صفحات سوريةفلورنس غزلان

دائرة طباشير ترسم بعض ملامح الثورة وتؤشر لأماكن الخطورة

 

    فلورنس غزلان

    استطاعت انتفاضة الشعب السوري على سجن الصمت والرعب الأسدي…كسر أقفال التعبير وحواجز الخوف من النظام ومن سلطة الأجهزة الأمنية، لكنه لم يكسرها كلياً في رأسه وفكره ولم يتجاوزها تربوياً…ظل هاجس الأقوال المُدَّورة والالتفاف على الحقائق مغروساً في ذاكرته مطبوعاً في تعبيره…لأن أصعب العُقد وأشدها إلتصاقاً بسلوكية الإنسان هي ثقافته …وهذه لاتستطيع الثورة أن تخرق عمقها …مست السطح دون الايغال بالجوهر وتفكيك عقده. وكشف مسبباته…خاصة وأنه منتج وضحية لاقصاء طويل وتهميش لكل فكر ولكل طرح مغاير لخطوط السلطة ، التي ربطت المجتمع بها…وقيدته بأغلال تفريقية تلعب على أوتارها لتستقيم لها الأمور ولتمسك بتلابيب المجتمع من أضعف المناطق وأكثرها حساسية مستخدمة رجال دين أوفياء لسلطانه من جهة، وأصحاب قلم مأجور وأبواق مستفيدة تلهج باسمه وتُماهيه مع الوطن والمواطنة…بالإضافة إلى ركائزه الأمنية والعسكرية ، التي أمسكت بعنق الوطن…

    نعم خرجنا من الأقفاص إلى ساحات المدن وخرج صوتنا من محبسه وانطلق يلعلع في الفضاء…لكن تراث الاستبداد لم يخرج من جلد فكرنا وتربيتنا..ولم نكن بعد مؤهلين لاستيعاب التغيير الذي نُنشد…وأقصد هنا عامة الشعب وبسطائه…أما المُسيسيين بينننا ، فكل له أجنداته الأيديولوجية، التي يغني على مواويلها مهما أغرقت في القدم وتجاوزتها أحداث الثورة …حاولت الأحزاب التقليديه أن تضفي بعض المسوح وأن تنفض بعض الأفكار العتيقة …لكنها ظلت تراوح في نفس الطرق وعلى نفس المنهج …ظلت تداور دون تصريح أو توضيح ..تلعب بأكثر من مزمار وعلى أكثر من وتر معتقدة أنها ستلتقط كل خيوط الشارع السوري فيقع في حضن خطابها!

    لهذا لم تلعب هذه الأحزاب كما لم يأخذ المثقف دوره الحقيقي الفاعل في التأثير بثقافة المواطن وتوعيته خارج أطر السلطة وتجييشها مستخدمة كل وسائل الترغيب والترهيب…فجاءت الثورة في وقت لم يكن فيه المواطن مؤهل لتغيير مدني حقيقي واعٍ بمعنى المواطنة مُسَّلح بثقافة الإخاء والعدالة والمساواة، وكيفية إدارة المجتمع المدني…الخ، ــ ومن أين يأتي بها مع الحرمان والاقصاء وانعدام الحرية والديمقراطية سواء في التعبير أو على صعيد الحقوق القانونية المُطبقة والمُعترف بها والممارسة من أجل المواطن ــ وهذه جميعها لم يرَّ منها المواطن إلا خطب إبعاده وإلهائه بقضايا خارج حدود الوطن ” كقضية العروبة والقومية العربية ــ التي انسحب منها النظام الآن ــ وقضية فلسطين وممانعته ــ التي كشفت عورات ادعاءاته مع قيام الثورة السورية ــ لهذا وجدنا أنفسنا بعد الثورة نتخبط دون قيادة سياسية تؤطر المرحلة وتساهم في تنظيم العمل الفكري / السياسي ولاحقاً العسكري، ففي الوقت الذي تتصارع فيه الأحزاب الأكثر يسارية وليبرالية أو علمانية وتتناحر وتبرز شرذمتها من خلال الاختلاف على كيفية التغيير وإنهاء الاستبداد والديكتاتورية الأسدية…علماً أن الواقع أبرز أنها خلافات واهية أسبابها صراع مصالح…لأن كافة الأطراف تتفق على إنهاء حالة الاستبداد والانتقال للديمقراطية والدولة المدنية ” بدون الأسد “، خاصة بعد أن تبين للجميع أن كل دول العالم الغربي لاترغب إطلاقاً بالتدخل لإنقاذ الشعب السوري من الطغيان والقتلة ، وبات واضحاً للعيان أن الجميع عرباً وغرباً وشرقاً يسعى للحل السياسي ــ والاختلاف يقع في تفسير بنود جنيف فقط لاغيرــ في هذه المعمعة العسكرية / السياسية…لم يكسب فيها عملياً على الأرض السورية إلا الأطراف الإسلامانية، لأنها الأكثر تنظيماً والأكثر إمداداً مادياً، فقد ُقتِحَت أمامه أبواب الدخول في التنظيمات العسكرية من خلال غض الطرف العلماني وتمريره لمشاريع الإسلام السياسي والسلفي إعتقاداً منه أنها استراتيجية تتطلبها المرحلة الثورية!…فانقلب السحر على الساحر العلماني والليبرالي المغشوش بقدراته والفاشل باستقطاب الشارع السوري وإثبات الوجود على الأرض من خلال برامج سياسية فعلية مدروسة من أخصائيين وكوادر يملكها هو أكثر من غيره ــ مع شديد الأسف ــ مما أعطى كل الفرص السانحة والأوراق الرابحة سقطت تباعاً بأيدي الاسلامانيين وهاتبرز ملامحها في المدن السورية المسماة ” محررة” ، كما تبرز قواها من خلال فرض شروطها على التشكيل الأكبر في المعارضة ” الإئتلاف السوري” ، وإلا كيف يتسنى لجبهة النصرة ومثيلاتها أن تقيم شروطها وتفرض حكومتها على سكان الرقة ودير الزور؟!!، بينما يغط الائتلاف في صراعاته وجلساته ويختلف على ” العليقة قبل الفرس ” ــ مثل شعبي ــ ولم يستطع منذ وجوده ووجود المجلس الوطني ، الذي سبقه بزمن أن يوحدا القوى العسكرية ويجعلاها تنضوي تحت إدارة مركزية لجيش واحد …حتى لو أبدى البعض منكم تفسيراته على أن هذه الثورة ثورة شعبية…لكنها اليوم باتت خارج أطر وفهم كل مامر علينا من تاريخ في الثورات الشعبية وغير الشعبية…فلا الفييتكونغ في فييتنام كانوا على هذه الشاكلة ولا ثوار أمريكا اللاتينية في تشيلي ونيكاراغوا والاكوادور ولا حتى ” الغيرييه في كولومبيا ” فلماذا يحدث عندنا مالا يعرفه التاريخ؟! ، ليس فقط ممارسة الأسد وعنفه الوحشي المفرط ، وإنما إغراقنا شيئاً فشيئاً في عملية ( صوملة ، أو أفغنة) …تكتسب طابعاً وحيد اللون ومذهبي لايقوم على علاقة المواطن السوري بوطنه كأم حاضنه للجميع ، بقدر مايقوم على شحن الطائفية وتمزيق الوحدة الوطنية وتعريض السلم الأهلي لحرب طاحنة ربما ستدوم طويلاً…لأن المواطن السوري بدأ يدرك مايخطط له الاسلامانيين وهذا سيضع البلاد على مشارف تصفيات أخرى بانتظارنا لاحت تباشيرها في بيانات جبهة النصرة في الرقة التي تُكَّفر ” الديمقراطية” والديمقراطيين وتحلل إهدار دمهم!!!، فماذا تنتظر معارضاتنا لتقف معاً بوجه المد الجنوني الذي يخطف الثورة من أصحابها ويدمر البلد أكثر فأكثر؟ ألأ نتعظ ونسارع في خطى الحل السياسي المقبول لانقاذ ماتبقى من سوريا …كي تجدوا بعض سوريا وبعض شعب تحكموه؟!.

    ــ باريس 12 /3 /2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى