صفحات الرأينارت عبد الكريم

دراسة الأصل لا “الواقع”/ نارت عبدالكريم

 

 

اذا ما كان الواقعُ، بِصِراعَاته المُتَكَرِّرَة وأَزماتِهِ الدَّوْرِيَّة وانْتِكَاسَاتِه، انعِكاساً لِما يحدثُ في المَقْلَب الآخر من العالم الذي فيه نحيا- المَقْلَب الآخر الذي يثقبنا كحبات المسبحة- فلماذا نَحثُّ الخُطى ونبذُلُ الجهودَ المُضاعَفة لدراسة «الواقع» الذي هو مُجَرَّدُ انْعِكاس، كَمَنْ يرسُم ظِلَّ شَجَرة على سطحِ ماء بدلاً من تصوير الشَّجَرةِ عينها؟

لقد راوَدَ الأقدمين «حُلم» تحويلِ المَواد البَخْسةَ الى ذَهَبْ وجواهر نَفِيسةَ كما راوَدَهم شغفٌ جارفٌ بمعرفة المستقبل والتَنَبُّؤ بما هو آتٍ وما قد يخفيه قادمُ الأيام. وما تلك «البِدَعُ» الشَّعبيَّةُ من مثل قراءة الفنجان والكف وفتح الفال إلاَّ دلائل باقِيَة ومُتَرَسِّبَة لتلك الرغبة الجارفة، وكم من رغباتٍ مثلها، احْتَضَنَها بنو البشر، كان يُنْظَرُ إليها، في ما مضى، على أنَّها من سابع المستحيلات وقد تَحَوَّلَتْ، لاحقاً، الى حَقائِق ووقائع وابتكاراتٍ مفيدة؟

ألمْ يكنْ حُلم الطيران واختِصَارُ المسافات البعيدة مُجَرَّد أَضْغَاث أَحْلامٍ وقد تَحَوَّلَتْ الى حَقائِق ووقائع، فبدلاً من بِساطِ الريح وعصا الساحرة ابتَكرنا الطائرات التي غَزَونا بها حتى مجاهلَ الفضاء البعيدة. وعلى المنوال نفسه، قَضَيْنَا على الكثيرِ من الأمراضِ والأوبئةِ التي كانت، في زمنٍ ما، قدراً لا مَهْرَب منه، وكذلك إِطالَةُ العمر ومعالجة العقم والاستنساخ كلُّها أمثلةٌ أكْثَرَ من أنْ تُحْصَى.

لِنَعُد الى معضلتنا إذاً ولنطرح السؤال المُناسب: هل في مَقْدورِنا، باتِّباعِ منْهَجٍ ما أو طريقةٍ مثلى، معرفة مستقبلنا والتَكَهُّنُ به فنَحْتاط له، كما كان حُلم أجدادنا، بدلاً من أنْ يفاجئنا بالحروب والكوارث والأزمات. هكذا يعكف، الآن، علماء الوراثة على دراسة الشيفرة الحيوية، أي ما يعرف اختصاراً بالـ DNA، لمحاولة التَحَكُّمَ بها بدلاً من أنْ تَتَحَكَّمَ بنا، أمْ أنَّنا سنُتابِعُ سَيرَنا قُدُماً، بحماسة منْقَطِعة النَّظِير، في دراسة ظِلِّ الشجرة على سطح الماء؟

* كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى