صفحات الثقافةمها حسن

خيانــة المكــان


مها حسن

أكذب حين أقول أنني أعيش في فرنسا، وأكذب أضعافاً إذ قلت أنني أعيش في سوريا، فأين أعيش إذن؟

أتساءل عن تفسير فعل «أعيش»، فهل معناه أن يأكل أحدنا ويشرب ويتنفس وينام؟ أم أن فعل العيش هو أعمق من هذا؟ أن يلتصق أحدنا روحياً بالمكان، أن تتشبث به ذاكرته ومخيلته وأحاسيسه.

هل نستطيع أن نتحدث عن مستويين للعيش؟ مستوى مادي سطحي، له علاقة بالجسد ومتطلباته، ومستوى عميق روحي له علاقة بالرغبة والمخيلة والحلم.

أن تأكل وتشرب وتتنفس وتنام في مكان، حيث جسدك فيه، بينما تلتصق روحك وذاكرتك ومخيلتك وأحاسيسك بمكان آخر، لا يعني فقط أنك تعيش حالة فصام بين روحك وجسدك، ولا يعني فقط أنك تعاني من عقوبة وجودية تفصل بين إحساسك بالشيء الغائب، ولا إحساسك بالشيء الحاضر، فتفقد متعة الإحساس الواقعي، لتغيب في الغائب البعيد، وتتحول إلى «صوفي» يتألم من لسعات نار، لا تمسّ جسده فعلاً، بل تمس روحه، وعلى العكس، فهو لا يحس بلسعات النار في جسده. لا يعني هذا الفصام كل ذلك الوجع الخاص بك، بل يعني أيضاً خيانة المكان.

عن أي خيانة يمكنني الحديث؟ أهي خيانة مكان الجسد، حيث غادرت الروح، أم خيانة مكان الروح، حيث ذهبتْ دون جسد.

جسدي في فرنسا وروحي في سوريا.. وأنا لا أعرف أيهما يمثلني أكثر، أي من هذين الكائنين، أو الكائنتين، هي أنا… تلك المرأة التي تمشي في باريس، تأخذ المترو، تشتري الخبز الصباحي وتتحدث الفرنسية، أم تلك الفتاة الغارقة خلف جهاز الهاتف، تتوسل القوى الغامضة في الكون، القوى ذات الطاقات الإضافية، العرافات والأنبياء والسحرة، ليرنّ الهاتف في الجهة الأخرى، حيث لا يرنّ.

المشهد السوري لم يعد يحمل اللون الأحمر، لم يعد الدم هو اللون، بل الحريق. منذ قصف إعزاز بالقنبلة الفراغية، وأنا مسكونة في العمق باللونين الدخّاني والأسود.

وأنا في باريس، أمشي بمحاذاة السين، أقترب من سان جرمان، حيث المشهد ملّون، أرتدي بلوزة زرقاء وبنطالاً من الجينز الأزرق، بل وأضع أقراطاً في أذنيّ وخاتماً ذا حجرة بنية اللون» العقيق اليمني»، وإسوارة تقع بين اللونين الأزرق والأخضر، أمشي في مشهد ملّون، واجهات حمراء وبرتقالية ووردية، إلا أنني أشبه مشهداً مقصوصاً من ورقة كرتون ملونة، وملصوقاً على خلفية سوداء وبيضاء.

المشهد السوري غير ملون، حلب تحضرني باللونين الأبيض والأسود فقط، وأنا أخون لونيها، فأظهر داخل مدينة تحتوي كل الألوان.

كأنني امرأة نافرة في الفيلم الحلبي. هناك لا يجد أهلي الخبز. أقول لأمي أن بإمكانها تحضير الخبز في البيت: «ما عندك طحين؟»، أسألها، تضحك فيشعر بدني بتنافر الألوان «حتى لو في طحين، ما في غاز!». أخون أمي وأنا أشتري «الباغيت» الفرنسي اللذيذ، بل وأرشف النبيذ في بعض الأحيان، بينما جهاز الهاتف، ملقى جواري كجثة لا أقبل بموتها، أضغط الأرقام ذاتها، الصفرين الدوليين، ومفتاح سوريا، ثم مفتاح حلب، ثم الرقم المطلوب، ولكن الهاتف هناك لا يرنّ. أسمع صوتاً فرنسياً أحياناً يقول لي: «بسبب كثرة الاتصالات، يصعب الوصول إلى الرقم المطلوب»، يبدو الكلام منطقياً، فأكرر المحاولة، ولكن تأتيني أحياناً أصوات بالعربية تقول: «هذا الرقم غير مستخدم»، فأقول أي منطق هذا، وأنا أستعمل هذا الرقم منذ ثمانية أعوام!

تعلق جرعة النبيذ في حلقي، أكاد أختنق من السعال، تقول أمي في حالات مشابهة: «أرمغان بخيل»، أي أن هدية قادمة من شخص «مو طالعة الهدية من عينه». لو كانت أمي معي «يا لها من جملة تحتشد فيها كل أحلامي»، لعرفت أنه ليس الأرمغان، وإنما عدم رنين الهاتف، ما يخنق لقمتي وجرعة المشروب، لتقفز الروح العالقة هناك، في حلب، وتعيق حركة الجسد العالق هنا.

نعم، أنا عالقة، سجينة المكان الذي كنت أحبه، ولم أعد أحبه الآن. الآن، أريد الذهاب إلى المشهد الأبيض والأسود فقط، أريد رؤية الدبابات في سيف الدولة وصلاح الدين، وسماع أصوات القصف، والهبوط إلى ملاجئ البنايات، واحتضان أمي وأختيّ، وإزال التراب الأبيض عن وجوه وملابس الأطفال الذين سقطت القذائف فوق بيوتهم، ففرّوا بأنفسهم، وبالتراب المتهاوي، العالق، على ملامحهم. لا أريد تناول الطعام الفرنسي أو الياباني او الفيتنامي أو حتى الهندي الذي أحب بهاراته الهائلة الطعم، أريد الاكتفاء بشوربة العدس وبعض قطع البطاطا المسلوقة.

ليس لأنني مازوخية ومغرمة بالعذاب، بل لأن الروح تعشق ما تريد، والروح الآن جنّت وتولعت بالمكان الأول، المكان الذي يسمونه خطأ «مسقط الرأس»، إذ يقول أحد الأصدقاء الروائيين، أن في هذه العبارة وصفا دونيّا للرأس، ليس مسقط الرأس إذن، بل لأقل عرش الرأس، حيث سحبت القابلة رأسي من فجوة رحم أمي، ثم قطعت حبلي السري هناك، ودفنته في مكان، لا تزال أمي تحدثني عنه، بمهارة روائية.

حبلي السري الذي قرأه أصدقاء عرب غير سوريين، مغاربة ومصريون ولبنانيون وغربيون يقرأون الرواية، دون أن يكتشفوا سرّي، الذي لا يزال يختبئ في خيانة المكان.

فيليب جواري، شريكي في حياتي الفرنسية، يجهّز لعطلته السنوية، وأنا للسنة الثانية، أعتذر عن عدم مرافقته، ربما يلعن خياره بينه وبين نفسه: «ما الذي يجعلني أعيش مع هذه الغريبة!». أنا الغريبة التي تعيش مع الغريب حكاية حب غريبة، أشعر بالغربة اليوم، غربة المكان وغربة الروح وغربتي عن نفسي، إذ سقطت كل أحلامي الكبيرة، وهواجسي الوجودية، وطموحاتي الفنية، لا أريد الآن سوى أن أدخل اللوحة ذات اللونين الأبيض والأسود، وأفقد ألواني المتنافرة مع المشهد.

قلبي يخفق من شغف الانتظار، حين سيرنّ الهاتف، وأسمع «ألو» سأتوقف عن الحزن، وسأغني دون أن أنتبه، مدندنة لحناً ما، يباغتني، ليكشف أن أجمل اللحظات التي أنتظر أن أحياها، هي أن يرنّ الهاتف، وأسمع «ألو» فيذوب قلبي فرحاً، وتتلون حلب، وتُضاء شوارعها وقلعتها، فأشعر بدنو اللقاء… هل يرن الهاتف اليوم؟

أستطيع أن أكتب «باريس» في نهاية هذه السطور، لكنني سأكون كاذبة، لأنني لست في باريس، وأتمنى لو أكتب «حلب» إلا أنني سأكون خائنة لجميع الحلبيين والحلبيات، الذين ينتظرون وقف سماع أصوات الرصاص، ليغرقوا في قيلولة سريعة… لستُ في فرنسا، ولا في سوريا، ولكنني دون شك أحيا في مكان ما، مكان آخر، حيث الحياة ليست في مكان آخر، بل الحياة بالنسبة لي، في هذه اللحظة، يجب أن تكون في حلب.

(روائية سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى