمنية طويلة تفصلنا عن النخب التي تتكلم عنها، تلك النخب التي كانت خارجة لتوها من هزيمة 1967 وبين الجيل الجديد الذي أنتمي إليه على الأقل في الكتابة، فتلك النخب كانت تعاني من اغتراب إيديولوجي واضح في موضوع الكتابة وموضوع الحياة، أما نحن فنمثل جيلاً أقل تأثراً بالأيديولوجية التي كانت أقل وطأة علينا، فجيلي يؤمن بصناعة مشروعه الفردي، ولا وجود لديه اليوم لفكرة المشروع الجماعي، وإذا ما وجد هذا الشروع الجماعي سيكون جزءاً من حالة قطيعية، ربما اليوم وبسبب ما يجري في العالم العربي من حراك شعبي هائل نحتاج إلى صياغة مشروع جماعي جديد لمثقف جديد أيضاً، وذلك لترميم العطب الذي أصاب مجتمعاتنا العربية لسنوات طويلة، عموماً النص الروائي الذي أكتبه أنا و آخرون هو طموح لإنجاز لحظة تاريخية مختلفة في صناعة الكتابة نفسها، كتابة تخلت عن نوستالجيا القلم والورق الأبيض ورائحة الحبر كإنشاء نافل وفي غير مكانه، فالنص الجديد الذي أكتبه على شاشة الكمبيوتر أعطاني آليات جديدة للتأليف استطعت عبرها أنا و أبناء جيلي اقتراح نص مغاير، ليس تقنياً وحسب، بل في تصور المشهد والعبارة، أما الكاتب الذي ما يزال يصر على رائحة الحبر والورق الأبيض، فمن المؤكد أن نصه في مكان آخر، وهو على قطيعة معرفية ووجودية مع القارئ، فيما أسعى عبر النص الذي أكتبه اليوم إلى أن يكون جزءاً من سياق اللحظة العالمية، بعيداً كل البعد عن الإطنابات الإيديولوجية؛ ربما لذلك اتهم الروائي خيري الذهبي جيل الروائيين الشباب بأنهم مجموعة من البداوة وسكان الأرياف الذين يكتبون عن دمشق مع أنهم لا يعرفونها، وبأن معظمهم يكتب روايته بـ «أوردر» من السفارات الأجنبية.

÷ هل انتزعت نصوصك اعترافات أم أنها لا تزال تراهن على جوائز من الخارج، أم ستبقى روايتك رواية المهمشين وغير المعترف بهم؟

} بصراحة ما يعني من كل ذلك هو سعادتي في كتابة نص مختلف، ربما أسعد لقارئ يقول لي بأنه أحب ما أكتبه، لكنني لا أراجع رواية بعد طباعتها، فكتابة رواية عمل شاق جداً. الملاحظ أن الرواية السورية المعاصرة بدأت اليوم تأخذ مكانها، علماً أنها ولفترة قريبة كانت خارج المشهد العام للرواية العربية، سواء عن طريق الترجمة، أو حتى على مستوى طباعتها وتوزيعها في العالم العربي، أتصور أن الجيل الجديد وضع الرواية السورية على عتبة أخرى، ربما تحتاج إلى وقت طويل، وهنا لا أدّعي أن هناك ورشة كتابة مشتركة لدى هذا الجيل الجديد، فكل كاتب مسؤول عن نصه في النهاية.

الركاكة والمدونات

÷ كيف تنظر إلى النص الجديد.. أو كتابة المدونات والمواقع الإلكترونية؟

} حقيقة أجد من الضرورة اليوم أن يخرج نصٌ روائي جديد بفضل ما يحدث الآن من تغييرات جذرية في بنية المجتمعات العربية، فهذا أعتبره منعطفاً لهذا النوع من الكتابة، لكن هذا الشرط الموضوعي لا يكفي إن لم تتوفر القدرة الإبداعية على الكتابة، الكتابة الموجودة على المدونات معظمها يعاني من الركاكة التي ساهمت المواقع الإلكترونية على انتشارها، والإطناب الذي يسمعنا إياه البعض على ما يُكتب في هذه المواقع في غير مكانه، لأنني أرى ذلك عبارة عن ورشة مغلقة على نفسها رغم فضائها الافتراضي الهائل، إن مشكلة الكتابة الافتراضية عند الجيل الجديد أنها كتابة ركيكة ومرتجلة ولا تحمل إمكانية البقاء طويلاً، رغم أنني لا أعتب على هذه الكتابة، كون أنه في سوريا تم وضع قرابة جيلين على الهامش بسبب أوضاع سياسية بالدرجة الأولى، فرغم أن هناك نصوصاً أكثر تحرراً، إلا أنك لا تجد العمق في هذا النص، إنها مشكلة ذات بعدين في النص السوري، فإما أن تجد نصاً إيديولوجياً صارماً، أو تقرأ نصاً جديداً حراً وطليقاً، لكنه في الوقت ذاته ضعيف وركيك، ولذلك أعتقد أنه حالما نتخلص من هذه الركاكة سيولد هذا النص الجديد والمغاير.

÷ لكن هذا النص الركيك، كما تسميه، هو من قاد ويقود الثورات العربية على الفيسبوك..وغيرها من المواقع الإلكترونية؟

} صحيح، إن هذا الجيل سيفرد نصوصاً مهمة لكن لأصحاب المواهب فقط، فمشكلة الانفتاح الاتصالي الإعلامي في العالم العربي أنه راكم الغث والثمين جنباً إلى جنب، مما يحتم فترة طويلة للفرز بين الجيد و السيئ، أنا شخصياً لا ألغي هذا النص، بل إنني أحاول أن أستفيد من أدب المدونات، المهم كما قلت لك أن تكتب نصاً أدبياً ذا مقومات جمالية، فالموقف الجمالي في النص الروائي على درجة كبيرة من الأهمية، أما أن تكتب أي كلام عابر وتدخله في خانة الأدب، فهذه مشكلة حقيقية، وهذا ما جعل التشابه قائم بين بائع البطاطا والكاتب في سوريا، بائع البطاطا يستطيع أن يجلس مساءً إلى الفيسبوك ويقول لك: البطاطا بخير أيضاً.! لاحظ أن الكم الأكبر مما يكتب في المدونات والفيس بوك ذو شأن عاطفي أكثر منه شأناً سياسياً أو ثورياً، فالذين يكتبون يناضلون لنصب الشراك لفتياتهن، أكثر من كونهم مناضلين في الشأن العام، أضف إلى أن كتابة الفيسبوك تعمل على تصدير أبطال وهميين، وستلحظ من أمثال هؤلاء على صفحته الخاصة من لا يقل شأناً عن يوسف العظمة، لكنه في الحياة الواقعية لا يجرؤ على عبور شارع في وقت متأخر من الليل، حقيقة هذا إشكال حقيقي، وبصراحة الآن هناك انفصام في الشخصية السورية، وهذا برأيي يعود إلى غياب الوعي، ولذلك تلاحظ أن معظم هؤلاء لاعبو خفة أكثر من كونهم كتّاباً.

÷المدينة الناعمة.. الكاتب..المقهى.. الرصيف.. الحانة.. الأصدقاء هل تخشى فقدانها اليوم؟

} هي خيارات فردية بالنتيجة، أكيد ليس لدي علم بما ستؤول إليه الأحداث، لكننا سندافع بشراسة عن أمكنتنا، سواء في المسرح أو السينما أو الكتابة، مع أننا لم نفقد هذه الأشياء فجأةً، وإنما فقدناها تدريجياً، إلا أنه من عشر سنوات ونحن نسأل: أين صالات المسرح؟ أين قاعات السينما؟ الواقع أن الجهات القائمة على الثقافة أهملت هذه الأمور، شخصياً قمتُ بكتابة عشرات المقالات في الصحافة عن غياب المسرح والسينما والكتاب، لكن للأسف لم ينظر أحد لما نكتبه في الصحافة الثقافية بجدية على الإطلاق، فماذا يفسر خلوّ صحفنا السورية من كاتب عمود واحد؟ فالنجوم في سوريا هم نجوم الدراما التلفزيونية فقط، وهؤلاء احتلوا نهائياً دور المثقف، فممثلو الدراما هؤلاء تراهم على مدار الساعة على شاشتنا الوطنية السعيدة، يتكلمون في الطبخ والسياسة والأبراج والاقتصاد، والفن المعاصر، إنهم حواة بكل ما في كلمة من معنى، الطامة الكبرى أن هذه الشاشات هي من سمح للممثل التلفزيوني بأن يمدد ظله على كامل المشهد الثقافي السوري، فيما بقي المثقف على الهامش، وبالتالي يجب على المثقف أن يستعيد دوره، لكن بأدوات جديدة. علينا الاعتراف أن جزءاً كبيراً من مثقفينا متواطئون مع السلطة، وليست هذه الأخيرة هي وحدها المسؤول عن تغييب النخب، أيضاً المثقف تنازل عن دوره مقابل رفاهية أمنتها له السلطة.

على سبيل المثال أرى اتحاد الكتاب العرب في سوريا أشبه «بسوبرماركت» في زمن «المول» فلدى هذا الاتحاد قلة من الزبائن، ووجوده يعني المنتفعين منه فقط، ولذلك أحزن على الميزانية المالية الضخمة التي يتمتع بها الاتحاد، والتي كان لها من الأفضل أن تذهب إلى مشاريع ثقافية استراتيجية، حتى وزارة الثقافة في سوريا أين دورها اليوم؟ سمعت تصريحين متشابهين لوزيري ثقافة متعاقبين قالا إنهما لا يصنعان ثقافة، بل إنهما يديران ثقافة، أعود وأقول لك ما يحدث للثقافة السورية ليس مفاجئاً، فأنت حين ترى كتاباً صادراً عن وزارة الثقافة في الثمانينيات ومطبوعاً خمسة آلاف نسخة عندما كانت سوريا كلها لا يتجاوز عدد سكانها السبعة ملايين نسمة، وتشاهد اليوم كتاباً مطبوعاً ألف نسخة وعدد سكان سوريا ناهز أربعة وعشرين مليوناً؛ ستعرف أي حال وصلت إليه الثقافة السورية، وبالتالي كيف يعيش المثقف، وممثل تلفزيوني يكسب لقاء مشاركته في عمل تلفزيوني واحد ما يعادل كل ما يتقاضاه الكاتب طوال عمره؟ فلو دفع اليوم نجوم التلفزيون ضرائبهم المستحقة عليهم ودخلت في صندوق وطني لصناعة السينما لقدمت سوريا عشرات الأعمال إلى صالات العرض العربية والأجنبية.. هناك زيف عام، ورجوع نحو ثقافة البداوة التي بدأت تزحف منذ التسعينيات إلى سوريا، ودليل ذلك كل هذا الكم من المحطات التي تقوم على تمويل هؤلاء الممثلين التلفزيونيين، مما أدى إلى إنتاج جحيم بصري متخلف ومشوّه، ليصنع بدوره ذائقة بدوية عبارة عن مزيج من الكبت الجنسي والشعارات الإسلامية المتطرفة، وهذا يحتاج إلى جيش من علماء الاجتماع لتفسير جانب مما يؤثره هذا وينتجه في أسرنا العربية، المشهد التلفزيوني العربي كله يقع اليوم على حدين، فإما لداعية إسلامي أو لمغنية شابة.

÷ بصراحة هل يلعب بعض الروائيين السوريين على نبرة استشراقية إزاء غياب علم الاجتماع العربي؟

} هذه فكرة باطلة، فكم هي عدد الروايات السورية المترجمة إلى اللغات الأخرى؟ لا أعتقد أبداً أن الرواية السورية اتكأت على نبرة استشراقية، لكن كروائي أشعر أن نشر الغسيل الوسخ جزء أساسي من الكتابة الإبداعية، وهذا ما يمزج بين الروائي والإعلامي، هذه ليست مهمتي، مهمتي أن أقدم نصاً يقيم في الذاكرة، أن أعبر عن مرحلة، أما الإعلامي فشيء آخر، لكن اليوم الخطير هو الذي يهيمن فيه الإعلامي على النص الإبداعي، خصوصاً أن الإعلام الرسمي مثلاً يطالب بكتابة تشبهه، فعندما لا تقوم بذلك كروائي، توجه لك تهمة الاستشراقية وأن «عينك على الغرب»، وما إلى ذلك. أنا أكتب بسعادة، لا أفكر لا بشرق ولا بغرب، لأنك كروائي لا تعرف أين تقودك مصائر الشخصيات التي تكتبها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى