صفحات العالم

“داعش” مرة أخرى –مقالات متنوعة-

 

بين “داعش” و “النصرة”/ حسن شامي

إذا جمعنا الاتهامات التي تتبادلها قوى المحاور المتصارعة والمتنافسة بالوقوف خلف «داعش» حصلنا على خلاصة مذهلة: الكل مع تنظيم «داعش» والكل ضده في آن. وقد تكفي مثل هذه الخلاصة لتشخيص حال من الهذيان تعصف بالمنطقة على إيقاع استنفار متعاظم لمختلف أنواع العصبيات.

والاستنفار هذا يغذي ويتغذى، شعورياً أو لا شعورياً، من تصدّع الأبنية والأطر الوطنية للكيانات الموروثة عن خريطة سايكس – بيكو. ومع أن دوامة المواجهات الدائرة تضخ الكثير من عوارض هذيان وشطط مستفحلين، فإن الحديث عن جنون وبائي يبقى، على أهميته، رواية من بين روايات أخرى.

قد يكون أقرب إلى الصواب أن يقال إن الكل يناور مع داعش والكل يناور عليه. وهذا ما يفعله هو أيضاً، على ما يبدو. فهناك تحالف دولي يفترض أنه عريض وتقوده الولايات المتحدة ضد «داعش». والملاحظ أنه كلما ازداد الحديث عن الحرب الدولية مقروناً بغارات جوية تستهدف مواقعه ازداد تقدمه ميدانياً ليس في سورية والعراق فحسب، بل كذلك في ليبيا إضافة إلى استهدافه مسجدين شيعيين في السعودية. لقد استولى التنظيم مؤخراً على مدينة تدمر السورية الأثرية وعلى مدينة الرمادي العراقية، ورأى مراقبون كثر أن هذا الاستيلاء لم يكن ضربة حظ بل يندرج في مشروع لرسم خريطة دولة موقتة ذات إقليم متصل يخترق حدود الدولتين. ولكن ما هو هذا التنظيم الذي اقتحم، مثل نيزك لفظته السماء أو زلزال صاعد من جوف أرضي، المشهد المعقد والشديد الاضطراب سورياً وعراقياً. هل هو اتحاد قوى تحمل جروح ورضوض أجسام اجتماعية تعرضت لتهميش وإذلال قاسيين؟ هل هو مافيا جهادية معولمة بالنظر إلى أن حوالى ستين في المئة من مقاتليه هم من خارج العراق، بحسب تقديرات تداولها المجتمعون في باريس قبل أيام قليلة؟ هل هو تجمع لعصابات تحركها من خلف الستار شبكات وقوى تعمل في الظل والخفاء؟ هل هو أيضاً خليط من هذا كله؟

يحار كثيرون في تعريف «داعش» وأمثاله من مشتقات «القاعدة» والسلفيات الجهادية. وتعود هذه الحيرة المعرفية، منذ نشأة تنظيم «القاعدة» في الأقل، إلى صعوبة تحديد العلاقة بين مجموعات جهادية تؤمن بضرورة اجتراح دور بطولي في مواجهة منظومات قوية ومتعجرفة وبين الإسلام كمصدر لشرعية الجهاد.

والصعوبة تتعلق بفكرة الجهاد نفسها وبحمولتها الملتبسة. فهل في خلفية الدعوة إلى الجهاد وإلى تطبيق الشريعة تصور جدي عن مكانة مطلوبة للإسلام في العالم الحديث، والمتشابك على نحو غير مسبوق، كي يساهم كقيمة تبادل ثقافي في صياغة قيم إنسانية عالمية، أم أن الدعوة هذه هي مجرد لافتة لاستقطاب أفراد ضاقت بهم السبل بحيث يسهل استخدامهم من جانب مشغّلين لا تعوزهم الصلافة. في هذه الحالة لا يكون للصفة الإسلامية سوى قيمة استعمالية سبق لقوى دولية اختبارها أيام الحرب الباردة لمكافحة الشيوعية وما يقرب منها. إذا شئنا مقاربة الظاهرة من الناحية السيكولوجية فلن يكون صعباً تشخيص البؤرة النفسية التي تصدر عنها سلوكات السلفيين الجهاديين. بل حتى يمكن تقديم السردية الجهادية، وإن باختزال، على النحو التالي. الأقوياء يسيطرون على الضعفاء بواسطة تهديدهم بتحطيم حياتهم والتحكم بلقمة عيشهم. قد يكون الأقوياء حكاماً مستبدين ومتغوّلين وفئويين وقد يكونون منفذي سياسات دولية أكثر تعقيداً والتواءً. في كلا الحالين يقول الجهادي الجديد: هذه الحياة التي تهددوننا بتحطيمها ما عدنا نريدها، بل حتى سنطلب، نحن، الموت لنا ولكم. وسنستعرض تحدينا لكم ونفصح عن عدائنا عبر تظهير أقصى ما يمكن من العنف لإرهابكم. ماذا يسعكم أن تفعلوا في هذه الحالة وبم ستخيفوننا؟

يبدو أن هذا التظهير للطاقة المكتومة يجتذب أفراداً لا يستهان بعددهم ما داموا يتحدرون من بيئات مرضوضة على غير صعيد. على أن إشهارهم لقلة تعلقهم بالحياة لا يجعل منهم مجرد راغبين في الموت. بل هو على العكس طموح إلى الاستيلاء على الحياة كما لو أنها غنيمة. والقطيعة مع الحاضر إنما هي للاستحواذ عليه بكامله. والسلف الذين يقتدون بهم لا يقيمون في ماض تاريخي بل في لحظة تأسيس افتراضية. وهذا الوعي القيامي يحتمل تنويعات هي أقرب إلى اصطناع تمايزات بين أمراء حرب يتقاسمون صورة الفتوة كمثال للحياة التي تستحق وحدها أن تعاش.

هذا ما يمكن أن يستفاد من كلام قائد أو أمير «جبهة النصرة» في سورية أبو محمد الجولاني في الحلقة الثانية من المقابلة التي أجرتها معه «قناة الجزيرة». وما يسعى إليه هذا الأخير هو تجميل صورة تنظيم القاعدة في بلاد الشام لمواكبة محاولات إقليمية لتعويم نشاطه وتثبيت حضوره السياسي وسط الفوضى العارمة التي تلتهم الأخضر واليابس. فهو استفتى، بحسب ما يقول، العلماء وأقروا بشرعية عمله، الأمر الذي لا ينطبق على منافسه أبو بكر البغدادي. ورأى أن «الإخوان المسلمين» «انحرفوا» عن النهج الشرعي لأنهم سايروا فكرة الدولة المدنية والوصول إلى السلطة من طريق الانتخابات. وأقر الرجل بأن ثلاثين في المئة من مقاتليه هم من الأجانب، من «المهاجرين» بحسب عبارته المستقاة من فترة بدايات الدعوة وتأسيس الجماعة الإسلامية الأولى. وهو لا يريد استدراج إيران إلى المواجهة كما فعل أبو مصعب الزرقاوي بل قطع أذرعها في المنطقة. ويأخذ على «داعش» عدم التزامه بطلب أمير «القاعدة» أيمن الظواهري عدم مهاجمة الأسواق والحسينيات. لكن «داعش» قام بعمل جيد في العراق. يبقى ان القتال بين التنظيمين الجهاديين المتنافسين هو ما يترجح في العلاقة بينهما. سخر الجولاني من المعارضة الخارجية التي لا وزن لها إلا في الفنادق والإعلام فيما تشكل «جبهة النصرة» قوة المعارضة الميدانية الأولى. وهاجم الغرب وحكوماته وحكام دول الخليج الذين وصفهم بالانصياع لإرادة الغرب.

نحن أمام نماذج لتصورات قيامية قابلة للتوالد داخل الفرقة الواحدة مما يعد بحروب مفتوحة لا تبقي ولا تذر. وإذا كان الشطح هو ما يسم هذه التصورات فإن الهذيان هو ما نجده في أدبيات إعلامية ودعوية صادرة عن أوساط تزعم العقلانية. ترشيق «النصرة» قرينة كافية.

الحياة

 

 

 

الأسد يدعم “داعش”/ طارق الحميد

العنوان أعلاه هو اتهام وجهته الولايات المتحدة الأميركية عبر موقع سفارتها الرسمي في دمشق، والمغلقة بالطبع عمليا على الأرض، تقول فيه إن قوات نظام المجرم بشار الأسد تقوم بتنفيذ غارات جوية لمساعدة تنظيم داعش على التقدم حول مدينة حلب.

وتقول السفارة الأميركية إن «التقارير تشير إلى أن النظام يشن غارات جوية دعما لتقدم تنظيم داعش إلى حلب ويساعد المتطرفين ضد السكان السوريين»! وتأتي هذه التصريحات الأميركية المتهمة للأسد بدعم «داعش» في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس حسن روحاني أن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية حكومة وشعبا ستقف حتى النهاية إلى جانب الحكومة السورية وشعبها». وفي الوقت الذي يشكو فيه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من نقص الدعم الدولي لبلاده بمواجهة «داعش»، وقوله إن تدفق المقاتلين الأجانب لبلاده لم يتوقف، ومتهما بعض «دول الجوار» بالتساهل حيال ذلك، وفوق هذا وذاك يأتي الاتهام الأميركي لنظام الأسد بدعم «داعش»، متزامنًا مع تصريحات مهمة لوزير خارجية فرنسا فحواها أن الحل بالعراق ضد «داعش»، يجب أن يبدأ عبر الحل السياسي في سوريا.

والحقيقة أن دعم الأسد لـ«داعش» غير مستغرب، حيث فعلها الأسد من قبل في العراق وذلك باستغلال مقاتلي تنظيم «القاعدة» بعد الغزو الأميركي، وكلنا يتذكر التهديدات العراقية قبل أعوام بشكوى النظام الأسدي دوليا على خلفية سلسلة تفجيرات إرهابية هزت بغداد حينها، وعليه فإن دعم الأسد لـ«داعش» متوقع، خصوصا وأن قيادات التنظيم الإرهابي قد أطلق سراحهم من سجون الأسد كما أطلق سراح آخرين محسوبين على «داعش» من سجون العراق إبان فترة نوري المالكي الذي قرر دعم الأسد بعد الثورة السورية لأسباب طائفية. ولذا فإنه لا جديد، ولا استغراب، من اتهام الأميركيين للأسد بدعم «داعش»، التي تخدم الأسد بمناطق عدة، ولذلك فإن الحل الأمثل للتعامل مع «داعش» وخطرها ليس في توجيه ضربات عسكرية فقط، بل ضرورة الشروع بالعمل السياسي والعسكري المتكامل في سوريا، والعراق. المفروض أن يصار إلى ضغط دولي على حكومة العبادي لإتمام مصالحة سياسية داخلية، وعدم إقصاء أي مكون عراقي، وضرورة تسليح العشائر السنية لتتمكن من التصدي لـ«داعش»، وفي الوقت الذي يجب أن يصار فيه إلى الشروع سياسيا، وعسكريا، بسوريا لدعم المعارضة، وإسقاط الأسد، أو تسريع نقل السلطة في سوريا.

دون ذلك فإن كل ما يتم، ويقال، عن محاربة «داعش» ما هو إلا إجراءات صورية ستكون لها عواقب وخيمة على كل المنطقة، فـ«داعش» والأسد واحد، وإقصاء الحكومة العراقية لسنة العراق لا يقل أبدا عن طائفية النظام الإيراني المؤجج للفتنة بالمنطقة من سوريا إلى لبنان، ومن العراق إلى اليمن.

إعلامي و كاتب سعودي ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”

الشرق الأوسط

 

 

 

 

الحرب على “داعش”… مؤجلة/ محمد ابرهيم

رغم استمرار الضجيج الدولي حول أولوية مكافحة “داعش”، وحول انتقال خطر هذا التنظيم من المستوى الإقليمي الى المستوى العالمي، إلا أن الوسائل المرصودة لمكافحته لا تبدو متناسبة مع “الوعي” بمخاطره.

في البداية قيل إن مشكلة محاربة “داعش” تكمن في تعقيدات الساحة السورية، وإن النصر الآتي عليه في العراق لن يكون مكتملاً قبل الوصول الى حسم أو تسوية في سوريا. ثم تبين أن مشكلة “داعش” في العراق لا تقل تعقيداً عن المشكلة التي يمثلها في سوريا. والمؤتمر الأخير للائتلاف الدولي ضد “داعش” في باريس كان ساحة للشكاوى المتبادلة بين الحكومة العراقية وداعميها الدوليين. وإذا كان المؤتمر قد انتهى الى دعم علني لخطة الحكومة العراقية لمحاربة “داعش” إلا أنه لم يقدم حلاً لمعضلة ان التركيبة الحاكمة في العراق لا تنتج جيشاً قادراً استعادة السيادة على كامل البلاد، وأن مستوى الدعم الدولي لا يستطيع أن يعوّض هشاشة الجيش العراقي. أما الاتكال على “الحشد الشعبي”، الشيعي، فهو وصفة لتغذية “داعش” لا للقضاء عليه.

ولأن العلاقة بين الحكومة العراقية والائتلاف الدولي من ناحية، وبين هذا الائتلاف والنظام السوري من ناحية ثانية، هي الوجه المعلن للعلاقة الضمنية بين الائتلاف الدولي وإيران، فإنه ليس منتظراً أن تطرأ تطورات في الحرب على “داعش” في اتجاه القضاء عليه في المساحة السورية – العراقية التي يسيطر عليها. فإيران هي الحاضر الأول في أي خطة دولية ضد الإرهاب، وليس معقولاً أن يقدم الائتلاف الدولي سوريا والعراق هدية لطهران، أي أن يعيد وصل “الهلال الشيعي” بعدما انكسر، ولو بواسطة “داعش” وأشباهه.

من هنا فإن ما يقال عن مرحلة مقبلة طويلة في محاربة “داعش” هو الوجه الآخر لمرحلة دفاعية طويلة انتقلت اليها ايران في العراق وسوريا، عنوانها الدفاع عن بغداد ودمشق اللتين باتتا في دائرة الخطر المباشر لا استعادة “السيادة” على البلدين. والدفاع بات يقتضي انخراطاً عسكرياً ايرانياً مباشراً لم تعد طهران تتحفظ في اعلانه.

حتى في اليمن حيث لا يزال بعض زخم الاندفاعة الهجومية الايرانية الاولى بارزاً، فإن أخذ الموارد المطلوبة لدعم التحالف بين الحوثيين وعلي عبدالله صالح في الاعتبار، يجعل طهران في موقع دفاعي. والموارد التي يُنتظر الافراج عنها بعد الاتفاق على الملف النووي الايراني لن تكون كافية لإحداث انفراج في الوضع الاقتصادي الايراني الداخلي، والاستمرار في ادارة ثلاث حروب اقليمية.

لذلك كله تنتظر الحرب على “داعش” ان يتبلور لدى طهران قرار بالتسوية الاقليمية موازٍ لقرارها بالتسوية في ملفها النووي، لا التسوية في الاخير للتفرغ للحروب الاقليمية.

النهار

 

 

المريب في حروب “داعش”/ عرفان نظام الدين

لا حاجة إلى التدقيق كثيراً وبعمق في حروب «داعش» المتعددة، وفي ما يسمى «الحرب على الإرهاب» لطرح مئات الأسئلة عن الأهداف الحقيقية والأساليب والوسائل والنتائج التي يراد تحقيقها من وراء التحالف الدولي وغاراته التي تشبه النزهات في ما يعلن عن ضرب تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في العراق وسورية وامتداداته في العالم.

هذه الحرب تكمل عامها الأول من دون أن نلحظ متغيرات على أرض المعركة أو أن نتفاءل بقرب الإعلان عن حسم سريع ينهي حالة القلق وأجواء الرعب التي تسود المنطقة والعالم من الجرائم الرهيبة التي ترتكب في حق البشر والحجر والتراث والحضارة والماضي والحاضر والمستقبل. حتى المؤشرات تبدو غائبة عن رسم معالم طريق تدل على قرب القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، أو على الأقل إضعاف «داعش» وكسر شوكتها والتمهيد للمرحلة النهائية.

كل ما جرى حتى الآن مجرد إعطاء مسكنات وإجراء عمليات جانبية محدودة وضعيفة المفعول والنتائج، علماً أن كل التوقعات والتحليلات كانت تجزم بأن العملية تحتاج إلى وقت طويل (سنوات عدة بحسب الخبراء العسكريين)، من دون أن نعرف سر هذا التأخير. كما أن معظم هؤلاء الخبراء والمحللين أكدوا أن الأمل بحسم هذه الحرب عن طريق الغارات الجوية ضئيل، وأنه لا بد في النهاية من هجوم بري ساحق لاجتثاث قواعد «داعش» من جذورها، وهذا يتطلب وقتاً أطول ويكلف ثمناً باهظاً. ولم يعلن بعد إن كانت عملية الكوماندوس الأميركية في شرق سورية التي قتل فيها «أبو سياف»، أحد قادة «داعش» الرئيسيين و٤٠ من عناصره تشكل بداية جس نبض للإعداد للعملية (أو العمليات) البرية، وخصوصاً بعد تمدد «داعش» إلى عروس الصحراء تدمر… وما بعدها.

بانتظار جلاء الأمور، ليس في الأفق سوى مؤشرات سلبية وأقوال غامضة وأفعال مريبة توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن ما يخطط له أكبر بكثير من خطر «داعش» وأبعد مما يتوقعه العرب وما يحتاج إليه العراقيون والسوريون للحفاظ على وحدة بلادهم ومنع مخططات التقسيم والتفتيت. فالريبة المضاعفة تستند إلى وقائع وحوادث ونتائج تؤدي كلها إلى طرح تساؤلات كثيرة لا بد من الإشارة إليها في نقاط محددة، من بينها:

* التباطؤ الشديد في العمليات وتضاؤل حجم وفاعلية الغارات مع مرور الزمن يدفع إلى الشك بجدولها وأهدافها والشعور بأن من يقوم بها يقدم عليها «من غير نفس» لرفع العتب، وأن من يوجه لم يدرك بعد أن الخطر يدق بابه وأنه يتسلل إلى عقر دار معظم الدول وبات يشكل معضلة حقيقية يدفع ثمنها العالم كله من أمنه واستقراره واقتصاده.

* التركيز على زيادة خطر «داعش»، وعدم المس بمواقعه الرئيسية وأماكن تمركزه في الموصل والرقة ودير الزور، فقد لعبت الدعايات الإعلامية الموجهة (البروباغندا) في البداية ولعدة أشهر على عين العرب (كوباني)، وكأن كل المعركة محصورة في هذه البلدة ذات الغالبية الكردية: قصف جوي يومي ودمار شامل ومعارك شوارع ضارية بين البيشمركة ومقاتلين أكراد وجحافل «داعش»، وسط تساؤلات عن الخطوات التالية، فيما يجري تركيز الأنظار على المناطق الكردية فقط من دون المناطق السنية والمسيحية والإيزيدية المحتلة التي تعاني الأمرّين من بطش «داعش» وإعداماته وأعماله اللاإنسانية.

فكيف يمكن تفسير تزامن هذه الممارسات مع إقرار الكونغرس الأميركي قانوناً يقضي بالتعامل مع العراق بسياسة الشرعية والقانون، أي مع ثلاثة أطراف ومناطق سنية وشيعية وكردية، بما في ذلك بيع السلاح والتدريب بالمفرق والتعامل المباشر مع الجهات النافذة فيها على رغم إعلان الإدارة الأميركية عدم أهمية هذا الإجراء الذي أثار الكثير من الشكوك والريبة.

وزاد الطين بلة ما أعلنه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، أن الاستقلال صار أمراً واقعاً، وأن الإعلان عنه سيتم قريباً، مؤكداً العودة إلى الأوضاع السابقة وعدم التراجع عن قرار الانفصال، مع التركيز على اهتمامه بالحوار لا بالقوة العسكرية.

* وهنا أيضاً يبرز تساؤل عن موقف الإدارة الأميركية التي عودتنا على الأقوال، ثم القيام بأفعال مناقضة لها بعدما أعلنت أنها لا تؤيد ما أعلنه بارزاني، ثم مارست سياسات توحي بالعكس. وإلى ذلك، يُطرح سؤال آخر عن مواقف الأطراف الشيعية من هذا الطرح المؤسف الذي يهدد وحدة العراق. فهل ستقاومه أو تسكت عنه أم أنها سترضى به وتهيئ لإعلان مماثل، وتترك المناطق السنية لتدبر نفسها بنفسها بعد اقتطاع مناطق الثروات النفطية وقطع أوصالها؟

أما السؤال الأهم، فيركز على دور تركيا وموقفها الواضح. فهل سترضى بالنصيب وتسهل قيام دولة كردية في خاصرتها الرخوة؟ أم أنها ستمنع قيامها بأي ثمن، حتى لو اضطرت إلى شن حرب عليها ستكلفها الكثير؟ ثم ماذا عن أكراد تركيا؟ هل سيتخذون خطوة مماثلة بالانضمام إلى كردستان العراق؟ أم أنهم سيعلنون دولة كردستان سورية بعد سنوات من التحضير والإعداد والتسلح، مدعمة بالثروات النفطية والمائية والزراعية الغنية التي تدر البلايين ويتميز بها شمال سورية المعروف تاريخياً باسم «أهراءات الشرق»، مثله مثل شمال العراق.

هذه التساؤلات تؤدي إلى بيت القصيد، وهو موقف الحكومة المركزية في بغداد، ومدى قدرتها على مقاومة الطرح وجديتها في الحفاظ على وحدة العراق، علماً أنها أخذت منذ بداية الغزو الأميركي للعراق إلى ما بعد الانسحاب بعداً طائفياً لا يمكن إخفاء صبغته المذهبية الفاضحة المحسوبة عليها.

وهنا أيضاً تثار الريبة في غض الطرف عن ممارسات ما يسمى «الحشد الشعبي» عند المشاركة في الحرب على «داعش»، وارتكابه انتهاكات فاضحة ضد المناطق السنية وسكانها وعمليات تطهير عرقي ومذهبي شملت القتل وإحراق المنازل والتهجير والعمل على تغيير البنية السكانية بإسكان فئات موالية في بيوت السكان المنكوبين.

* تزامن هذه الانتهاكات مع قرار تشكيل ما يسمى «الحرس الوطني» وتسليح العشائر السنية بضغط أميركي للتخفيف من نقمتها على ممارسات الحكومة والميليشيات الموالية لها، وإقناعها بعدم جدوى التعاطف مع «داعش» وحملها على المشاركة في الحرب عليها والدفاع عن مناطقها بعد تطمين السكان بتأمين الحماية ومنع الانتهاكات وردع المرتكبين وملاحقة أي مسؤول عنها، مهما كانت قوته وانتماءاته.

* أما التساؤل المرتبط بهذه المسألة، فيتعلق بدور إيران وأهدافها البعيدة المدى وموقفها الفعلي من قضية تقسيم العراق بعد السماح لها بالمشاركة في الحرب على «داعش». فهل ستمضي في تبني هذا الطرح على رغم أخطاره على كيانها ووحدتها في ضوء انتفاضات المناطق السنية والكردية؟ أم أنها تفضل استمرار الوضع القائم، على هشاشته، والهيمنة عليه كمرحلة تفضي إلى إحياء أحلام الامبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، كما صرح عدد من القيادات الإيرانية الدينية والعسكرية.

* أما التساؤلات عن دور «داعش» وأهدافه السرية، فتحتاج إلى مقال مسهب. لأنه نجح في أمور كثيرة تصب في خانة التقسيم، بدءاً من الإساءة إلى الإسلام، دين الوسطية والاعتدال والرحمة والتسامح، إلى تدمير البنى التحتية العراقية، ومعها الحجر والبشر وإقامة أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، فيما يترك التنظيم ليسرح ويمرح ويتاجر بالنفط والغاز ويدمر الآثار ويسرق ما خف وزنه وغلا ثمنه ليجني منه الملايين ويبني جداراً حول الموصل ويثير الأحقاد الدينية والكراهية التي تطاول السنّة قبل غيرهم، ويعدم المئات منهم من دون رادع ديني أو أخلاقي، فيما يتشدق رعاة الحرب على الإرهاب بتقارير الغارات اليومية التي تقدر بالآلاف من دون أن تتمكن من كسر شوكة الإرهاب، بل زادته قوة وأمدته بالمبررات للتوسع وكسب التعاطف.

ولو أردنا المضي في طرح التساؤلات لما انتهينا، فالقائمة طويلة لكن هذه العينات تؤكد ما نذهب إليه من التحذير من كل هذه المؤشرات التي تثير الريبة والقلق ولا تطاول العراق وسورية فحسب، بل تمتد لتشمل المنطقة العربية كلها. فما يكشف اليوم من غايات خبيثة يتطلب موقفاً موحداً وحاسماً قبل فوات الأوان حتى لا تكر سبحة التقسيم والتفتيت.

* كاتب عربي

الحياة

 

 

 

إيران تهدّد.. و«داعش» ينفذ/ إياد أبو شقرا

جاء «تفجير العنود»، بعد «تفجير القُديح»، ليؤكد أن المملكة العربية السعودية في حالة حرب.

حتى قبل شن عملية «عاصفة الحزم» تسابقت القيادات الإيرانية على توجيه التهديدات للمملكة. ولكون أطماع طهران واسعة على مساحة العالم العربي، صار قادتها يعتبرون أي تصدٍّ لتدخلها السافر في الدول العربية «تدخلاً في شؤونها الداخلية»، كيف لا وقد بشّرنا بعضهم بأن «حدودها» تصل اليوم إلى البحر الأبيض المتوسط، وأنها أضحت تتحكّم بأربع عواصم عربية.

ثم حتى خارج «المُستعمرات الإيرانية الجديدة»، ترى طهران أنها صاحبة الحق المُطلق بالتكلّم باسم أي شيعي في أي مكان في العالم العربي، ولها ملء الحرية في منح شهادات الوطنية وشرعية التمثيل على من تختار. وفي المقابل، تهدر دم كل من تكره بإلصاق تهم الخيانة بهم، كما فعل أمين حزب الله اللبناني باعتباره أي شيعي لبناني لا يسير في ركاب حزبه، ويتحفّظ عن تبعيته السياسية المطلقة، من «شيعة السفارة» (الأميركية طبعًا لا الإيرانية).

التهديدات الإيرانية لم تتوقّف منذ عام 2011 مع تدخّل قوات «درع الجزيرة» في البحرين لتأمين المنشآت الحكومية وحماية الأمن بعد الاحتجاجات المحرَّكة إيرانيًا، ثم بعد الموقف الحازم للرياض والعواصم الخليجية من الحرب الغاشمة التي شنّها بشار الأسد على انتفاضة الشعب السوري. وما كان لهذه التهديدات أن تُطلق لولا وجود نية عدوانية وراء إطلاقها. إذ لا يهدّد جيرانه بالفتنة الداخلية مَن يؤمن بعلاقات «حسن الجوار» و«التعاون الإقليمي» كما يرد – أحيانا – على لساني حسن روحاني ومحمد جواد ظريف المعسولين، وتصدقه العواصم الكبرى.

ومن ثَم، فعندما اضطرت دول مجلس التعاون الخليجي لحماية الشرعية في اليمن بعد الانقلاب الحوثي عليها وعلى المبادرة الخليجية المدعومة دوليًا، انكشف عمق التورّط الإيراني في اليمن على شتى الأصعدة، من التسليح فالتمويل فالجهد اللوجيستي والتدريبي والقتالي. الترسانة المسلحة التي بنتها إيران في اليمن، والروابط التنظيمية التي أقامتها مع الحركة الحوثية منذ سنين، يستحيل أن يكون هدفها موضعيًا محدودًا، بل هو جزء لا يتجزأ من التمدّد الجيو – سياسي القائم على فكرة «تصدير الثورة». ولقد جاء الانقلاب الحوثي في اليمن جزءًا من «حرب» فعلية تشنها إيران، أولاً لضرب السعودية، وثانيًا لتدمير أمن الخليج، وثالثًا للهيمنة على منطقة المشرق العربي والمجاري المائية من الخليج إلى قناة السويس.

إلا أن الحرب لم تأخذ دائمًا شكل المواجهة المباشرة، بل كثيرًا ما أخذت شكل الاستغلال «الموسمي» لجماعات، منها مَن هو مشبوه ومنها من هو مُضلَّل (بفتح اللام)، تزايد في خطابها السنّي التكفيري على أهل السنّة والجماعة، وترتكب الفظائع باسم الإسلام، وتخوض حربًا ضروسًا على الاعتدال الإسلامي في كل مكان.

ظروف نشوء تنظيم القاعدة معروفة، ونتذكّر كيف أسهمت قوى عالمية كبرى في «حرب أفغانستان» إلى جانب الدول العربية أو الإسلامية، التي تحمّلها بعض الأصوات في الغرب اليوم وحدها مسؤولية تلك الحرب وتداعياتها مثل ظهور «القاعدة» ثم «داعش». وما يتسابق بعض المعلقين الغربيين على تسويقه دفاعًا عن الصفقة النووية الإيرانية – الأميركية الآن، هو حصر مسؤولية التطرّف «الإسلامي» – بالذات في التطرّف السنّي – بدول عربية وإسلامية بعينها، نافيًا دور العواصم الغربية الكبرى في تحويل أفغانستان إلى «فيتنام الاتحاد السوفياتي».

ومن جهة أخرى، للغاية نفسها، ثمة مساع حثيثة تبذل في الإعلام الغربي في أميركا وأوروبا على محو صورة التطرّف الإرهابي «الإسلامي» من الذاكرة الجماعية الغربية عندما يتعلق الموضوع بالحليف المستقبلي إيران. فحتى في الولايات المتحدة وبريطانيا التي خُطف منها رعايا (واحتجزوا لسنين كثيرة) أو قتلوا خلال الثمانينات في لبنان وغيره، يتحوّل «التطرّف الإسلامي» شيئًا فشيئًا إلى «التطرّف السنّي» وحده.

هذه الجهود وصلت أخيرًا حتى إلى اليابان. إذ نشرت صحيفة «جابان تايمز» تحقيقًا من بغداد جاء فيه أن «داعش» يبني «سلاح طيران من الشاحنات المتفجرة»! ويشرح التقرير كيف اعتمد التنظيم المتطرّف أخيرًا «الشاحنات المتفجرة» في عملياته في أماكن عدة منها عين العرب (كوباني). ثم أوضح معدّ التقرير – بارك الله فيه – كيف أن «داعش» لم يبتكر المركبات المتفجرة (رمز إليها بأحرف SVBIED) بل سبق استخدام عربات خيل متفجرة عام 1800 في محاولة اغتيال نابليون بونابرت في باريس. ثم عدّد أمثلة أخرى مُستشهدًا بخبراء أميركيين «تذكّروا» تفجيرات «نمور التاميل» و«تفجير أوكلاهوما سيتي» (1995)، لكن غاب عن بالهم لسبب ما تفجير «المارينز» الأميركيين في بيروت عام 1983!!

المسألة ليست نسيانًا بل تناسٍ متعمّد لأنه مطلوب على أعلى المستويات محو مثالب خصم الأمس وتأهيله ليغدو حليف الغد. ولهذا السبب يتوجب التعامل مع الحرب الإيرانية بوعي يستوعب كل أبعادها ويتحاشى التبريرات الساذجة واللامسؤولة التي تعزّز حجة المنهمكين بـ«تبييض صفحة» طهران، تمهيدًا لاستعداء العالم كله على خصومها السياسيين الإقليميين. وبالتالي، فإن أي تردّد في إدانة الزُّمر المتطرفة التي تورّطت وتتورط في فظائع «داعش» في كل مكان، ولا سيما الآن في السعودية، يسدي خدمة كبرى لذلك المشروع الخطير.

نعم هناك ظلم. نعم توجد بيئات حاضنة تكبر وتتنامى وتزداد مرارة بسبب هذا الظلم.

لكن ما نشهده اليوم «حرب» بكل ما للكلمة من معنى، ولا سبيل لكسبها إلا بتحصين «الجبهة الداخلية» فعلاً لا قولاً. ثم إن الدور الإقليمي الذي يؤديه «داعش» صار مكشوفًا، على الأقل، في سوريا حيث هو «الحليف الميداني المستتر» لنظام بشار الأسد وداعميه. وهذا الدور هو تعريض ملايين المسلمين السنّة في المنطقة للتهجير والتشريد، بعد وضعهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الرضوخ للاحتلال الإيراني تحت الألوية المذهبية الانتقامية، أو الاستكانة لسيوف «داعش» وخناجره.

بلداننا وأقلياتنا ليست بحاجة لحماية أجنبية.. إيرانية كانت أم غير إيرانية، ومصير أقلياتنا الدينية والمذهبية والعرقية أمانة في أعناق كل وطني حريص على مجتمعات متماسكة ومتضامنة تستند إلى التعايش وتحترم التنوع بل وحق الاختلاف.

وعلى من يرفض التعايش تحمّل عواقب مواقفه.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

 

 

 

التحالف ضد داعش».. استراتيجية فاشلة/ عبد الوهاب بدرخان

أصبح الحذر ضرورياً جداً إزاء المتداول من الأخبار عن تحركات تنظيم «داعش»، تقدمه وتراجعه، نجاحاته وإخفاقاته، وإقبال مزيد من الأجانب إلى صفوفه أو إعراضهم عنه. والسبب في استدعاء بالغ الحذر أن الحكومات المعنية مارست الكثير من التضليل الإعلامي إخفاءّ لعجزها. ثمة تقارير اقترحت قبل أسبوع أن بيانات «داعش» كانت أكثر دقة، فهي تبلغ عما يحصل بمعزل عن الفظاعات التي يمكن أن تتضمنها. والسبب الآخر أن الجميع يرى ويسمع ما يحدث. مع ذلك تحدثت بغداد مثلاً عن حملات تعدها ضد «داعش» ولم تشر إلى تقدّمه، أما دمشق فصوّرت انسحاب قواتها من تدمر و«إنقاذها» ما استطاعت من آثارها – ومن سجنائها – كما لو أنه فوز على التنظيم الذي احتل المدينة. وحتى «البنتاجون» أعلن مراراً أن «داعش» ضعف وأصبح في «موقف دفاعي».

ورغم أن مصادر البيت الابيض تحدّثت عن «مراجعة للاستراتيجية» المتبعة في الحرب على الإرهاب، إلا أن الرئيس الاميركي قال في مقابلته مع مجلة «ذي اتلانتيك»: «لا أعتقد أننا نخسر». لا يريد أوباما تغيير استراتيجيته التي يتزايد عدد الخبراء الذين يعتبرون أنها لا تفلح ولا يمكن أن تفلح، بل إنها تفيد طرفين آخرين مستفيدين منها، وهما لا يغيّران أيضاً استراتيجيتيهما: فهناك إيران من جهة، إذ تصرّ منذ البداية على التنسيق معها لتتولّى هي الحرب على الأرض، فيما تتولّاها الولايات المتحدة و«التحالف الدولي» من الجو. وهناك من جهة أخرى تنظيم «داعش» نفسه الذي لم يبدّل خططه، ورغم الأربعة آلاف ضربة جوية التي تلقّاها والهزائم التي مُني بها لا يزال حاضراً وجاهزاً لانتهاز أول فرصة سانحة كي يتوسّع جغرافياً.

سيكون على أعضاء «التحالف الدولي»، خلال لقائهم اليوم في باريس، أن يتصارحوا أكثر في ما بينهم، وأن يعتمدوا الشفافية تجاه الرأي العام. لا يمكن ادّعاء الفاعلية حيث لم تظهر إلا لماماً، ولا يمكن اللعب بالاعلام، لأن الكذب ينكشف بسرعة. فالمهم أن يثبتوا حرصهم على الإنجاز، إذ لم يعد مفيداً تكرار أن الحرب ستكون طويلة، لأن أحداً لا يسأل اليوم متى تنتهي، وإنما لماذا تسقط الرمادي بالسيناريو نفسه كما سقطت الموصل، وكيف أمكن لـ «داعش» أن يجتاز مسافة طويلة مكشوفة في الصحراء ليغزو تدمر من دون أن يراه طيران «التحالف». والأهم أن ترى حكومة بغداد مدى حزمهم في التزام الشروط التي حدّدوها بأن تواكب الحرب مساعٍ جدية من أجل مصالحة وطنية، وأن يحسموا أمرهم في ما يتعلّق بهذه المعارضة السورية «المعتدلة»، التي يتحدّث الأميركيون منذ سنوات عن تسليحها وتدريبها والاعتماد عليها في هزم «داعش». ففي نهاية المطاف لا بدّ من قوات برية للقيام بالمهمة، وليست هناك أي دولة في «التحالف» مستعدّة لإرسال جنودها إلى حرب كهذه. إذاً، فالمطلوب أن يتصارح «الحلفاء» وأن يزيلوا الشكوك المتزايدة حول أهدافهم ونياتهم.

بين السقوط الثاني للجيش العراقي أمام «داعش» في الرمادي، وسقوط قوات النظام السوري في «تدمر»، وإصرار الرئيس الأميركي على استراتيجيته، يترسّخ انطباع بأن الولايات المتحدة تبدأ مع «داعش» في سوريا والعراق ما انتهت إليه مع «طالبان» في أفغانستان، أي أنها تقرّ بواقع وجودهما وبقائهما واستمرارهما. وفي أي حال، يتأكد أكثر فأكثر أن «داعش» ماضٍ في اختراق «طالبان»، وفقاً لقائد مهمة الحلف الأطلسي الذي يؤكد أن هناك تجنيداً في أفغانستان وباكستان، لأن «داعش يدفع ضعف ما تدفعه طالبان». وما قصده أوباما دائماً هو ما أفصح عنه وزير دفاعه، أي أن أميركا لم تعد تريد أن تقاتل من أجل أحد، كانت لديها مشكلة تخلّصت منها بالانسحاب من أفغانستان، والآن «لدينا مشكلة في أن القوات العراقية لا تبدي إرادة للقتال. نستطيع أن نقدّم إليها التدريب والتجهيزات، إلا أننا بالتأكيد لا نستطيع أن نقدّم إليها إرادة القتال»، كما قال آشتون كارتر.

هذا لا يعفي الولايات المتحدة من مسؤولية مديدة، فهي استخدمت «المجاهدين» الأفغان و«الأفغان العرب» ثم رمتهم، والآن تستخدم «داعش»، في أدوار ووظائف متناقضة. لكن اللعبة التي مرّت بصعوبة في أفغانستان قد لا تصلح في الشرق الأوسط الأكثر تعقيداً. فكلما طالت سيطرة «داعش» وجرائمه الوحشية، وطالت الحرب عليه معطوفة على حرب أهلية، كلما ترسّخ في الأذهان أن تعايش الفئات بات مستحيلاً، وأن خرائط الدول في صدد أن تتمزّق. فهل هذا هو الهدف؟

الاتحاد

 

 

عامٌ على “داعش”/ جويس كرم

في 6 حزيران (يونيو) 2014، يوم سقوط الموصل في يد “داعش”، سألتُ على هامش مؤتمر دولي في الدوحة المسؤول الاميركي الاستخباراتي السابق بروس ريدل عن قراءته وتوقعاته، فقال أنه اذا أبقى التنظيم سيطرته على الموصل لأكثر من عام “فهو هناك ليبقى”.

عام مضى و”داعش” لم يبق فقط في الموصل، بل زاد إليها الرمادي وتدمر والرقة، وها هو يتوسع في اتجاه حلب، وينفذ عمليات في الفلوجة. وحشية التنظيم تتمدد تحت أعين طائرات تحالف من ستين دولة وأمام تفكك الجيشين العراقي والسوري، وفرار جنودهما فور السماع بأن مقاتلي التنظيم اقتربوا. وبعد عام يبدو ان العالم الغربي وعلى رأسه إدارة باراك أوباما بدأت تتأقلم مع الواقع الجديد، ومستعدة بعد تسعة أشهر من الضربات الجوية لقبول حرب ميليشياوية في الشرق الأدنى ضحيتها الاولى الدول والمجتمعات والحضارة، لكنها تبقى أقل الخيارات كلفة لواشنطن.

داعش بات اليوم واقعاً في الملعب الشرق الاوسطي الجديد، لن تقوى على غطرسته الضربات الجوية، ولن تقدر عليه الميليشيات الطائفية والانظمة الفاقدة القوة والشرعية. وحشيته في الإعدامات الجماعية وقتل السوريين والعراقيين قبل غيرهم، هي لتخويف الرأي العام ونيل صدى أعلامي، أما أجندته السياسية والاقتصادية فتستفيد من عقود من الحرمان في سورية والعراق. في تدمر، وزع “داعش” الخبز على الأهالي في وقت كانت قواته تعدم عائلات وجنود في مسرح القلعة التاريخية. قوته في ضعف اي بديل حقيقي منه، وغياب استراتيجيات سياسية توقف آلة قتل النظام السوري وضعف وتآكل الحكومة العراقية.

واشنطن شاهدت قوافل “داعش” تنتقل مركبة تلو المركبة في صحراء تدمر وداخل الرمادي من دون ان توقف مدها. السبب في ذلك ليس مؤآمرة كونية بين الولايات المتحدة والتنظيم، بل إقرار أميركي بأنه من دون اتخاذ الحكومة العراقية خطوات حقيقية للمصالحة، فلا أمل في هزيمة “داعش”، ومن دون عودة نظام الأسد الى طاولة التفاوض وقيام قوة فعلية ضد “داعش”، فالضربات على تدمر لن تثني مقاتلي التنظيم.

إدارة باراك أوباما  لن تعيد تجربة الـ 2003 – 2011 في العراق بإرسال جنودها للقتال في الشرق الاوسط، وهي تفضل اصدار مهمات المعارك إما من خلال تسليح المقاتلين الأكراد، او العمل على تسليح قبائل الأنبار على رغم معارضة بغداد، أو امتحان قدرات الميليشيات الشيعية في ساحات القتال حتى لو كان ذلك يجازف بخطر التطهير العرقي. أما في سورية، فالقيادة من الخلف وتحاشي الدخول في مواجهة مع ايران هناك هي استراتيجية اوباما، وفي الوقت نفسه يبقي تفادي دك عاصمة “الخلافة”، اي الرقة، الادارة مكبلة اليدين.

التفكك الميليشياوي في سورية والعراق أهدانا “داعش”، وبعد عام على نشوئها فكل المؤشرات تدل الى بقاء التنظيم في البلدين لسنوات. سرُهُ في اقتناص الفراغ والتخبط الاقليمي والدولي في مناطق النزاع، وهو في ذلك لا ينتظر “جنيف 3” أو استراتيجية “الصحوات”، بل يمضي في تغيير الحدود السياسة والحضارية الى حين استفاقة بغداد ودمشق من الغيبوبة.

الحياة

 

 

 

عملة دمشق – بغداد الباقية: «داعش» وخطره كبديل!/ محمد مشموشي

لم تتغير استراتيجية النظام السوري منذ بداية الثورة عليه عام 2011، بل وحتى قبلها منذ استيلاده «فتح الاسلام» و «جند الشام» وأشباههما في لبنان، للقول ان البديل عنه هنا وهناك لن تكون الا أسوأ منه. كما لم تتغير بدورها خطة ايران وربيباتها (حكومات ابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي) في العراق، قبل انسحاب القوات الأميركية وبعده، أولاً عبر التسامح مع «الدولة الاسلامية في العراق» التي كان شعارها مقاومة الاحتلال، وتحولت أخيراً الى تنظيم «داعش»، ودائماً بذريعة أن البديل هو الأسوأ: اما الحرب الأهلية المديدة أو التقسيم أو الارهاب في المنطقة وفي العالم.

كيف ذلك؟ لم يجد نظام بشار الأسد ما يصف به أحداث درعا مطلع آذار (مارس) 2011 الا أنها «حرب كونية» تشن ضد سورية، وأطفالها المتظاهرين الا أنهم «تنظيمات ارهابية». ثم انه عمد الى اطلاق سراح بعض السجناء الاسلاميين المتطرفين الذين سارعوا الى تشكيل فصائل مسلحة، وصولاً في الفترة الأخيرة الى سحب قواته من مدينة تدمر وتسليمها الى «داعش» من دون مقاومة.

وليس من دون دلالة على الهدف المبيت هنا، أنه قبل ذلك بأيام، وعلى العكس مما حدث من تسليم لتدمر، كانت قوات الأسد قد استماتت (هكذا قال إعلامها على الأقل) في وجه تنظيمات مثل «جبهة النصرة» و «الجيش السوري الحر» و «جيش الفتح» وغيرها كانت تهاجم ثم تحتل كلاً من ادلب وجسر الشغور ومستشفاها شمال شرقي سورية، وقبلها عدداً من البلدات والمناطق في درعا.

والهدف، كما بات جلياً من كثرة الحديث عنه في دمشق وبغداد وطهران، هو تكبير حجم تنظيم «داعش» وتعظيم الخطر الذي يشكله، لكن دائماً للقول انه أسوأ ما يمكن تصوره كبديل للنظامين السوري والعراقي الآن وفي المستقبل.

في الوقت ذاته، وللهدف ذاته كذلك، كانت القوات العراقية تنسحب من مدينة الرمادي وتسلمها الى «داعش» نفسه، تماماً كما كانت الحال عندما انسحبت من الموصل قبل حوالى عامين تاركة وراءها ترسانة ضخمة من الأسلحة والدبابات والمدافع التي غنمها التنظيم واحتل بها أكثر من ثلث مساحة العراق أيام حكومة نوري المالكي. وعملياً، فعندما قال وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر تعليقاً على سقوط الرمادي في أيدي «داعش»، ثم تعليقاً على ما يقال عن التحضير لاستعادتها، ان «الجيش العراقي لم يبد عزماً على القتال ولا رغبة به»، فإنه كان يشيرالى واقعة تسليمها هذه تحديداً وليس الى أي شيء آخر.

والحال أن «داعش» الارهابي والتكفيري وقاطع الرؤوس لا يبخل على «محورالممانعة» بأفضاله في هذا السياق. أما اذا تأخر، ففي جعبة هذا المحور ما يعوض به النقص عبر التبرع بتزويد «داعش» بما يحتاج اليه من سم طائفي ومذهبي. ألم يكن استيلاد «فرقة الشبيحة» العلوية في سورية، و «الحشد الشعبي» الشيعي في العراق، فضلاً عن «حزب الله» الشيعي في لبنان و «أنصار الله» في اليمن، وبعد ذلك كله اطلاق تسمية «لبيك يا حسين» على الحملة الحالية لاستعادة الرمادي، قبل التراجع عنها حرَجاً، صباً للزيت على نار هذا التنظيم الموقدة أصلاً؟

بل، ولمجرد التذكير، ألم يبدأ نظام «الولي الفقيه» الايراني مباشرة بعد قيامه العام 1979 ما وصفه بـ «حج البراءة من الكفر» (هل تحيل الكلمة الى التكفيريين الآن؟) في موسم الحج في مكة المكرمة، وكان يمكن أن يتحول الأمر الى فتنة منذ ذلك الوقت لولا حكمة القيادة السعودية وقرارها مواجهته بما يلزم من حزم؟

في حالنا الراهنة، لا سيما بعد وصول الهجمة الايرانية الى طريق مسدود، يبدو أنه لم يعد في يد طهران، ومعها النظامان التابعان في دمشق وبغداد، سوى ما يوفره لها تنظيم «داعش» من ارهاب وتكفير وقطع رؤوس بالخناجر للادعاء أمام شعوب المنطقة وأمام العالم الخارجي بأن هذا التنظيم هو البديل، وبأنه الأسوأ في كل حال. المهم أن تبقى وتيرة «النجاحات» الايرانية في الإقليم على زخمها، وأن يبقى معها نظاما «الممانعة» في سورية والعراق، ولا بأس من استخدام «داعش» وأمثاله (كما كانت الحال مع «القاعدة» بعد حرب أفغانستان) في هذا السبيل.

وعملياً، فإذا كان هناك من مسوغ للقول إن «داعش» هو الوجه الآخر للعملة التي تتداولها كل من طهران ودمشق وبغداد مع العالم، ومن حاجة للاعتراف بأن هذه العملة باتت مقبولة الى حد كبير من الغرب، ومن الولايات المتحدة بالذات، فلن يكون مستبعداً توقع المزيد من «عمليات المقاصة» في سوق النخاسة هذه، وبالتالي سقوط (أو تسليم) مدن ومناطق سورية وعراقية أخرى في أيدي هذا التنظيم في خلال الفترة المقبلة.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

 

الأسد و”داعش”؟/ علي بردى

بلغ التصعيد في سوريا ذروة جديدة. تستنزف هذه الحرب أمراءها الكبار والصغار. تؤكد يوماً تلو آخر أن لا انتصار عسكرياً. لا بد من حلّ سياسي. غير أن التسوية تتطلب التخلص من اثنين: بشار الأسد ونظام البعث، و”الدولة الإسلامية – داعش” وغيرها من الجماعات الإرهابية.

تطور خطاب الحكومة السورية ببطء. حين تأثرت سوريا بـ”الربيع العربي” عام ٢٠١١، استهتر الحكم البعثي الاستبدادي بقيادة آل الأسد بعمق المأزق. لم يقنع أحداً بالحديث عن “العصابات التخريبية”. وجد ضالته أخيراً في التنظيمات الإرهابية وأرضها الخصبة. وفي سوريا الآن أكثر من ١٨ ألفاً من المقاتلين الإرهابيين الأجانب الوافدين من أكثر من مئة دولة.

هناك ثلاثة مسارات في الأزمة السورية. لا يزال بيان جنيف الذي أقر في ٣٠ حزيران ٢٠١٢ الأساس الوحيد الذي يلقى اجماعاً لأي حل سياسي. باءت بالفشل كل المحاولات السابقة لتطبيقه نظراً الى التباينات العميقة في تفسير بنوده، ولا سيما منها ذلك المتعلق بتشكيل هيئة حكومية انتقالية تحظى بكامل الصلاحيات التنفيذية وبرضى كل الأطراف. نجحت الولايات المتحدة وروسيا أخيراً في تحقيق تفاهمات جديدة لردم الهوة بينهما في سوريا. لا تتمسك موسكو أصلاً بشخص بشار الأسد، لكنها تخشى أن تؤدي إطاحته الى ترسيخ حضور الجماعات الإرهابية. هذه نقطة الالتقاء الرئيسة مع واشنطن التي تعبر علناً عن “جدلية” العلاقة بين الحرب على “الدولة الإسلامية – داعش” وضرورة التخلص من حكم الأسد.

يحاول المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دو ميستورا الإنتقال ببيان جنيف الى “مرحلة التفعيل”، آملاً في أن تضطلع ايران بدور حاسم في هذا الاتجاه، مستفيداً من “الأجواء الطيبة” السائدة حتى الآن في المحادثات النووية بين “مجموعة ٥ + ١” للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين الى ألمانيا من جهة والجمهورية الإسلامية من جهة أخرى. الأسابيع المقبلة حاسمة.

المسار الثاني الضاغط يتعلق بالأزمة الإنسانية الاستثنائية الناشئة عن الحرب السورية. يتساءل ديبلوماسيون: حتّام يصبر العالم على المشاهد المخيفة لجنون القتل والتدمير والتهجير؟ تعكس تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية هول المأساة في عدد القتلى والجرحى والمحاصرين واللاجئين والنازحين والمحتاجين.

أما المسار الثالث، فهو المرتبط باستخدام بعض الغازات كسلاح كيميائي سام. على رغم أن مادة الكلور غير مصنفة بذاتها سلاحاً كيميائياً في لوائح منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فإن تحويل غاز الكلور أو سواه من المواد المتعددة الاستعمال مدنياً، يبقى محظوراً بموجب بروتوكول عام ١٩١٥ لحظر هذه الأسلحة. لا يستبعد أن توافق روسيا على خطة تقودها الولايات المتحدة في مجلس الأمن لإصدار قرار جديد يرمي الى المحاسبة على استخدام هذا النوع من الأسلحة الفتاكة. غير ذلك إطالة لحرب الإستنزاف.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى