صفحات الرأي

دروس ودروس/ عباس بيضون

 

 

 

ما يحدث في العالم العربي الآن يعني في أقل اعتبار مشكلاً كبيراً، الواضح أننا نصل إلى حيث لا شيء ينتظرنا. المؤكد أن المشروع كله باء بالفراغ. فراغ على فراغ ولا شيء بعد أمامنا. التحديث انقلب إلى قروسطية آبدة. فيما بدا ذلك في بداية القرن الماضي وربما في أواخر القرن الذي سبقه دانياً قريباً، مع فشل التحديث انهزم كل ما تعلق به، وعلى كل المستويات. قامت دول لم تكن أكثر من إدارات عشوائية، دول لم تنهض بمفهوم الدولة ولا قامت على أسسه. كانت في أفضل الأحوال عصباً متواطئة متناحرة ولم تفعل شيئاً في إعادة بناء المجتمع وإرساء قواعد وقيم ونظم لهذه الإعادة. الأرجح أنها بقيت منقطعة عن الجمهور وتركته لبواطنه ونعراته وأدواته التي ما لبثت أن فتكت بها فسقطت من أول احتكاك. وكانت النتيجة فوران كل العصب وكل النعرات وكل الحضيض الاجتماعي وتحررها وانفلاتها بدون روادع وبدون قواعد أو ضوابط. يبدو الآن شبه استحالة لقيام أي نظام اجتماعي من أي نوع. يمكن القول إنه ليس هناك بعد أي مشروع لدولة أياً كان هيكلها وأياً كان مضمونها. وواضح مع ذلك أن المجتمعات كلها لم تعد تملك أي تصور لتعايش أو حتى تجاور وتساكن. ليس أمامها الآن سوى الحرب والصراع على حدود قد تكون القبيلة أو الجهة أو الجماعة والطائفة والشعب والعرق. الواضح أن أي اختلاف هو حاجز وفاصل وأساس انقسام ومجابهة. في غياب الدولة وفلتان المجتمع هناك فقط عشوائية عمياء وجنون اجتماعي بحيث تدور صراعات تتدحرج بدون أن تتمحور أو تتبأر. ما يحدث هنا هو فوضى لا مستقبل لها. وبالطبع نحن أبعد ما يكون عن الدولة، والأرجح أن المجتمع يتحول مع الوقت إلى طحين اجتماعي وإلى عصب ونعرات. كل ما لا يمكن معه سوى حراك عشائري، وسلوك عشائري. بالطبع هناك مد وجزر متحركان باستمرار. وفي هذا الحراك اللامؤدي لا سبيل إلى تثبيت شيء، ليس سوى مناوشات موصولة وراء مناوشات من النوع نفسه.

بالطبع لن نقف لحظة عند أجزاء أخرى من المشروع: الوحدة القومية ليست شيئاً معدوداً في وضع موسوم بالعشائرية، لا يمكن الكلام عن هوية نظام ليس سوى عصبة وما يتبعه لن يكون شيئاً آخر. لنقل إننا عدنا إلى وراء المشروع أو أن المشروع نفسه لم يكن سوى هباء وأنه كان بلا مقومات على الإطلاق، وما ظهر منه أو تجلى لنا لم يكن سوى تصاميم كلامية فاقدة لمكوناتها وفاقدة لإمكاناتها وظروفها وشروطها. نحن بالتأكيد في حالة سقوط تراجيدي. قد يكون تعزية للنفس أن نقول إن لا شيء كان منذ البدء. وإننا طوال هذا الوقت كنا في تجاهل تام لظرفنا وقدراتنا.

مع ذلك كان لنا تاريخ، ومهما قلنا إنه كان طحناً في الفراغ. فقد كان تاريخاً استهلكنا فيه عقوداً وربما قرناً وأكثر. وعلينا أن نفحصه من جديد. لا يكفينا أن يقال إنه كان شبه تاريخ، أو إنه تاريخ زائف. فقد أهدرنا فيه وقتنا وحماستنا وإمكاناتنا. لا بد أن نرى من قريب هذا الذي تراءى لنا في الأخير أجوفَ وفارغاً. لا بد أن نتساءل هل كنا فعلاً غافلين كل تلك الحقبة. هل كنا قرناً كاملاً في حلم يقظة استيقظنا منه على ما يبدو أسوأ من البداية، كأننا طوال هذه المعاناة المديدة، لم نحصّل شيئاً ولم نراكم شيئاً، ولم نفعل في الحقيقة شيئاً يذكر، وأننا كنا أثناء ذلك واهمين مخدوعين غفاة. وما خلنا أننا صنعناه كان خيالاً في خيال وحلماً في حلم مع أنه كان مجسداً، وكان له كيان وقوام وكانت له معارك وصراعات واشتباكات، فهل كنا نهلوس بذلك وهل كنا نرى سراباً وأخيلة وأحلاماً. أليس لما عشناه وفعلناه أسباب وظروف وحسنات وأخطاء وتفاعلات ووقائع وخطى إلى الأمام وإلى الخلف. أليس علينا ألا نهمله ونرمي به عرض الحائط وأن ندرسه ونتفحصه ونعقب عليه ونراجعه.

لكن إلى ماذا يؤدي ذلك، هل يجعلنا نراجع مجدداً ما فاتنا أن نراجعه في حينه، هل سنتبيّن بذلك أخطاءنا ونحصي هفواتنا وكبواتنا، ونصوّب ما سبق أن عمدنا إلى تسويده والسقوط فيه. ألن يكون ذلك سوى درس أخلاقي ولن يكون في هذه المرة سوى عود على بدء، وسوى تكرار إن لم نقل اجتراراً لما سبق أن وقعنا فيه. أكانت هذه الغفلة الطويلة مجرد غفلة ومجرد نقص في الانتباه. لو أن صاحياً أيقظنا، لو أن متنبهاً قام بتوعيتنا. أكنا انعطفنا وغيّرنا طريقنا. أكنا فعلاً عدّلنا وصوّبنا. أكنا فعلاً نحتاج فقط إلى هذه الالتفاتة. أكنا فقط ننتظر مجرد تصويب. أم أن ما فعلناه كان كل ما نقدر على فعله. وكل ما تسوقنا أنفسنا وعقولنا إليه. وكل ما نستطيعه في ظرفنا ووقتنا وإمكاناتنا وقوانا. أكان ذلك في بنانا وفي تكويننا وفي لحمنا ودمنا وعقولنا وذواتنا. ألم يكن هذا ما نحن فيه وما نحن لسنا سواه ولا نقدر على أن لا نكونه ولا نقدر على أن نكون غيره أو خلافه. أيمكن أن يبدي شيئاً هذا الرجوع إلى الحقبة الفائتة. أيمكن أن نتعلم شيئاً من مراجعتها ودرسها. هل أمامنا سوى أن نعيد ما حصل وأننا بالفعل نعيده الآن. وكل هذه الأسئلة والمراجعات هباء آخر في هباء، ولا قدرة لنا على أن يكون ما لسنا عليه وما لسنا إياه.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى