براء موسىصفحات سورية

“داعش” وأشباهه: صناعة أم استثمار؟/ براء موسى

 

 

حتى زميل السجن العابر أبدى استغرابه ودهشته لعدد السجناء البالغ حوالى ثمانية آلاف في سجن حلب المركزي. كان ذلك والانتفاضة السورية في أيامها الأولى عام 2011، ولم يكن معتقلو الانتفاضة يتجاوزون بضع عشرات، وفي تلك الفترة أفصح بشار الأسد بدهشة في خطابه لمجلس الشعب الهزلي السوري عن رقم 64 ألفاً كفارّين من العدالة، وبادله أعضاء المجلس الاندهاش ذاته كمن يسمع الرقم للمرة الأولى!

لم تكن هذه الأرقام وأمثالها مُتاحة للتداول، لا في الصحافة المخنوقة أصلاً باستيلاء النظام على تفاصيلها، ولا في التداول الاجتماعي، بل بقيت ككثير من الارقام والظواهر حبيسة ملفّاتٍ في الأفرع الأمنيّة الكثيرة في البلاد، كما أنّ المعارضين السياسيين الذين أمضوا الكثير من أعمارهم وراء قضبان هذه السجون والأفرع لم تُتح لهم الفرصة في ما بعد لمناقشة أرقام السجناء الجنائيين والسياسيين الكبيرة وأنواعهم، وعدا السراديب المخفيّة في الأفرع الأمنية والسجون التي احتفظت بعناية بأسرار سجنائها النوعيين، ما كان لأحد أن يقترب من التفكير الاستراتيجي المخابراتي الذي فاق بخبرته الكثير من التحليلات الموضوعيّة خارج تلك الأقبية السحيقة، ومن هنا تمّت رعاية وتأهيل أشخاص وتنظيمات إرهابية كان لها في ما بعد اليد الطولى في منح الحجّة المُلائمة لإرهاب النظام مُستتراً بمكافحة الإرهاب، بعد «أرهبة» السوريين المعارضين جميعهم لتحقيق شعاره المُعلن: «الأسد أو نحرق البلد».

تاريخيّاً كان الأمر شبيهاً بتربية الوحوش الكاسرة من الحيوانات، واستخدامها في معاقبة الناس وترهيبهم، وكانت الأجهزة الأمنيّة السورية ومُستشاريها من مخلّفات الأنظمة الاستبداديّة هي الوحيدة داخليّاً التي تُمسك بخيوط إدارة هذه الصناعة وإنتاجها وتوزيعها بحسب مُتطلّبات مصالحها في البقاء في مواقع السلطة المُغتَصبة طوال عقود.

وعلى رغم معرفة القوى العالمية الكبرى بإنتاج هذه الصناعة الخبيثة، فقد اكتفت بتوجيه اللوم الخفيف للنظام السوري، مُلوّحة بعقوبات طفيفة لا تعالج جذور هذه الصناعة ولا آفاتها سوى بالتعامل المتلوّن مع نتائجها، وبحسب مصالح هذه القوى، ما يشبه اليوم بعض معالجات مسألة التهجير واللجوء السوريّين من دون الخوض في العمل على إزالة أسبابهما.

بدوره فالمجتمع السوري الغارق في هزائمه الطويلة وأهمّها أسباب معيشته ولهاثه وراء لقمته وهمومه اليومية، لم يكن قادراً أبداً على التنبّه إلى هذا الخطر المتراكم كالنار تحت الرماد لأنّه كان مُستغرقاً تماماً في حياته العسيرة في شكل عام.

التبادليّة بين تلك الصناعة المخابراتية والإيديولوجيا المتطرّفة متكاملة، الطرفان يفهمان بعضهما جيداً، وأكثر بما لا يُقاس من دراسات موضوعيّة كثيرة حاولت جاهدة تفسير تلك العلاقة (الكيماوية) في التفاعل، بعكس الصورة الخادعة التي تجسّدهما متنافرين وأعداء.

المُحصّلة في سورية حتى اليوم تبدو واضحة للعيان. فقد استطاعت المخابرات تسخير التطرّف الذي ربّته طويلاً في إنقاذها من السقوط، وما العداء الظاهر سوى ستار قاتم يُسدل على مختبرات الكيمياء التفاعلية بين الطرفين.

في العقد الأول لحكم حافظ الأسد تمّ استثمار السجون كمُختبرات لدراسة هذه الايديولوجيا بمراقبتها عن قرب، فالسجّان يُسجّل بدقّة كلّ تفاصيل ودقائق السجين، يعرف بالمعاينة أكثر من أيّ باحث ردّود فعل مسجونيه، كيف يأكلون ويشربون، ومتى يستنجدون بالله في ذروة التعذيب، أو في وحدتهم أو غربتهم في السجن، يعرف متى يتقرّبون من الله بالعبادات، ويعرف تأثيرات الكبت الجنسي على تصرّفاتهم وتفكيرهم، يُمسك بكلّ خيوط التحكّم بساديّة السجين أو مازوشيته، وكذلك يعرف الكثير عن كلّ تفاعلات وتأثيرات الجوع على تفكيره، يرقب دماغ السجين كشاشة كبيرة، يتفرّج على تصوّرات الجنّة وحوريّاتها وأنهار الخمر والعسل في مخيلة الضحيّة، ويسقي بأدواته نبتة الجهاد في قلب السجين، وكمُخرج هوليووديّ بارع يرعى مشاهد ولقطات البطولة المُتخيّلة في تلافيف دماغ الضحيّة، السجّان مهما كان ساذجاً هو الأقدر على تقديم تقريره العلمي لرؤسائه الذين بدورهم يُكملون ملفّات الدراسة الموضوعيّة عن فئران تجاربهم البشرية، وكذلك الأمر خارج أسوار السجن في هذا المُختبر (الوطني) الكبير الذي تحوّل فيه الشعب بأكمله إلى مجرّد فئران تجارب.

في العقد الثانـي لحكمه القسري تمّ تحـويـل نـتـائج المُختبرات البشرية داخل وخارج أسوار المعتقلات إلى سلاح ماضٍ للسيطرة التامّة على الدماغ البشري السوري، الذي غدا كخاتم في إصبع النظام المافيوي، واستمرّ ذلك في العقد الثالث للحكم الأسدي.

غباء الوريث في العقد الرابع في استثماره لكلّ التراكم الكميّ والنوعي لهذا المختبر الكيماوي الكبير دفع باتجاه استعداد هائل للانفجار الذي لم يتأخر أكثر بفعل التأثّر بالدفقات الأولى للربيع العربي.

لم يكن هذا الصانع المخابراتي السوري سوى حلقة صغيرة في سلسلة هذه الصناعة الكبرى، وببراعة ربّما لم يقصدها مباشرة في البداية، اجتذب بشراهة كلّ أصناف نتائج المختبرات المشابهة، وما لبث بعد حين في عهد الثورة المُعاش أن سلّم لهؤلاء الوافدين وأنصارهم المحلّيين الإدارة الذاتيّة لبضع مناطق سورية طالما أنّها لا تحرمه خراجها، سواء من المواد الخام، أو المصالح المتبادلة تجارياً وسياسياً، وتدعم في الوقت ذاته تشبّثه بالسلطة إزاء عيون العالم المُتفرّج على الفيلم الهوليوودي الذي فاقت ايراداته التوقعات، كما أنقذت أو ساهمت بدعم اقتصادي ضخم لدول كثيرة جراء تجارة الأسلحة في الأسواق البيضاء والسوداء لمتابعة «الأكشن» المُربح في هذا الفيلم المأسوي الطويل.

يبقى أن الإجابة عن تساؤل عنوان المقالة أشبه بسؤال البيضة والدجاجة، ولكنّ المؤكد اليوم أنّ العمل على تدجين التطرّف جارٍ على قدم وساق في كلّ بقاع المعمورة، ويبقى كذلك على الأرض السوريّة، مثالاً لا حصراً، أنّ «داعش» يتمدّد وما زال منذ قيام التحالفات العالمية بمحاربته نيابة عن بشار الاسد المشغول حتى النخاع بقتال الأعداء الحقيقيين لـ «داعش» وأشباهه.

 

 

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى