صفحات العالم

اليسار المشرقي حين يلتقي مع “القاعدة” والنظام السوري


دمشق ـ غازي دحمان

ليس بوسع أي مراقب فهم موقف اليسار (المشرقي) من الثورة السورية من داخل صندوق أدوات ومفاهيم اليسار، لأن من شأن ذلك الإحالة إلى موقف نظري جدلي وفارغ، على إعتبار أن الثورة السورية ثورة بأدوات وقيم يسارية أصلاً، فهي تشكيلات فلاحية وعمالية تنشد كسر حلقة الإستغلال والإضطهاد، ورغم ذلك فإن تيارات اليسار المشرقي تقف في المقلب المعادي لهذه الثورة .

ليس لذلك سوى معنى واحد، وهو ان هذا النظام ذا الطبيعة الإحتكارية الإستغلالية والإستبدادية، إستطاع أن يجر اليسار من قرونه، عبر روايته عن البعد الإسلامي داخل هذه الثورة، ليلفت إنتباه هذه القوى بأن كل ما يحدث في المنطقة هو مجرد مؤامرة أميركية إمبريالية هدفها تدمير آخر قلاع المشروع الإشتراكي الممانع والمعادي للإمبريالية والهيمنة الأميركية، ما أوحى لهذه المجاميع اليسارية التساؤل عن طبيعة المشروع الذي تحمله القوى الصاعدة إلى حلبة السياسة في بلدان الربيع العربي، وكذا القوى البديلة للنظام السوري .

وإذا كان من المستغرب إنشغال اليسار المشرقي في السؤال عن مشروع قوى الثورة الطالعة، فإن ذلك يستظهر إقتناعاً واضحاً لدى هذا اليسار بامتلاك النظام السوري لمشروع أصيل، ما يدفع إلى رد السؤال لهذه القوى عن ملامح ذلك المشروع إن كان في السياسة أو الإقتصاد وحتى في المقاومة والممانعة، خصوصاً وأنه نظام حاكم منذ خمسة عقود.

لكن المستهجن أكثر هو ان يساق اليسار إلى هذا الموقف من دون تحليل عميق لحيثيات الثورة السورية وظروفها وأسبابها، بل وبدلاً من ذلك يقع في التماهي الكامل مع رواية النظام ” الفاقسة ” والمجهّزة على عجل لحماية هيكل الإستغلال والإستبداد، والقائمة على إنشائية ممجوجة تخرقها الوقائع الجارية على الأرض السورية كل يوم عشرات المرات.

ولعل هذا الواقع يطرح التساؤل التالي: هل إبتعاد اليسار عن التطورات العالمية الجارية وإنغلاقه على نفسه على مدار أكثر من عقدين جعله على هذه الهشاشة وتلك السذاجة السياسية في محاكمته للقضايا السياسية والإجتماعية، أم أن ثمة إنتهازية يحملها هذا الموقف، بمعنى انه يتيح لليسار الظهور بمظهر القوى الفاعلة والمؤثرة صاحبة القرار، وتلك مسألة قد تحسب للنظام السوري نفسه؟.

لعل المشكلة التي يواجهها أي مراقب في تقدير موقف اليسار المشرقي ودوافعه وبالتالي إستشراف أفقه المستقبلي، هي انه يتعامل مع قوى لم يعد يعنيها المستقبل بشيء، ولعل ذلك ما تعكسه بنيتها العضوية قبل سلوكها السياسي، وهي تتعاطى مع القضايا إما بروح إنتهازية أو بسلوك مغامر، ذلك أنها تدرك أنها خرجت من تاريخ المنطقة، وتتعامل مع البيئة التي تعيش فيها على أنها بيئة معادية ومغرقة بالإسلاموية، تماماً كما تتعامل التنظيمات الإسلامية المتطرفة مع بيئاتها بوصفها بيئات كافرة ومعادية، والطريقة المثلى في التعامل معها هو منطق السيارات المفخخة ودوي الإنفجار العالي الذي يعلن أن هذا النوع من القوى موجود.

من المؤسف أن يستقيل اليسار من دوره التاريخي على هذه الشاكلة، وهو الذي كان له محطات مهمة في تاريخ المنطقة، ويتعامل مع ثورة تتفق مع أهدافه وقيمه بطريقة سلبية لاتختلف عن سلوك تنظيم “القاعدة” تجاهها. وهذا من حسن حظ الثورة السورية، والذي يرى أن لامصلحة له في هذه الثورة إنطلاقاً من مبدأ انه لا يقاتل تحت رايات “عمياء” وليست واضحة، في حين أن اليسار المشرقي يتجاوز هذه العقدة التقنية ويخترع عنوة للثورة رايات أمريكية وإمبريالية وإسلاموية يحملها فلاحو الأرياف السورية وفقراء عشوائيات مدنها الكادحون !، فأي صدفة تاريخية تلك التي تجمع تحت سقف واحد رواية النظام السوري الإستبدادي والمستغل، والعلماني، وموقف أعتى تيارات التطرف الديني، مع سلوك اليسار المشرقي؟ .

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى