صفحات سوريةطيب تيزيني

دبلوماسية في خدمة الجريمة!


د. طيب تيزيني

جاءت الأحداث المروِّعة قبل يومين في مدينة حمص على أيدي القوى العسكرية والأمنية التابعة للنظام الأمني السوري، لتثير مجموعة من الأسئلة الملتهبة، فهل يمكن تصور مجموعات مسلحة عسكرياً ونفسياً تقوم بالهجوم على فئات مسالمة عزلاء، وتنتمي إلى الشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء، بكل قوة السلاح العسكري التدميري؟! والملفت أن الأحياء التي يوجَّه إليها السلاح، تمثل مناطق تجمُّع لفئات سكانية تعيش على تخوم المدن: مُفْقرة مُذلّة مُهانة، فهي تخيم في تلك التخوم، كما يخيم البدو هنا وهناك. وأصحاب هذه الخيم لا يفتقدون إلى الحرية السياسية والثقافية والمدنية وغيرها فحسب، بل هم يفقدون كذلك العمل الكريم، الذي يجعل منهم بشراً. والآن وفي مثل هذه الأوضاع الرهيبة، لا يُسمح لهؤلاء أن يعيشوا لحظة أمل قد تأتيهم، حين تنفتح كُوَّة أو أخرى في جسد نظام الفساد والاستبداد، فالموت السريري الذي يوجدون فيه على مدى عقود، لا يجوز أن ينتهي، لأنه إن انتهى، يمكن أن يُحدث اضطراباً في نظام الأشياء، خصوصاً في حقول السلطة والثروة والإعلام والمرجعية، التي يسيطرون عليها في سوريا.

وفي سبيل إحكام القبضة على أولئك وعلى مناصريهم ومُحاليفهم بحكم العيش المشترك، اشتغل النظام القائم على تلفيق منظومة من المفاهيم والأفكار، التي تخدم ذلك الهدف. فكان الكلام على أن التدخل الخارجي “خط أحمر”، إذا لجأ المرء إليه في سوريا، يكون قد ارتكب خيانة عظمى. وكان ما كان، حين بدأ الإعلام الداخلي يسوّق لذلك، بأن وضع ما طرحه الرهان الشبابي الجديد موضع تشكيك وتخوين. فلقد بدأوا بالقول بأن ما يحدث في سوريا إنما هو أمر تابع لأجندة خارجية، مشكّكين بذلك في أن شباب سوريا غير جديرين، بالأساس، بالتأسيس لثورة في بلدهم تُنهي الفساد والإفساد والاستبداد، أي مشكّكين بمطلب الإصلاح في بلد يفتقده منذ أربعة عقود ونيف. وفي هذا وذاك، مشى النظام إلى الأمام في مقولته حول “المؤامرة الخارجية” مُقْصياً استحقاق الإصلاح والتطوير والتحديث.

والأمر الملفت في ذلك كله أن الاستقواء بالأجنبي -إنما هنا روسيا والصين- ارتفع في المراحل الأخيرة إلى مستوى الاستراتيجية الأولى والحاسمة، في كسب المعركة ضد الانتفاضة-الثورة في سوريا، لكن مع المحافظة على ما ابتُدع تحت مصطلح “المؤامرة الخارجية”، دون التفكّر بأن الموقف الذي تتخذه روسيا والصين من سوريا، إنما هو تدخل فاضح في شؤونها، خصوصاً إذا استحضرنا ما جرى بثه في الإعلام من أن روسيا و(غيرها) تقدم للنظام مواد عسكرية يستخدمها في حرب ضد الشعب ذاته. فلقد جاءت نتائج جلسة مجلس الأمن الأخيرة يوم السبت المنصرم، مخيِّبةً للشعب السوري، الذي يُخضَع لوسائل مؤلمة من القمع والعنف المفرط. لقد حدث ذلك في مجلس الأمن مُدلِّلاً على أنه مؤسسة هزيلة خاضعة لمنظومة من القواعد والضوابط، التي وإن جاءت متفقة مع قواعد اللعبة الدبلوماسية، إلا أنها تطيح بمبدأ الدفاع عن الشعوب، ومن ثم بمبدأ “العدالة”.

إن إخضاع العمل الدبلوماسي الدولي لمبدأ “الفيتو”، هكذا دون قواعد تضبطه وتحافظ -في الوقت نفسه- على مبدأ العدل المقدس في التعامل مع الشعوب، يُفضي إلى تدمير المؤسسة، التي يُراد لها أن تكون حامية لحقّ الشعوب. وإذا علمنا أن وراء ذلك “الفيتو”، الذي أطلقته روسيا والصين في وجه مشروع يهدف إلى إيقاف العنف القاتل بحق الشعب السوري، مصالح أنانية ودنيئة اقتصادية أو مُثُلاً أيديولوجية قائمة على الشمولية والظلامية الدبلوماسية – السياسية، فإننا نكون وجهاً لوجه أمام انحطاط قاتل في تجديد العلاقات الدولية بين الدول والشعوب. وها هنا، نكون قد واجهنا تراجعاً هائلاً في منظومة القيم الإنسانية الخاصة بالعدالة والمساواة وتغليب الحقيقة والكرامة على ما عداها من المصالح.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى