رفيق شاميصفحات الرأيصفحات مميزة

خواطر في الثورة السورية -3 -: عن العشيرة

 


رفيق شامي

الحلقة الثالثة

يكثر إستعمال تعبير “العشيرة العربية” في مفردات السياسة ونقدها اليساري. حتى أصبحت  مفردة “العشائرية” مجرد شتيمة توجه لأي تكتل لا يروقنا موقفه.

العشيرة العربية نظام إجتماعي سياسي تطور تاريخيا كرد حيوي على ظروف الحياة القاسية في الصحراء. لكن نظام العشيرة التي أنقذ العرب من الموت جوعا تحول لسلاسل تقيد العرب في نهضتهم. وهذا مصير أي نظام إنتهت مهمته التاريخية. يتحول لعبء، لقيد وفيما بعد لقبر إن لم يتحرر أتباعه منه…

لن أسهب الحديث عن العشيرة وخصائصها بل سآخذ الخاصة التي تهمنا بشأن الثورة السورية. العشيرة في إحدى صفاتها تحتقر الفرد. فهي توفر له الحماية والإطمئنان على أن يظل عديم الوجه لا يقوم إلا بما تحتاجه العشيرة لديمومتها. فإذا صح تشبيه العشيرة بجسم الإنسان فرأسه هو شيخ القبيلة الذي قد يقود عشيرته لبر الأمان أو أن يكون أهبلا أو مجرما يؤدي بالعشيرة عبر تهوره و”أم معاركه” للهاوية فتتبعه كالقطيع إلى الهلاك. أما باقي الأعضاء فهم رعية لا رأي لها. هكذا وضع لا يسمح بطرح الأسئلة ولا بالمعارضة. فالسؤال النقدي “يوهن” عزم القبيلة والمعارضة خيانة… وكل من ينتقد الشيخ ينتقد القبيلة وجواميسها وجمالها وحتى مراعيها ومراحيضها… هكذا يرد اتباع الديكتاتور العربي على أي نقد لزعيمهم وشيخ لقمتهم…  وبالمناسبة نستخدم نحن العرب تعبير الخيانة بشكل كثيف قلما عرفه شعب آخر. لأن البدوي القابع داخلنا يشتم رائحة الخيانة في أي تصرف لا يعجبه. إذا عشق رجل أو إمرأة المانية غير زوجهما سمي ذلك بالألمانية “كسر للزواج” فالزواج الألماني عقد يبرمه إنسانان يريدان العيش بحب أو على الأقل بهدوء مع بعضهما… فإذا عشق أحدهما شخص ثالث كسر عقد الزواج. العرب يعتبرون معاشرة شخص ثالث خارج خلية القبيلة الصغرى ( العائلة) خيانة…

النظام العشائري لا يسمح للفرد بالإبداع والخروج عن المسموح فهو يحتقر الفردية التي تهدد كيانه. ومن إحتقار النظام القبلي العشائري للفرد، تتضح عدائية العشائرية للنهضة الحديثة لأن التطور البورجوازي الأوروبي، الذي صبغ المدنية الحديثة بطابعه، يبني على تقديس الفرد. والجمهورية تحققت بثورة جمهور من الأفراد لا منحة و لا إرثا.

وتتقارب صورة أي نظام شمولي من صورة  العشيرة، لا بل ينصهران لهجين يحمل صفاتهما معا. النظام القهري العشائري يضع مثلا المفكر العربي دوما تحت ضغطين: ضغط الديكتاتورية الحمقاء وضغط العشيرة الأحمق. فأنت كعربي تحاسب من العشيرة قبل أن يصل حساب النظام لرقبتك. العشيرة تربض   فوق كتفيك وبداخلك. وقد فند علماء النفس والإجتماع العربي بتفصيل وذكاء نتائج هذه الضغوط القبلية على نشأة الطفل العربي وتربيته على الشك بكل غريب ودفاعه عن عشيرته مهما كلف ذلك.

ما يهمني في هذا الصدد أن العشيرة قد تثور لكنها أبدا ليست ثورية، إنما تثور لتحصل على مصلحة لعشيرتها دون أن تعنى بالإنسان الذي قام بهذه الثورة. ولهذا يكفي أحيانا شراء شيخ القبيلة لإسكات كل القبيلة… يقال أن المجرم رفعت الأسد وبتوجيه من أخيه الأذكى حافظ ورط قبائل سنية من حوض الفرات في الهجوم على حماة. وكافئهم بمعطيات مادية وأسلحة. هذه صفات الثورة المضادة. أما الثورة الحقيقية فيصنعها أفراد، وفي مثالنا العربي الفريد في تاريخ البشرية خرجت جماهير تونس ومصر كأفراد لا كعشائر وأطاحت بحكامها بشكل لم يسبق له مثيل.

فجأة تحتل العشيرة في الثورة السورية مركزا أكبر من أي مركز ظهر لها في تونس ومصر. كيف كان لهذا أن يحدث؟ ليس فقط بتسمية جمعة بإسمها بل بظهورها في أي مؤتمر أو تجمع كوحدة مستقلة وكأنها تجمع إثني أو ديني خاص. أي أن فرد من أفراد عشيرة تقطن بجوار حلب مثلا ينتمي أولا للعشيرة وثانيا لحلب وثالثا لسوريا. وهذا تساقط فظيع للوعي بالمواطنة. فما هو الموقف من تبجيل العشيرة هذا؟

العجيب في الأمر أن سوريا كانت حتى مطلع السبعينيات أبعد الدول العربية عن العشائرية. لكن حكم الأسد الذي بنى على العشيرة روج وشجع كقريبه صدام حسين في بغداد على إنعاش العشائر وصار كل “فصعون” لا يذكر إسمه إلا ويتبعه بنسب وهو على الأغلب مزور. فهذا يوصلنا بذريته للنبي العربي وذاك لعلي بن أبي طالب…وآخر لقبائل يمنية…وناهيك عن التأكيد اننا في سوريا جمهورية منذ الإستقلال في عام 1946…

نظام حافظ الأسد تجسيد لسلطة عشيرة، كانت مجبرة على الإستعانة بكل شيء، حتى بالرضوخ لإسرائيل والتعاون مع الكتائب الفاشية اللبنانية، للحفاظ على سلطتها التي أتت بشكل إنقلاب على رفاق دربه، لم يضمن الأسد إستمراريته بسهولة، ولا كان يقتنع باجهزة مخابراته العديدة…كان الأسد الأب على عكس إبنه بشار يعرف السوريين ويخشاهم، فبذل كل جهده لمشاركة عشائر أخرى بالغنيمة على ان تبقى حصة الأسد له. وهكذا إلتف حوله عدد كبير من المنتفعين من كل الطوائف والعشائر…

العشيرة هي التي تصف حكم الأسد بدقة وليس الطائفية. فالطائفة في عقلية شيخ القبيلة ليست إلا أداة من أدوات تثبيت سلطة عشيرته. ولم يخطر ببال حافظ الأسد ولا لثانية واحدة أن يعين أي مسؤول علوي قادر وصاحب خبرة كخلف له بل أصر أن يكون إبنه خليفة له. ومات باسل بحادث سيارة فأجبر الأب إبنا لا علاقة له إطلاقا بالموضوع بأن يرث سلطته. وإنصاع بشار الأسد، الذي عاش في لندن هنيا مرتاحا، لأمر العشيرة واتى لينتقل عبر فصول مسرحية مضحكة سيئة الإخراج لقائد عسكري تضحك إسرائيل على مقدراته الفذة حتى تطق خواصرها (يمكن ان يكون ذلك إحدى المخططات الأسدية- الطلاسية لقهر إسرائيل ودحرها عن الجولان). وما حدث في ما يسمى “مجلس الشعب” ليس إلا تكملة لهذه المهزلة العشائرية فلقد هلل هذا المجلس الغبي للتوريث وراحت أرملة بكداش التي ورثت الحزب وقيادته حسب النظام العشائري نفسه تزايد حتى على النظام… بأن شعبنا يحب التوريث… وتفشت العشائرية ليس فقط في إعتقال ذوي القربى عند فرار أحد اعداء النظام بل حتى في وراثة مناصب في الدولة أو البعثات العلمية. وكنت ترى ليس فقط في المانيا الغربية أقرباء من هم في سدة الحكم مبعوثين بل أقرباء وأبناء عشائر المعارضة في بلدان المعسكر الشرقي آنذاك…

نحن إذا في مواجهة مرض إستعر منذ أربعين سنة في سوريا وعلينا ان نعرف أن إستئصاله مؤلم لكن دون هذه العملية الجراحية لا يتعافى المجتمع. دون الإنتصار على القبيلة ودحرها، لن يتحرر الفرد السوري أيا كانت ثقافته ولغته ودينه. الثورة السورية المجيدة من أجل الحرية والديمقراطية لا يقوم بها إلا أفراد يواجهون بشجاعة اذهلت العالم بصدورهم العارية سفاحي ماهر وبشار الأسد ولذلك عليهم اليوم قبل غد ان ينزعوا كل علاقتهم بالعشيرة وما ترتأيه. وكل من يغني على وتر العشيرة يقصد بخبث تحويل الثورة الرائعة لسلم يرتقي به إلى السلطة.

الثورة تقدم ليس فقط البديل السياسي لحكم ظالم فهذا يقدمه أي إنتخاب أو إنقلاب بل هي تقدم في أول ما تقدم البديل الأخلاقي الحضاري للنظام السائد. بهذا تختلف الثورة عن الإنقلاب بأن هذا الأخير يحتاج فقط لحنكة وسرية ولا يضع شروطا على من يقوم به تتطلب تحرير شخصيته وأخلاقية اهدافه… ونحن نعلم ان الإنقلابات منذ عرابها الأول حسني الزعيم قام بها اوسخ الناس على وجه الأرض أما الثورة فهي وإن قام بها أناس عاديين وحتى بدون اي تخطيط مسبق ستحرر أنفس هؤلاء من كل شوائب القرون وأولها العشيرة وتجعل من كل منهم إنسانا برأي حر وشجاع دفع ثمنه بالمجازفة بحياته. وهذا الإنسان هو حفار قبور العشيرة.  فإما أن تقوض الثورة العشائر فوق رؤوس شيوخها أو لا تكون.

-2-

نقطتا ضعف وقوة للثورة السورية

تتميز الثورة السورية بصعوبة ووعورة مسالكها، فهي أولا في بلد تمرس نظامه أكثر من اي نظام في فنون قهر الشعب وفي الحروب الأهلية وبكون سوريا حجر زاوية مهم في صرح البلاد العربية يتعلق بمصير نظامها العديد من ثوابت المنطقة ومحركات مصيرها.

هناك مميزتان للثورة السورية هما نقطتا قوتها وضعفها في آن واحد:

1.                   الشعب السوري أظهر مدنية  فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، فهو يتظاهر بشجاعة بطولية أعزلا من أي سلاح ضد أكثر الأنظمة وحشية وحركية في المنطقة. الخندق في هذا الكفاح يفصل بين طرفين غير متكافئين، إذ أن الصدور والأيدي العارية تتمتع بشجاعة بطولية لكنها  لا تنتصر على دبابات وفرق النظام العالية التدريب وعديمة الأخلاق، مما قد يدفع البعض لليأس ويسهل مقولة أن السلاح لا يرده إلا سلاح. لكن الشعب السوري وصل إلى قناعة عبقرية في أن الطريق السلمي هو الوحيد الكفيل بدق عنق النظام، فلم يأبه لا لتحريض النظام وإستفزازه حتى بقتل الأطفال وقنص المسالمين، وظل مسالما يهتف “سلمية سلمية” وفضح بذلك لعبة النظام. لكن الأهم من ذلك أن الشعب إختار بكفاحه السلمي الطريق الذي لا يمكن لخمسة عشر جهاز مخابرات أن يقضي عليها. نعم عدد الضحايا عالي وسأبكي على كل شهيد ما دمت حيا، لكن ليس هناك خيار آخر لهذا الطريق فالنظام زاد وحشيته إلى أعلى حد ممكن وأدخل كل آليات حروبه العسكرية والنفسية من إعلام إلى أحزاب سلطة إلى مثقفين مرتزقة إلى أعوانه اصحاب اللحى رجال الدين الرسميين من  كل الطوائف. ولم يترك حتى أقذر الوسائل مثل تعذيب وتشويه متعمد للأطفال وإعادتها أو إعادة جثمانها الطاهر لأهاليها لإرهابهم ولا كل من دس أفراد مرتزقة يظهرون بلحى وبدونها فجأة ليشتموا الأقليات المسيحية والدرزية والعلوية بإسم الثورة إلى من ينادي بحمل السلاح. كل هذا لم يقدم رغم تطبيل إعلام السلطة وتزميرها للنظام سوى أن زاده بشاعة أمام أعين العالم. وكل من يدعو لحمل السلاح هو واحد من إثنين: إما غبي أو عميل للسلطة لأن السلطة تشتهي منذ إندلاع الثورة أن تجرف الثوار لمنازلة مسلحة ستنتصر وهي الخبيرة المدججة بالسلاح على كل خصوما وسيسقط عشرات إن لم يكن مئات أضعاف الشهداء.

2.                   تتقدم الثورة السورية حتى بعد مئة يوم دون قيادة كادر أو حزب مركزي أو محترفي ثورات. يحمل عبء الثورة ويشترك فيها كل شجاع وشجاعة وكل من يناضل لمستقبل أفضل لبلدنا الحبيب. هذه الصفة تميزت بها الثورتان التونسية والمصرية وقهرت كل مخابراتهما. لأن ثورة أو إنتفاضة بقيادة محددة قد تكون أكثر تنظيما لكنها تصاب بضربة قوية لمجرد إعتقال كوادرها و”رؤوسها”. هذا نعرفه بالتأكيد  وهذا تدربت عليه الأنظمة العربية بكفاية. ما شل أجهزة القمع العربية هو الجديد في هذه الثورة أنها قامت دون أحزاب أو قيادة معروفة وصغيرة العدد. والثورة السورية تتصف بنفس الصفات لكن طريقها الأطول يطرح أسئلة ملحة: هل يمكن الإستمرار دون تنظيم؟ أنا واثق أن أجهزة وأدوات الإتصال الحديثة من فيسبوك إلى تويتر إلى الجوال إلى الإنترنت والكاميرات الإلكترونية التي توصل صورة دقيقة للأحداث إلى اليوتوب بعد فترة وجيزة إلى الصحف الإلكترونية النشيطة للمعارضة …كل هذه الوسائل والوسائط شكلت ما يشبه الجهاز العصبي لجسد الثورة والذي يصعب على النظام شله، لكنها لن تكفي لقيادة الثورة إلى النصر ااذي تستحقة. الواجب الملح هو إنشاء شبكة عصرية من اللجان يصعب إختراقها وحتى ولو حدث الإختراق لا يصيب الضرر من ذلك إلا قطاعا محدودا من لجانها. هذه اللجان بإمكانها عبر التنسيق تطوير النشاطات وتحويلها إلى حزمة فعالة أكثر والعمل بشكل أفضل لربط المواطنين بالثورة ليس فقط عبر إحتجاجات في الشارع والتي تتطلب بطولة نادرة بل بكل ما في وسع المواطنين تقديمه.

اللجان هذه هي مقدمة أولى للمجتمع الديمقراطي الحر ولذلك عليها ايضا أن تكافح دون كلل ضد الطائفية، المرض الأكثر خطرا على الثورة السورية، لتقطع الطريق في وجه الحرب الأهلية التي لا يزال النظام يسعى لتفجيرها.

يتبع

خاص – صفحات سورية –

أي نشر أو اعادة نشر لهذا المقال يجب الاشارة فيه إلى المصدر: صفحات سورية

كل الحقوق محفوظ للكاتب ولصفحات سورية.

يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه الخواطر في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى