إبراهيم اليوسفصفحات سورية

درعا ترحب بكم

 


إبراهيم اليوسف

بدأت مدينة درعا تتنفس الصّعداء – على جراحاتها المثخّنة – و إن كانت هي نفسها تطعن في الظهر، مع الغدر المحدق بمدن أخرى، سواء أكان ذلك في حمص، أو بانياس، أو تل كلخ، أو البيضا، أو أدلب، أو حماة أو غيرها. إلا أن الأخبار الواردة من كل منها على -حدة- تجرح ضمير كل إنسان، أو كل وطني، وأعتقد أن سيرة هذه المدن جميعها، باتت مادة لأول توثيق مصوّر، بين أعتى فظائع العصر، من خلال الذاكرة الإلكترونية التي ستستنسخ كل الجرائم التي تمت فيها، بل ستظل ذكرى فصل هيروشيمي”وطني” يدخل تاريخ سوريا، لتعرف الأجيال أن هناك نظاماً –مرّ- ونادى بالقيم القومية والإنسانية- ولن تصدق الأجيال القادمة مدرسي تاريخها المقبلين على سرد فظاظة ماتمّ بحق آبائها- إلا أن هذا النّظام بدا على حقيقته أمام الملأ، بعد أن كان أشراف أبناء سوريا، يعرفون ذلك -من قبل- في قراراتهم، إلى أن تطوع النظام نفسه بإطلاق الرصاص على خديعته للعالم الحرّ ، على صورته هو، من خلال إعادة ترجمة ما قام به، في ثمانينات القرن الماضي في حماة، أو في قامشلي سنة 2004 ” في حوالي عشرين مدينة وقرية سورية، حتى الآن” وهي تحرّك الوهم السلفي-هنا وهناك- متبوعاً بالعنف والموت والدبابات، على صدى شعارات التضامن السوري، ضدّ الحصار والقتل، وانتهاك كل الأعراف والقيم الوطنية والإنسانية، ليتأكد العالم – بعد سبع سنوات- من التدليس على ثاني أكبر مكوّن سوري، أن النظام كان يكذب على الكرد السوريين، مادام أن له احتياطييه في كل فضائية -من أمثال غسان بن جدو- ولتستعيد سوريا أجمل صورة للوحدة الوطنية الحقيقية، لتزول خطوط الفصل الوهمية التي أوجدها النظام بين مواطنيه، كي تدوم قبضته الحديدية.

الأخبار الواردة من درعا، سواء كانت عبر البريد الإلكتروني، أو عبر الرسائل الهاتفية أو التويتر واليوتيوب أو الفيسبوك -مواقع التواصل الاجتماعي- وفيها سرد وبالتفاصيل، للكثير من الجرائم (التي لا يمكن أن يقوم بها أي نظام بربري- في القرن الواحد والعشرين ضد شعبه) ولا سيما إذا علمنا أن الشعب السوري الثائر عن بكرة أبيه- ما عدا استثناءات طفيفة من المستفيدين والمرتزقة- ليقسم الشعب للأسف إلى: جلاد وضحية، قاتل وقتيل، وليكون كل مبارك في الجوقة الإعلامية أسوأ سلوكاً من القاتل نفسه، وشريكاً في جريمة القتل، والاعتقال، ولا يشبهه إلا ذلك المخبر الذي يقود مجموعات التمشيط، ويقود القتلة إلى بيوت الثوار، والثوار هنا، من لا سلاح لهم، إلا كلمة ” لا”، من العيار الثقيل، يطلقها أحدهم عبر سبطانة حنجرته، وسيحرف ثورته السلمية، إن رمى القاتل حتى بوردة، أو دمعة، يذرفها مع روحه التي يجهضها الرصاص، وكبل التعذيب.

لا يعرف من يريد توثيق حوادث هذه المدينة من أين يبدأ؟، .هل يبدأ بجامعها العمري -وهو أقدم جامع في سوريا صلى فيه عمر بن الخطاب- و الذي تبدو بقايا المصاحف المحروقة فيه، مرمية أرضاً، من خلال ما يردنا يومياً، وهو يئنّ تحت جراحات –احتلاله- من آثار أحذية غزاته على مواضع الصلاة ؟، أم من منظر ذلك الطفل ذي الاثني عشر خريفاً، وهو يصرخ بعد أن اعتقل ذووه، يهاجم الدبابة، كي يغربل روحه الرصاص، ويسجل مأثرة عظيمة، ليشبه بصرخة غضبه التي ترجمها ببساطة، مناضلاً آخر، سيسجل اسمه في أول صفحة التاريخ السوري، بدل أسماء القتلة التي تحتله هو أحمد بياسه بن عبد الله الذي يكفي ذكر اسمه، ليُذعر كذابو الإعلام الصحافي، بعد أن عرضت صور تعذيب الجند الشبحيين للمدنيين، وقال أحد أنجال محمد سعيد الصحاف وأعتقد أنه كان عصام التكروري (أستاذ القانون الدولي في جامعة دمشق تباً للقانون إن كان هو أو بسام أبو عبد الله قانونيين) إن هذه الصورة للبيشمركة -ما أكده برلماني كاذب في الأستوديو آنذاك- ليخرج بياسينا بطاقته الشخصية، ويظهر بلباسه الذي عُذب به، وكأنه يقول للقتلة آمري جريمة، ومجرمين ومسوغي جريمة: تباً لكم إنكم تكذبون، وهو يجب أن يكتب اسمه بالذهب، ويعادله مقاماً ذلك الكاتب الكردي الذي خرج من التحقيق، بعد أن تم الضغط عليه، ليوقع على وثيقة عدم المشاركة في المظاهرات -من دون جدوى- والذي رد على طلبهم بقوله : في بيان بتوقيعه: سأشارك في اعتصام يوم الجمعة القادمة، ليكون رده سبباً لدعوته لتحقيق آخر، أو اعتقال،لا سمح الله، وهو الخارج من سجنه منذ أسابيع.

يتمّ التركيز على المقبرة الجماعية الدرعية التي دفن فيها عبد الرزاق أبا زيد وأنجاله الأربعة، وهي بكل تأكيد مقبرة من سلسلة مقابر، لما تكتشف -مع أن بعضها يكتشف في أماكن أخرى- وهي التي ستدفع القاتل إلى التفكير بطريقة أخرى، للتخلص من جثث الشهداء، ولا بد من أن تظهر السلطة –فوراً- قوائم بأسماء الجرحى والمعتقلين، تعلنها على موقع إلكتروني خاص، ليقيم العالم صلاة الغائب –ولست سلفيياً ولم أدخل مسجداً منذ خمسة وثلاثين عاماً- على جنازات من تم قتلهم في بيوتهم، أو في معتقلات التعذيب، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة في سوريا، شاء من شاء وأبى من أبى .

تترى الصور أمام عيني، واحدة بعد الأخرى، ولا أعرف أأتوقف عند اسم ذلك البرلماني المستقيل؟، أم المفتي المستقيل؟، أم البعثي المستقيل؟، وهو يُهدد بانتهاك عرضه، وقتل ذويه، ما لم يخرج على التلفاز، ويتراجع عن أقواله، كما هو حال أي شخص يُعتقل، وعليه الاعتراف أمام الشاشة الصغيرة، ليتمّ إثبات نظرية -الزور الأمني – وهو ما يعرض على كل معتقل سواء أكان في أقصى شمال الوطن، أم في أقصى جنوبه . بل لست أدري أأصور حالة الأسرة وهي تلعق خوفها بعد اعتقال -رجال البيت – وهم يتذكرون صور الملثمين، وهم يكسرون باب منزلهم، ويدخلون مصوبين رشاشاتهم على كل من في البيت، على إيقاع سمفونية الرصاص، وربما قُتل أحد الأفراد أمام أعين جميعهم،بينما لا مجال للهروب من مدينة أصبحت سجناً، أسوارها الدبابات والأسلحة الثقيلة آمرو القتل الدهماء.

اللقطات كثيرة…..!

احترام مشاعر المتلقي مطلوب أيضاً….!

وإلا: فهل أتحدث عن منظر مريضة -الغسيل الكلوي- يسعفها ابنها على دراجته النارية، فيجرب أحد القناصة دقة ناظور بندقيته ودرجة اختراق الرصاص جسدين آدميين معاً، فتلفظ الأم أنفاسها الأخيرة، ويبقى الابن -وهو شريكها في الرصاصة- يعد نبضاته الأخيرة، قبل أن يستجرّ بعض النشامى الجثة -عبرعمود طويل- خشية وحام شهية القناص -عينه- أو من معه لممارسة اللعب الهوليودي

-اللقطات كثيرة كثيرة كثيرة ، واخزة للضمير الإنساني، التظيف، ودرعا مدخل لحرية شقيقاتها، وإن كانت مدخلاً لدفع ضريبة الدم معها، لتصلح لقطات درعا للتحمصن، أو للتكلخن، أو للتبيضن، أو التبنيس، وهلمجرا، في معجم وطن يريد الاستبداد تأديبه، من دون أن يعرف أن شرعية أي نظام، تأتي، ليس من درجة الإرهاب الممارس بحق المواطن، بل من خلال درجة الشفافية والديمقراطية والعدل.

رائحة الموت في كل مكان، وسجلات النفوس، تغيرت حقولها، فمنهم من سيكتب إلى جانب اسمه: مندس متوف، أو من سيشير الحاسوب الموصول بسواه في العاصمة، أو على مركز حدودي، أو في أحد المطارات، عبر التشبيك بخاصية الإكسترا نت، بأنه معتقل، أو مطلوب، فوراً للانتقام .

المدن واحدة، وكلها مستهدفة بالاتهام برفع علم إسرائيل، وهو ما حدث في قامشلي2004 عندما فبرك أمن النظام ذلك الفصل من المسرحية، فكان لي -وقلة من كتابنا- شرف فضح كل مزاعم السلطة، آنذاك، من خلال وقوفنا على خط الدفاع الأول – وهوشرف لا يضاهيه في تاريخي، وتواريخ هؤلاء، أي شرف آخر- ما يجعلني أنادي ضمائر كتابنا، ألا يصمتوا أمام ما يتم،ولا وقت لكتابة جانبية أمام الجريمة التي تهدد كرامتهم جميبعاً، بل عليهم أن يتحركوا لفضح الفرية الكبرى على الوطن والمواطن، كل بطريقته، وإن كان شرف التعبير عن الرأي-بالنسبة إلي الآن- لا يعادل شرف نضال أي من المارة الرصيفيين، أثناء الاحتجاجات.

المدن واحدة، أجل، وعلينا جميعاً أن نعلم ذلك، فإن نقل” درعا ترحب بكم، فهو يعني أن اللاذقية ترحب بكم، وطرطوس والرقة، وحلب، وحماة، ودمشق وبانياس والرستن وباباعمر…..إلى آخر معجم المدن والأرياف، والشوارع، ومن هنا، فإن اللقطة الدرعية تختلط بغيرها، ليكون الشهيد في أي مدينة، شهيد كل بيت سوري.

المدن واحدة، أجل، فلنقل إذاً: سوريا ترحب بكم، وها نحن سنأتي، بالرغم من وعيد ذلك الضابط الذي ترتد شتيمته إلى أذنه، وهو يذكر هذا الاسم أو ذاك، بلغة موزعة بين الوعيد والامتعاض والتهديد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى