صفحات سورية

خواطر شاهد عيان


د. محمد أحمد الزعبي

الخاطرة الأولى

دعيت بعد ظهر الخميس السابق لجمعة ” الله معنا”إلى وقفة اعتصام في الساحة الرئيسية في مدينة لايبزغ الألمانية Augustusplaz حيث اعتاد أن يتجمع العشرات من أبناء الجالية السورية المعارضين لنظام عائلة الأسد ومن مؤيديهم من اليسار الألماني .

وقد تصادف أن دخلت خلال فترة الاعتصام مع أحد الإخوة المشاركين في حوار عام حول الوضع الحالي في سورية ، وبالذات حول كيف ومتى ستكون نهاية تلك المذابح الهمجية التي يمارسها شبيحة بشار وماهر الأسد ضد الشعب السوري ، والتي بلغت حصيلة ضحاياها حتى اليوم ( 4 /8 /11 ) بضعة ألوف من الشهداء (البضعة هي الرقم الذي يقع بين الثلاثة والتسعة) وعشرات الألوف من الجرحى ، ومئات الألوف من المعتقلين والمفقودين ، ناهيك عن الخسائر المادية الناجمة عن اجتياح الجيش العقائدي (!!) للعديد من المدن وتدمير بيوتها، وبنيتها التحتية، والقضاء على كل اشكال الحياة فيها ؟ .

لقد كان أهم ماسمعته من هذا الشاب هو قناعته الكبيرة ، بأن بشار الأسد ماكان ليجرؤ على القيام بهذه المذبحة الممنهجة والمستمرة منذ خمسة شهور، لولا أن لديه ضوءاً أخضر من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل .عندما عدت إلى البيت ، وفتحت التلفاز ، استمعت إلى خبرين جديدين ، أولهما أن جيش بشار الأسد قد اجتاح مدينة حماة التي سبق لوالده أن اجتاحها ودمرها عام 1982 وأن دباباته في طريقها إلى محافظة دير الزور، والثاني أن روسيا قدغيرت موقفها من النظام السوري ، وحذرت بشار الأسد بأن مصيرا محزنا بانتظاره إذا مابقي مصراً على متابعة هذه المذبحة البشرية في سورية . هذا مع العلم أن هذا الموقف الروسي الجديد قد تزامن وتقاطع مع إنذارات مماثلة لبشار الأسد من دول الاتحاد الأوروبي ( ألمانيا ، فرنسا ، انكلترا خاصة ) والولايات المتحدة الأمريكية .

لقد أوقعني سماع هذين الخبرين في حيرة من أمري !! ، فمن جهة ، أرى بلدا تحرقه شبيحة بشار الأسد وتهلك الحرث والنسل فيه ، ومن جهة أخرى ، أسمع ممن جاء بإسرائيل إلى فلسطين وجاء ببشار الأسد وأمثاله من الديكتاتوريين العرب إلى سدة الحكم لكي يدافعوا عنها ويحموها كلاما معسولا ظاهره الإنحياز إلى الشعب السوري الذي ” يريدإسقاط النظام ” ، وباطنه ينطوي على ألف إشارة استفهام لايعلم الإجابة الصحيحة عليها إلا الله والراسخون في فهم وتحليل” نظرية المؤامرة ” من الذين يرون أن مساعدة الشعب السوري الصادقة والفعلية لاتكلف دول الديموقراطيات وخواجاتها سوى اتصال تلفوني جاد واحد تقول فيه” شكراً لك يابشار، أيها الابن البار لأبيك حافظ الأسد ، فلقد خدمتمانا وخدمتما إسرائيل بما فيه الكفاية ، ونحن لانريد أن نربح الشجرة ونخسر الغابة ، أعد الجيش إلى ثكناته يابني ، وشكر الله سعيكم !! “. وبما أن الدول المعنية لم توقف أسودها !! عند حدهم رغم كل الدماء التي سالت في سورية ، فإنني مضطر أن أتفق مع الشاب السوري الذي ذكرته أعلاه في أن بشارالأسد ربما كان يملك الضوء الأخضر من بعض القوى الخارجية لتنفيذ مجازره الوحشية في سورية .

تساؤلات ثلاثة مشروعة تطرح نفسها هنا على طاولة هذه الخاطرة هي:

التساؤل الأول : ترى هل إن حكام الديموقراطيات الغربية هم ” معنا ” ( الشعب السوري ) أم ” ضدنا” ( مع بشار الأسد ) ، وبالتالي مع كل من يعترف بإسرائيل ويلتزم بحمايتها من العرب والعجم ؟ ،

التساؤل الثاني : ترى هل إن الربيع العربي الذي افتتحته ثورة 18 ديسمبر 2010 التونسية ، وجذرته ثورة 25 يناير 2011 المصرية ، وتسير الآن على هديهما وخطاهما ثورات ليبيا ، واليمن ، وسورية

هو في خطر؟ بل ويتعرض ل “مؤامرة” مدروسة ، يحمل أصحابها ( الديمقراطيات الغربية ) ” الربيع ” في يد ، و” الشتاء” في اليد الأخرى؟،أي أنهم يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم ، ويقدمون لنا السم في الدسم ؟! التساؤل الثالث : ترى هل إن الموقف السعودي الإيجابي الجديد من الثورة السورية ، يدخل تحت إطار

الضوء الأخضر الذي أشرنا إليه أعلاه ، أم أن إخوتنا في دول الخليج العربي وفي الأزهر الشريف ، وفي الجامعة العربية قد أيقظتهم صرخات طائر العنقاء فوق رؤوسهم : ” صمتكم يقتلنا ” ، ” الله معنا ” ؟

الله أعلم ؟!.

الخاطرة الثانية :

كنت وما زلت من محبي المرحوم زكي الأرسوزي ، أحد أقطاب الفكر القومي في النصف الأول من القرن العشرين . وأرغب ان أذكر ( كشاهد عيان ) في هذه الخاطرة حادثتين تتعلقان بهذا الإنسان الكبير

أولهما ، أنني علمت عندما كنت وزيرا للإعلام في سورية عام 1966/67 أنه لايوجد في بيت زكي الأرسوزي جهاز تلفاز، وقد كان هذا أمرا غريبا بالنسبة لواحد بحجمه الأدبي والفكري، فقمت بإهدائه تلفازاً كتقدمة من وزارة الإعلام ، الأمر الذي أوجد لديه استحسانا كبيراً، وأوجد بيني وبينه رابطة أخوية .

وبعد هزيمة حزيران 1967 ، واعتذاري عن الاستمرار في العملين الحزبي والسياسي ، علمت أن الأستاذ الأرسوزي طريح الفراش، وأنه موجود في المستشفى (أظنه مستشفى المواساة) للعلاج ، فبادرت ومعي صديقان آخران من محبيه أيضاً إلى زيارته في المستشفى ، وهناك شكرني على التلفاز ، وفاجأني بمعرفته بكل تفاصيل الخلاف بيني وبين الرفاق في قيادة الحزب والدولة آنذاك ، وبأنه يعطي لموقفي ولوجهة نظري الحق في هذا الخلاف ، مقابل وجهات نظرالآخرين .

أهم من كل هذا أنه قال لنا وهو على فراش مرضه : إن على العلويين أن يتركوا السلطة لغيرهم بعد أن فشلوا في حربهم مع إسرائيل ( وكان يعني حرب حزيران 1967 )!! ، وهنا سألته : وهل تعتقد ياأستاذ أن من يحكم سورية الآن هم العلويون ؟، فأجابني دون تردد : نعم ، وتابع ، وبما أنهم فشلوا في تحرير فلسطين فعليهم أن يتركوا السلطة لغيرهم . إذن فقد أوهموه أنهم إنما جاؤوا إلى الحكم لتحرير فلسطين .

لقد مات زكي الأرسوزي ــ رحمه الله ــ عام 1968 ، أي قبل أن يعرف أن حافظ الأسد قد رفع شعار “الأرض مقابل السلام ” مع الكيان الصهيوني ، بكل مايعنيه هدا الشعار الملغوم من تنازل عن الحق القومي والديني والتاريخي في فلسطين، مقابل البقاء في السلطة ،أي عمليا ” الأرض مقابل الكرسي ” ، وليس مقابل السلام ، بل وقيامه بتوريث هذا الكرسي لولده بشار كيما يستمر هذا الأخير في التعتيم على دورأبيه المشبوه في حرب حزيران ، وفي السكوت على احتلال وضم إسرائيل لهضبة الجولان ، وهو ماحصل ويحصل منذ 1967 وحتى هذه اللحظة .

إن مايقوم به بشار الأسد في سورية منذ 15 /03 / 2011 ، حيث يطارد بدباباته ومدفعيته وشبيحته المظاهرات السلمية ، مدينة مدينة ، وقرية قرية ، ودارا دارا ، وزنقة زنقة ، سائرا بذلك على خطى وهدي دكتاتوري ليبيا وصنعاء ، إنما يدخل عملياً في استماتة عائلة الأسد في استمرار التستر على جرائمها الداخلية والخارجية ، الوطنية والقومية ، طيلة العقود الأربعة الماضية ولكن هيهات .

فليرحم الله الأستاذ زكي الأرسوزي , وليرحم الله شهداء ثورة الخامس عشر من مارس التاريخية العظيمة

الذين يحققون اليوم بدمائهم الطاهرة حلم ذلك الرائد القومي الكبير زكي الأرسوزي في ضرورة خروج “أبطال!”هزيمة 1967 من السلطة ،وإعادتها ممثلة بشعاري الحرية والكرامة اللذين صدحت وتصدح بهما حناجرشباب الثورة ، من أمثال ابراهيم قاشوش، إلى الشعب السوري ، بعد أن صادرتهما عائلة الأسد منذ مايقرب نصف قرن من الزمان !!.

الخاطرة الثالثة : ( قصة البلاغ 66 المتعلق بسقوط مدينة القنيطرة في حرب حزيران 1967 )

تنبع أهمية التوقف الطويل والعميق عند هذا الموضوع والذي كنت الشاهد الرئيسي فيه، بحكم وضعي الحزبي ( الأمين العام المساعد لحزب البعث ) والحكومي ( وزير الإعلام ) إبان صدور هذا البيان ،

بسبب كونه يلقي ضوءاً على كثير من الممارسات اللاحقة لحافظ الأسد ، ولا سيما انقلابه العسكري عام 1970 ( الحركة التصحيحية !! ) على قيادة حركة 23 شباط 1966 ، وزج كافة أعضاء هذه القيادة قرابة ربع قرن من الزمن في سجن المزة العسكري دون سؤال أوجواب ، الأمر الذي أدى الى وفاة كل من الدكتور نور الدين الأتاسي ( الأمين العام لحزب البعث ، ورئيس الجمهورية العربية السورية )واللواء صلاح جديد ( الأمين العام المساعد لشؤون القطر السوري ) . إن قصة هذا البلاغ هي كالتالي :

1. كانت البلاغات العسكرية المتعلقة بحرب حزيران عام 1967 تأتي إلى مديرية الإذاعة والتلفزيون التي كان يرأسها المرحوم عبد الله الحوراني من غرفة العمليات العسكرية التي كان يتواجد فيها وزير الدفاع (المرحوم حافظ الأسد ) .

شكا إلي السيد عبد الله الحوراني ، أن البلاغات العسكرية التي تصله من غرفة العمليات تنطوي على أغلاط لغوية وبالتالي فإنه لايمكن إذاعتها دون تصحيح هذه الأخطاء . اتصلت على الفور بوزير الدفاع، واقترحت عليه أن أرسل لهم إلى غرفة العمليات إعلامياً متمكنا من الناحية اللغوية هو السيد أحمد اسكندر الأحمد، يقوم بالتصحيح اللغوي للبلاغات العسكرية قبل أن ترسل إلى الإذاعة والتلفزيون ، فوافق المرحوم حافظ الأسد على ذلك الاقتراح ، و تم وضعه موضع التنفيذ فوراً .

2. استمرت البلاغات العسكرية تتوالى بصورة طبيعية وروتينية من غرفة العمليلات العسكرية إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون إلى أن وصلنا البلاغ رقم 66 موضوع هذه الخاطرة . جاءني السيد عبد الله الحوراني مدير الإذاعة والتلفزيون ليخبرني عن أنه قد وصلهم بلاغ من غرفة العمليات يشير إلى سقوط مدينة القنيطرة ( عاصمة هضبة الجولان ) بيد الجيش الإسرائيلي ، وأن إذاعته ستحدث بلبلة وفوضى وحالة من الإحباط بين موظفي الإذاعة والتلفزيون . أخذت منه البلاغ ( رقم 66 ) ووضعته في مغلف خاص ، وسلمته إلى مدير مكتبي السيد عزيز درويش ، وطلبت منه أن يذهب به إلى مبنى القصر الجمهوري حيث يجتمع كبار قياديي الحزب ، ويسلمهم الرسالة ـ البلاغ . سلمهم عزيزدريش الرسالة ، وبعد أن قرؤوها ، اتصل بي أحد هؤلاء الكبار ليبلغني أن ” الرفيق حافظ ” قد أبلغهم بسقوط القنيطرة ، وأن علي أن أذيع هذا البلاغ . عاد عزيز درويش بالبلاغ ، وتمت إذاعته .

3. أحدثت إذاعة البلاغ 66 حالة من الفوضى بين موظفي هيئة الإذاعة والتلفزيون ، اضطرتني ان أتدخل معهم شخصيا لكي يهدؤوا ويتابعوا عملهم ، ولا سيما أن المعركة مع إسرائيل ماتزال مستمرة ،

حيث استجابوا لتدخلي وتابعوا عملهم .

4. بعد مرور حوالي نصف ساعة من إذاعة البلاغ ، اتصل بي هاتفيا وزير الدفاع ( حافظ الأسد )

ليبلغني بوجود إشكالية تتعلق بالبلاغ المذكور ، وعندما استوضحته عن هذه الإشكالية قال : يبدو رفيق محمد ان القنيطرة لم تسقط بيد الجيش الإسرائيلي ، فسألته : ولماذا بعثتم إلينا إذن ببلاغ سقوطها ( البلاغ 66 ) فقال : لقد اتصل بي ضابط من الجبهة ( لم يذكر إسمه ولا رتبته )وأبلغني أن القنيطرة قد سقطت وانا صدقته ، وارسلنا إليكم البلاغ على هذا الأساس (!!) ، أردف حافظ موضحاً : واقع الحال رفيق محمد أن المدينة مطوقة من الإسرائيليين ، وهي من الناحية العسكرية بحكم الساقطة ، وكل ماهنالك أنهم لم يدخلوها بعد . قلت له : سوف نقوم هنا بإعداد بلاغ جديد لتسوية هذا الخطأ ، وسأقرأ عليك نص البلاغ حالما ننجزه لأخذ موافقتك عليه وإذاعته كبلاغ عسكري ، فأنعم وبارك .

5. قمت بالاشتراك مع السيد عبد الله الحوراني ، بصياغة البلاغ الذي أخذ بعد موافقة حافظ الأسد عليه الرقم 67 . ولقد كان مضمون هذا البلاغ الترقيعي ، ان قتالاً داميا وشرساً يدور داخل مدينة القنيطرة بين الجيشين السوري والاسرائيلي . وكان هدفنا من هذا البلاغ ، إشعار الناس أنه إذا مادخلت إسرائيل القنيطرة ( كما نص البلاغ 66 )، فقد دخلتها بعد مقاومة الجيش السوري لها ، وإن لم تدخلها ( كما كان واقع الحال عند إذاعة البلاغ 66 ) فإن مقاومة الجيش السوري هي من أخرجها بعد أن دخلتها .

( يعرف الكاتب أنه بصياغته للبلاغ 67 كان يخرج ( بضم الياء )حافظ الأسد من ورطة البلاغ 66،ولكنه ـ أي الكاتب ـ لم يكن يشك في ذلك التاريخ بوطنية هذا الرجل ، بل ولم يكن يخطر على باله يومئذٍ ذلك الدور المشبوه الذي لعبه لاحقا في حياة جمهوريتنا العربية السورية ، والذي ورثه لولده بشار بعد موته عام 2000 م والذي مايزال يلعبه حتى هذه اللحظة ) .

6. قال لي المرحوم اللواء أحمد سويداني ، رئيس الأركان في الجيش السوري إبّان حرب حزيران 1967 والذي كان هو المشرف الميداني على العمليات القتالية في ” الجبهة ” ( الجولان ) ، أن الضباط الذين كانوا يعملون معه في إدارة العمليات ، قد تركوا واجباتهم العسكرية وعادوا بسياراتهم إلى دمشق بعد سماعهم للبلاغ 66 وبقي هو وحده فترة ( لاأذكر طولها ) في غرفة عمليات الجبهة وحيداً ، ثم قرر العودة إلى دمشق ، حيث كانت الدبابات الآسرائيلية ــ كما أبلغني ــ ماتزال على بعد أربعة كيلومترات من مدينة القنيطرة . ( قال لي هذه المعلومات حين كنت وإياه نتجول بسيارته ليلاً في شوارع دمشق، وقد كان يفتح راديو السيارة خوفا من وجود تسجيل في سيارته ، وكان مايزال رئيساً للأركان العامة ).

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى