صفحات الثقافة

دروس جان بيار فيليو عن الانتفاضة الديموقراطية: سقوط جدار الخوف


ديمة ونوس

مَن يدخل إحدى المكتبات، سيعثر على «الثورات العربية» بين الرفوف، فوق طاولات خشب مخصصة للكتب الأكثر مبيعاً. سيعثر عليها في أعين الزبائن. هؤلاء الزبائن، المواطنون، الشعوب، المعنيون بأسطورة الأنظمة المستبدة والشعوب الخانعة. وفي زحمة تلك الكتب العربية منها والأجنبية، يلحّ عليّ سؤال: كيف لدراسات طويلة وغزيرة أن تتناول فترة زمنية قصيرة وأن تحلل ثورات لم تكتمل بعد أو أنها لم تبدأ بعد؟ ألم تبدأ قبل أيام قليلة فقط الثورة الحقيقية في «ساحة التحرير»؟ يبدو أن المفاجأة الكبرى التي أحدثتها ثورة «الياسمين» في تونس، ومن بعدها ثورة «25 يناير» في مصر، دفعت الكثيرين لكتابة دراسات طويلة ومستعجلة عن «الربيع العربي». وكأن الإيقاع السريع والمتهافت لتلك الثورات، وضع الباحثين والمفكّرين أمام خيباتهم وعجزهم فهرولوا إلى أوراقهم ليلحقوا بموجة التغيير. تلك الموجة التي لم تتحرك بفضلهم ولا بمبادرتهم. أصحاب تلك الدراسات ينتمون إلى «النخبة» التي انشغلت عن الشارع لزمن طويل، أو أنهم من الصحافيين والكتاب الأجانب ورؤيتهم لمنطقة الشرق الأوسط تبدو في كثير من الأحيان نمطية ولا تخلو من التعميم والسطحية.

«الثورة العربية.. عشرة دروس عن الانتفاضة الديمقراطية»، كتاب صدر قبل أشهر للكاتب الفرنسي جان بيار فيليو عن دار فايار. لا يقدم الكتاب تحليلاً عميقاً لما حدث ويحدث. بل يعتمد على عرض واستعراض الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية التي قادت إلى اشتعال تلك الثورات. في مقدمة الكتاب، يوجه فيليو تحية لصديقين شجاعين رحلا عنا: سمير قصير الذي اغتيل في بيروت في الثاني من شهر حزيران عام 2005. وعمر أميرلاي الذي توفي في دمشق في الخامس من شباط عام 2011. فلتكن «الثورة العربية» هذه، بمثابة تكريم لكليهما.

بدأ فيليو مشروعه بداية شباط 2011 وانتهى منه في شهر أيار. أي أن أهم الأحداث التي جرت حتى هذه اللحظة، فاتته. والتركيز الأكبر كان على ثورتي تونس ومصر. تلك الثورتان اللتان كانتا بداية لثورات أخرى أصعب وأكثر تعقيداً. والدروس العشرة كما يراها فيليو تصلح إذاً لتلك الأشهر الثلاثة فقط. أو أن بعضها يصلح للتعميم بينما تحتاج خصوصية الأوضاع في بلدان أخرى، لاستخلاص دروس مختلفة.

يركز فيليو في دروسه العشرة على مسألتين أساسيتين: أهمية دور الشباب وتراجع دور الإسلاميين. عندما أحرق محمد بو عزيزي نفسه في السابع عشر من شهر كانون الأول 2011، لم تكن الجماعات الإسلامية هي ملهمته بالتأكيد. و«انتحاره» لم يكن عملية انتحارية جهادية. تضحيته تذكر بالطالب التشيكي جان بلاش الذي أحرق نفسه في التاسع عشر من كانون الثاني عام 1969 احتجاجاً على الاجتياح السوفياتي. بقي ظلال بالاش يحوم فوق تشيكوسلوفاكيا لعقدين من الزمن. والمظاهرات التي انطلقت في ذكرى موته العشرين قادت إلى الثورة المخملية في العام 1989. يرى فيليو أن «تضحية» بوعزيزي أيضاً ستؤدي قريباً إلى انتفاضة ديموقراطية.

في الدرس الثاني «المسلمون ليسوا مجرد مسلمين»، يقول فيليو إن دور العبادة هي الأماكن الأقل تعرضاً للقمع الأمني. وبينما كان باستطاعة التونسيين أن يتجمّعوا في أماكن أخرى مثل النقابات، لم يكن متاحاً للمصريين التجمع في أماكن شبيهة بسبب حالة الطوارئ التي فرضت منذ مجيء مبارك إلى الحكم في العام 1981. لم يكن الجامع إذاً مكاناً للـ «دعوة» أو لممارسة الشعائر الدينية. بل تحول إلى مكان تجمع أكثر أماناً من غيره. ويرى فيليو أن ادعاءات الأنظمة القائمة بأن الإسلاميين هم وراء حركات التمرد تلك، لا مبرر لها. فما حدث يبرهن على العكس تماماً. إذ إن البيروقراطية الدينية استمرت بتزويد الأنظمة القائمة بمبررات «إسلامية» لتكريس ديكتاتورية الحكم. حتى أن الكثير من الأئمة لم يتردد بإصدار فتاوى تحرّم التظاهر. وقد امتلأت شاشات التلفزيون الحكومية بأئمة وشيوخ يدعون إلى التهدئة. وبذلك لا يمكن القول إن المسلمين هم مجرد مسلمين. إنهم أشياء أخرى كثيرة. والشباب العربي ليس مجرد شباب: إنه شباب غاضب أيضاً.

يعتقد فيليو أن الثورتين التونسية والمصرية قد أغلقتا الدائرة المفتوحة التي رسمتها أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. وسقوط بن علي ومن بعده مبارك تحت الضغط الشعبي، سحق تلك الأسطورة المتعلقة بالجهاديين. ويرى فيلو أن الإسلاميين وجدوا أنفسهم في مأزق. عليهم أن يختاروا. لم يعد بوسعهم أن يتحكّموا بالأجندة السياسية ولا بشروط أو مرجعيات موجة الديموقراطية هذه. (لا أعرف إن كان فيليو متمسكاً برأيه حتى يومنا هذا!). يرى الكاتب أن معظم الحركات الإسلامية لم تغير بنيتها بعد، بينما تغير العالم العربي كثيراً ولن يعود إلى الوراء بعد الآن.

الشباب في المقدمة

60% من الشعوب العربية أعمارهم تحت الـ 25 سنة. أي أن أغلبية العرب أمضوا حياتهم في ظلّ الرئيس نفسه. ومن المحيط إلى الخليج، يتقاسم الشباب العربي، إناثاً وذكوراً، الإحباط ذاته. إذ أنهم حصّلوا تعليماً أفضل من آبائهم واندمجوا أكثر بالتكنولوجيا والعولمة. وبعكس تجربة الجيل الذي سبقهم، كبروا تحت وطأة النظام ذاته، وأحياناً الرئيس نفسه. لم يعرفوا على عكس آبائهم حروب استقلال ولا نضالاً ضد الاستعمار يبرر استمرارية الأنظمة الديكتاتورية القائمة. يتحدثون لغة عربية حديثة ومتطورة، لكنهم لا يجرؤون على التعبير بحرية خوفاً على أمانهم وأمان عائلاتهم. رسالة «التحرير» للشباب العرب لم يخفت ضجيجها حتى الآن: المستقبل أمامنا، فلنقاتل من أجله.

يرى فيليو أن جدار برلين عند العرب كان جدار الخوف. الخوف من القائد أو الرئيس أو الزعيم أو الملك. الخوف من أعوانه المنتشرين في كل مكان. ذلك الخوف القاسي الذي أجبر الناس حتى على تجنب لفظ إسم القائد. ومن يتجرأ على انتقاده، يتحايل على المفردات مشيراً إليه بأسماء مستعارة مثل: القصر أو فوق. أو حتى الاستعاضة عن الكلمات بمدّ الرأس إلى الأعلى والنظر إلى السماء دلالة على الـ «فوق». هذا الـ «فوق» لم يعد موجوداً الآن.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى