صبر درويشصفحات سورية

داريا… قبل المجزرة وبعدها عنب وثورة


دمشق ـ صبر درويش

(قبل أن تقرأ: أريد التنويه إلى أن أغلب الشهادات والتوثيقات الموجودة هنا كانت قد أخذت قبل المجزرة التي تعرضت لها مدينة داريا، بينما ما حدث من تفاصيل بعد المجزرة فسنفرغ له مكان آخر).

تبدو المدينة هادئة تماماً بعد القصف، كل شيء يشير إلى مرور قوات الأسد من هنا، الجدران المثقوبة، المنازل المهدمة، وآثار الضحايا الذين عبروا منذ قليل على هذه الطرقات.. كل شيء يشير إلى أن الجيش “الوطني” كان على مقربة من هذه الأنحاء.

لا تبعد مدينة داريا سوى بضع كيلومترات عن العاصمة دمشق، تعد بساتينها التي تلتقي ببساتين كفرسوسة جزءً من الغوطة الغربية، الملتفة حول دمشق من جهة الجنوب الغربي.

ولداريا سمعتها في النشاط السياسي السابق على الثورة السورية التي انطلقت منتصف آذار (مارس) من العام الماضي؛ ففي عام 2003 ستقوم قوات الأمن السوري باعتقال مجموعة من الناشطين الذين لم يفعلوا شيئاً سوى أنهم قاموا بتشكيل مجموعة من الشبان والشابات للعمل على تنظيف المدينة كشكل من اشكال النشاط المدني، وكان ذلك كافياً كي يتم اعتقالهم بتهمة التآمر على الأمة!

تقول حنان “كنا مهتمين بالشأن السياسي قبل انطلاقة الثورة، كانت تدور في منزلنا مع والدي وإخوتي نقاشات مطولة حول الأوضاع في البلد، ولكن هذه النقاشات كانت تنتهي ما أن نخرج من المنزل، كان كل شيء ممنوع، وخاضعاً لقبضة المخابرات الحديدية”.

حقاً، تعد أجهزة المخابرات السورية والتي وصل عددها حتى السبعة عشر جهازاً، واحدة من أعتى أجهزة المخابرات في العالم، وهي التي وجدت في الأصل بغية قمع المجتمع السوري ومنعه من أي شكل من اشكال التعبير الحر، وهو الشيء الذي سمح لنظام الأسد بالاستمرار طيلة العقود الماضية في الحكم. إنها العقود الأسوأ في تاريخ سوريا الحديث.

تبدو على حنان سيماء الاعتداد بالنفس، وهي تروي لنا أولى مشاركات نساء داريا، والتي بدأت في السابع عشر من آذار العام الماضي، عندما شاركن في اعتصام وزارة الداخلية في قلب العاصمة دمشق، للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي، الذين كانوا قد اعتقلوا في أحداث الخامس عشر من الشهر نفسه، وما أن وصلوا تقول حنان- حتى قامت قوات الأمن بتفريق الاعتصام بالقوة، وبالهجوم العنيف على المعتصمين، حيث قاموا باعتقال العشرات، كان من بينهم المفكر السوري المعروف الطيب تيزيني.

بدأت التظاهرات في مدينة داريا ببضعة شبان وأربع نساء فقط لا غير، بضع هتافات… وينقض رجال الأمن والشبيحة على المتظاهرين، ويعتقلون بعضاً منهم، تقول حنان: لم نكن خائفين على الإطلاق، على العكس كنا نضحك عالياً، ونشعر بأن عهداً جديداً قد بدأ. بعدها خرجنا بتظاهرة من أمام محكمة المدينة وكانت أعدادنا قد تزايدت قليلاً، وككل مرة نخرج فيها للتظاهر يتصدى لنا رجال الأمن، ولكن الذي ميز ذاك اليوم كان اعتقال ثماني نساء من المتظاهرات، كانت صدمة للجميع، فلأول مرة يتجرأ الأمن على اعتقال النساء، إلا أنهم ما لبثوا عند المساء أن أخلوا سبيلهم جميعاً.

سيتراجع النشاط الميداني السلمي قليلاً، إثر الممارسات العنفية لقوى الأمن السوري بحق المتظاهرين، بيد أن هذا الحراك لن يلبث أن يتصاعد من جديد مكتسباً زخماً شعبياً على قاعدة اتساع رقعة الاحتجاجات في البلاد. استفادت داريا من تاريخها العريق في النشاط المدني، فوسعت نساء المدينة من دائرة نشاطاتهن الثورية. تقول سحر: لم تكن التظاهرات هي الشكل الوحيد للتعبير عن احتجاجنا، حاولنا أن نبتكر وسائل أخرى للتعبير، فوزعنا المناشير وسعينا إلى التأثير على وعي الناس من خلال البروشورات التوجيهية، أصدرنا جريدتنا التي أسميناها جريدة “عنب بلدي”، وكان خيارنا للاسم ناتجاً عن شهرة مدينتنا بالعنب من جهة، ومن جهة اخرى كنا نرى أن عنقود العنب مؤلف من مجموعة حبات وكل واحدة مختلفة عن الأخرى، كنا هكذا ننظر إلى مجتمعنا السوري، على أنه مكون من مجموعة حبات مختلفة ولكنها مجتمعةً في تكوين واحد؛ وبينما كنا نفكر بالوسيلة التي سنصل من خلالها إلى النساء غير المشاركات بالتظاهرات خطر على بالنا فكرة مساعدة أطفال المعتقلين والشهداء، من خلال برامج تأهيلية ودعم اجتماعي كي يستطيعوا تجاوز المحنة. كنا نسعى بكل ما نملك من طاقة ومن وسائل للوصول إلى اكبر قدر ممكن من الناس والتأثير فيهم، كنا مؤمنات بثورة شعبنا وبأننا على حق، وأكثر من ذلك كنا مؤمنات بضرورة استمرار نضالنا السلمي، حيث كنا مقتنعات تماماً أن النظام يسعى بكل إمكانياته لحرف الثورة عن سلميتها، ونجحنا في حدود لا بأس بها، وسقط لدينا أول شهيد من شهداء دعاة السلمية في المدينة، الشاب غياث مطر.

إضافةً إلى كل ما سبق، عملنا على طباعة صور معتقلينا وشهدائنا وتعليقها في الشوارع، لا لشيء وإنما فقط لنذكر الجميع بضرورة الاستمرار بالنضال، وشد عزيمة الناشطين، لقد كنا من اوائل من طرح فكرة تشكيل لجان شعبية. الثوار استطاعوا بعد كثير من الجهد والنضال من تحرير المدينة بشكل جزئي، ومن هنا رأينا أنه لابد من حماية المراكز الحيوية الموجودة في المدينة.

كنا مدركات لبعض المظاهر السلبية التي ستبرز إلى جانب الثورة، فسعينا إلى معالجة هذه المظاهر من خلال التواصل مباشرةً مع الناس، تواصلنا مع أسر الشهداء والمعتقلين، ونظمنا جلسات للحوار، وانتقدنا بشكل حازم كل انحراف للثورة كنا نلمسه، وكانت جريدة “عنب بلدي” إحدى المنابر المهمة في ذلك.

اليوم تقصف مدينة داريا بمدافع النظام، وتحاصر بقواته الأمنية، تدك بيوتها وتهدم فوق رؤوس ساكنيها، وتقدم عشرات الشهداء والمعتقلين، وتصر على الرغم من ذلك بالاستمرار في طريق يقول أغلب الناشطين أنهم لن يعودوا عنه.

تقول ريم: لقد اعتقلت على يد قوات الأمن، حيث ساقوني إلى إحدى الأفرع الأمنية في دمشق، لم أشعر بالخوف، خصوصاً عندما فهمت أنهم لن يؤذوني، كنت أشعر بالقلق على عائلتي وكيف سيواجهون كلام الناس، كنت أتساءل: هل علم جيراننا بغيابي؟ زملائي في العمل.. أقاربي؟ وبعد أن خرجت، علمت أن نصف سوريا كانت تعلم بقصة الاعتقال هذا، فالناشطين ومنهم صديقاتي كانوا قد نظموا تظاهرات للمطالبة باطلاق سراحنا، وعندما خرجت استقبلت استقبال البطلات، كان الدعم الشعبي لنا واضحاً للعيان. رددت في قرارة نفسي: اعتقلتني قوات الأمن، أخذوا خوفي مني، وبقيت أنا وحلمي بحرية أرى أنها باتت قبض اليد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى