مراجعات كتب

دراسات لفهم عالم اليوم: نقطة التحوّل/ نهلة الشهال

 

 

 

مأساة ملايين المهاجرين اليوم من بلداننا إلى أوروبا، (وقبلها هجرات المكسيكيين الى الولايات المتحدة، وسواها كثير)، والاستجابات المتفاوتة والمتناقضة لدول الاتحاد الأوروبي، وإجراءاتها التي تترنح بين القمع والعجز، وواقع اليونان الذي مرَّ بلا توقف من إلزامات الدائنين العالميين الساحقة الى التحول لمعسكر ضخم ومغلق للنازحين.

كل تلك ليست أحداثاً عارضة أو طارئة (وإن كانت تضخمت بفعل الأحداث في سورية بالدرجة الأولى)، بل هي واحدة من ظواهر التعبير الأجلى عن عالم اليوم الذي يعيش لحظة تحول. لا تكمن المسألة في فقر المهاجرين أو الحروب التي تتهددهم (ليس فحسب ولا حتى بالأساس)، بل بحالة عالمية من طرد البشر (من أراضيهم المستملَكة بفعل سياسات إعادة الهيكلة، ومن مدنهم بفعل تنظيفها من الفقراء والعاطلين وإبعادهم عن حيزها، ومن حقوقهم الاقتصادية والإنسانية…)، ومن «طرد» البيئة نفسها (المحيطات الملوثة والجليد القطبي الذائب…). إنه بمعنى آخر الطرد من الحياة، وهو يشمل الكرة الأرضية نفسها التي يتهددها خطر إيكولوجي جدي. ولا يجدي ابداً ان تعالج مسألة الهجرة من زاوية ضبط شروط المرور أو إتقانها. فزاوية النظر هذه تقنية وقاصرة عن رؤية طبيعة الموضوع وصلته بالحقول الأخرى، وتفترض أن معالجتها يمكن ان تتم في إطار «سيادة وطنية» منفردة. وأما «سلطة كتابة النص» (القوانين) التي تلجأ اليها تلك الدول فلا تؤثر إلا في هامش الظاهرة وليس صلبها.

فـ «النظام المعولم مطبوع بمبدأ الطرد أو الإقصاء». الكتاب الأخير لساسكيا ساسن يحمل عنوان «الطرد والعنف والتعقيد في الاقتصاد العالمي»، وهي تشرح فيه للجمهور الواسع، أي لمن تفترض انه ليس قارئاً أكاديمياً، القاسم المشترك بين العمال الفقراء والمساجين واللاجئين والنازحين. الكتاب صدر بالإنكليزية في 2014 وصدر الآن بالفرنسية. عالمة السوسيولوجيا الفذة، والأستاذة في جامعة كولومبيا بنيويورك وفي مدرسة لندن للاقتصاد، شهيرة عالمياً بفضل أبحاثها وكتبها قبل أن تنال قبل بضع سنوات جائزة «أمير استوريا». وهي سبّاقة، وتصيب اختياراتها القلب مما نعيش. وتنطلق اهتماماتها وانشغالاتها ورصدها وتحليلها من انتهاء صلاحية انماط التفكير السائدة في فهمه، ومن الحاجة الى التقاط الديناميات المتشابكة والخفية لهذا التغيير التاريخي الذي نعيش.

منذ «المدينة العالمية» حيث درست نيويورك ولندن وطوكيو (1996)، موضحة أن الخطاب الحماسي والايجابي حول المدن الهائلة لا يرى إلا الأبنية اللماعة وهي التي تخفي «عملية تطهير» اجتماعية جرت… الى «سوسيولوجيا العولمة»، كتابها ما قبل الأخير، مروراً بعشرات البحوث حول الهجرات خصوصاً، وبمقالات تميزت بها «الغارديان» البريطانية، تظهر ساسن كمفكر شامل، يقيم التقاطعات الضرورية لفهم عالم اليوم بين السوسيولوجيا المدينية والاقتصاد والفلسفة والعلوم السياسية معاً (التي درستها جميعاً الواحدة تلو الأخرى، علاوة على إتقانها خمس لغات).

في كتابها الأخير، تربط ساسن بين أوضاع العاطلين من العمل في أوروبا والفلاحين الذين انتزعت أراضيهم في إفريقيا من قبل حكومات وشركات أجنبية بعد برامج صندوق النقد والبنك الدوليين، وتذكّر بأنه «يوجد اليوم مليارا شخص على وجه البسيطة يعيشون في فقر مدقع ولا يملكون سوى أجسادهم». وترى أن هذه «المرحلة المتقدمة من الرأسمالية» تمثل قطيعة مع الفترة الكينزية ومع الدولة الشيوعية، اللتين كانتا كلاهما تقومان بالإدماج، على النقيض من الطرد والإقصاء الحاليين، وتسمي الفاعلين في هذا التحول «التشكيلات النهابة» أو المقتنصة (predation)، وتوضح أن السطوة والقرار لم يعودا بيد مجرد أفراد وشركات فاحشة الثراء أو حكومات بالغة القوة، بل أن تلك التشكيلات منظومة متكاملة، جزء منها بشري والجزء الآخر غير بشري، مكوّن من برامج وتقنيات إدارة المال، ومن أسواق وحكومات. وفي معرض إشارتها إلى شمول الطرد او الإقصاء المساجين مثلاً، توضح أنه في الولايات المتحدة يوجد أميركي مسجون من كل مئة، وأنه بعد أزمة 2008، طردت 14 مليون عائلة من مساكنها.

هناك تآكل للطبقة الوسطى في كل مكان (بما في ذلك في الصين التي أوجدت طبقة وسطى واسعة في السنوات الأخيرة، ولكن 20 في المئة منها بدأت تنفصل لتلتحق بالشريحة الفاحشة الثراء بينما تبقى الغالبية في وضع شديد التواضع. وتتكلم عن الأبناء «المخدوعين» إذ هم اتبعوا نموذج آبائهم المتوافر، فاجتهدوا في الدراسة والعمل… بلا طائل. وتقول في مقابلة مع صحيفة «لوموند» الفرنسية: «ينتابني شعور بأننا قد عبرنا في السنوات الأخيرة خطاً غير مرئي، كما لو كنا انتقلنا إلى الجانب الآخر من شيء ما».

وفي معرض إجابتها عن كيفية وقف هذه الحالة البالغة التعقيد، تبدي ساسن «تشاؤمها»، على الاقل في ما يخص توافر حلول جاهزة ومباشرة، لكنها تشير الى حركات «احتلوا (Occupy) و»الساخطون» (indignados ) والربيع العربي… وتعتبرها على رغم اختلاف سياقاتها، مثيرة للاهتمام، لأنها تعبّر عن «جنوح المقصيين للاستيلاء على الفضاء العام» الذي يمكن أن يكون قصراً ملكياً أو برلماناً او مقراً لشركة متعددة الجنسية أو ساحة عامة، أي فضاءات غير محددة ولكنها عالية الرمزية. وإن كانت مطالبهم غير دقيقة، وليست لديهم قيادة متبلورة، فإن أهمية تحركهم هي في مطالبتهم بحقوقهم المنتهكة. وتقارنهم ساسن بالحركات القومية في القرن التاسع عشر وبالحركة النسوية التي بدأت جنينية ومبعثرة، ثم تبلورت في مسار. وتشير الى أن أزمة مالية كبرى جديدة مقبلة بلا ريب، قائلة انها لا تعرف متى ستندلع ولا مداها، إلا أن شيئا ينضج على نار هادئة، فالنظام «كما نشعر جميعاً في غاية الهشاشة».

ومع صدور كتابها الأخير، وافقت ساسن على تحويل فرضياتها الى قصة (قام ابنها هيلاري كوب ساسن، السينمائي والنحات، بتزيينها برسوماته)، بطلتها كوبرنيكا، الطفلة التي رأت أن ما قام به «الوحش» في لندن من التهام للمدينة راح يطاول مدناً أخرى: نيويورك، اسطنبول ريو دي جنيرو، طوكيو، سان فرنسيسكو… وفي سياق جدلها مع الوحش الذي تضخم وصار حائراً بما يفعل، وراح يطلب النصيحة، ينتهي خوف الطفلة منه: «فالمشتكون قليلاً ما يكونون مقاتلين».

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه لم يترجم أي كتاب أو حتى بحث لساسن الى العربية!

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى