صفحات الثقافةعمر قدور

درس سوري في الجغرافيا


عمر قدور()

تقول نكتة يتداولها السوريون إن مساعدي الرئيس أوباما قدموا له التقرير اليومي عن أحداث العالم، والذي تضمن وقوع اضطرابات في ساحل العاج وانتشار المجاعة في الصومال وسقوط قتلى في درعا؛ سأل أوباما: أين تقع ساحل العاج؟ ثم سأل: أين تقع الصومال؟ وأخيراً سأل: في أي مكان من درعا سقط القتلى؟ “درعا البلد” أم “درعا المحطة”؟

لم تكن غالبية السوريين قبل الانتفاضة تعلم بوجود هذا التقسيم في مدينة درعا، مثلما لم تكن تعرف الكثير من المناطق السورية الأخرى، وربما لو أتى الخبر عن دخول الدبابات إلى “حمورية” مجرداً من الإشارة إلى كونها في ريف دمشق لاختلط الأمر على البعض، فلم يدروا إن كان ذلك يحدث في ليبيا أو سوريا. درعا ذاتها لم تكن مدينة تثير الاهتمام لدى بعض السوريين، فهي مدينة صغيرة لم يسبق لها أن اشتهرت بسمعة بارزة، طبعاً قبل أن تتقدم إلى الواجهة من خلال أطفالها الذين قضوا تحت التعذيب، أولئك الذين لم يُتح للكاميرا توثيق الفظائع التي ارتكبت بحق طفولتهم على غرار ما حدث للطفل حمزة الخطيب. الآن بات الكثيرون يعرفون حتى أسماء بعض القرى الصغيرة في درعا. بفضل المظاهرات الحاشدة أثبت الأهالي وجودهم على خريطة سوريا؛ وجود لأناس كانوا مغيّبين إلى وقت قريب، أناس من لحم ودم، وخاصة من دم.

على العموم لا يبدي السوريون اهتماماً بجغرافيا بلدهم، وقلّما تجد لدى أحدهم خريطة تفصيلية لسوريا. هذه الخرائط تباع عادة في الأماكن التي يرتادها السيّاح، أما أبناء البلد فلا يقتنونها، لا لمعرفة عميقة بالأماكن، وإنما لمحدودية المناطق التي يسافر إليها السوري، وهو على الأرجح يسافر بحكم الحاجة وقلما يسافر بدافع الفضول والاستكشاف. أيضاً مقررات الجغرافيا لا تستهوي الطلاب السوريين، ويندر أن تجد طالباً يرغب في التخصص بها، مع أن أعين الكثيرين منهم مشدودة إلى خارج الحدود أملاً بحياة كريمة، وربما لهذا السبب بالذات كانوا يكتفون من معرفة الداخل بأدنى درجات النجاح. لذا بقيت معرفة السوريين ضئيلة بأبناء بلدهم، ما لم تحتم عليهم ظروفهم الانتقال للعيش في مكان آخر، ولذا كانت هذه المعرفة مبتسرة ونمطية، وتكاد تأخذ طابعاً يتعلق بالمنبت المناطقي بغض النظر عن الوقائع الاقتصادية.

الآن، مع الانتفاضة السورية، انقلبت الموازين؛ مثلاً ثمة بلدة تدعى “بنّش” يتكرر اسمها في الأخبار، بسبب مظاهرات الأهالي أولاً واقتحامها بالدبابات تالياً. في الواقع نادرة هي المعلومات المعروفة عن “بنّش”، وحتى معرفة موقعها الجغرافي تحتاج خريطة تفصيلية إلا لمن سيكتفي بانتمائها إلى المنطقة ذاتها التي تنتمي إليها بلدة “كفر نبل” وهي تصدّر عبر اليوتيوب مشهداً مماثلاً من المظاهرات وضحايا القمع. الأمر مختلف مع حمص؛ فهي معروفة جداً لأنها تقع في منتصف عقدة الطرق التي تصل مختلف أنحاء البلاد، وإن وجد مَن لم يصلها فقد وصلته نكات عن أهاليها. الحماصنة هم أنفسهم المصدر الرئيسي للنكات التي تروى عنهم، ولم يتوقفوا عن ذلك في أثناء الانتفاضة، ولم ينل قصف الدبابات من روحهم الساخرة، فألّفوا عنها الكثير من الطرائف وصولاً إلى اقتراح استخدامها كوسائل للنقل العام في فترات الهدوء.

شاهد عيان من حمص أجاب على سؤال لإحدى الفضائيات بأن إطلاق النار في منطقة تواجده “لأبو موزة”، وهو تعبير محلي يُقصد به الكثرة، شكرت المذيعة شاهد العيان من “منطقة أبو موزة”، وتكريماً له صار الأهالي يطلقون عليها الاسم نفسه. في الواقع تغيرت بعض معالم الجغرافيا السورية، ففي الطريق الدولي الذي يصل بين مدينتي حمص وحماة لن يشاهد المسافرون كالمعتاد من نوافذ حافلاتهم التمثالَ الضخم للرئيس الأب، بعد أن قام متظاهرو بلدتي “الرستن” و”تلبيسة” بإزالته. حدث هذا قبل أشهر من امتلاء ساحة العاصي في حماة بمئات آلاف المتظاهرين المصحوبين بغناء “ابراهيم القاشوش”. في “الحملة التأديبية الأولى” للمدينة قُتل ما يزيد عن الستين شخصاً، واقتُلعت حنجرة القاشوش وألقي بها في نهر العاصي، يقولون إن النهر قد تغير بعد أن امتلك حنجرة يشدو بها.

للانتفاضة في سوريا خريطتها الخاصة، فإثر كل جمعة يصدر النشطاء كشفاً بأماكن المظاهرات مصحوبة بتسجيلات الفيديو وحصيلة القتلى والجرحى في كل منها. يوم السبت قد تختلف الصورة قليلاً أثناء تشييع الضحايا، أما القتلة فلا يتغيرون. يضمّ الكشف الأسبوعي عدداً ضخماً من المظاهرات وأماكن انطلاقها مما لا يتسع له وقت الفضائيات المعروفة، وهناك متظاهرون في قرى نائية لم يتمكنوا من إيصال صورة انتفاضتهم جيداً، فوصلت أخبار اقتحامها من قبل قوات الأمن قبل أن تصل أخبار مظاهراتها. لكن الأبرز هو عدم وجود تراتبية نهائية وثابتة في جغرافيا الانتفاضة، فما أن تم سحق المظاهرات الضخمة في ساحة “درعا البلد” حتى تم التعويض في ساحة “الساعة” في حمص، والتي أطلق عليها المتظاهرون اسم ساحة الحرية. أما مشهد المظاهرات الكبرى في “ساحة العاصي” في حماة فقد يبقى طويلاً في الذاكرة، وعلى الأرجح لم ولن يفكر أحد بتغيير اسم “ساحة العاصي”.

بالتأكيد صار السوريون أكثر معرفة ببلدهم، مع أن الخرائط لم تدخل ضمن اهتماماتهم وبقيت بانتظار سياح آثروا عدم المجيء في هذا الوقت، وحتى الذين اعتادوا على السفر بقصد الاصطياف اضطروا إلى ملازمة مناطقهم. لكن فضول السوريين الجغرافي، إن جاز التعبير، ازداد مع اتساع رقعة الانتفاضة، وربما كانت الانتفاضة بهذا تنجز مشروعها الوطني خارج الشعارات التي ترفعها. فمع كل تقدم لها يكتسب السوريون معرفة جديدة بالوطن الذي يطالبون بحريته. أنجزت الانتفاضة ما عجزت عنه الشعارات الوطنية للنظام خلال عقود، وما عجزت عنه المقررات البليدة للجغرافيا. خلال أشهر قليلة تعلم السوريون عن أنفسهم ما لم يكن متاحاً لهم من قبل، هو درس في الجغرافيا باهظ الثمن، درس يتعلمونه كلما اختبر القناصة مهاراتهم في مكان جديد، وأحياناً يتعلمونه بالدبابات والقصف المدفعي، وكأن لسان حالهم هو:

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى