صفحات الثقافةمازن أكثم سليمان

دعد حدّاد: مرآة أُنثويّة مُتشظِّية في عُقود الخَراب السُّوريّ/ د. مازن أكثم سليمان

 

 

إنَّ أيَّ فعْلٍ تأويليٍّ مُتمعِّنٍ ينبغي أنْ يُقلِّبَ مُستويات القراءة تقليباً مُستمرّاً، وأنْ يُنقِّحَ بعضَ الدَّلالات المُمكنة التَّعيُّن _ولَوْ إلى حين_، علَّ ذلكَ يقودُ إلى فَهْمٍ أبعد من مُستوى السَّطح البصَري الظاهريّ، وصولاً إلى رحلة الغوص في مُستوى السَّطح البصَريّ العميق، وهذا ما أرغبُ في بلوغِهِ في هذه المَقالة المُقتضَبة، بما يتجاوَزُ الجانبَ الشخصيَّ الوجوديَّ في دلالات تجربة حياة دعد حدّاد وقصائدها، وبما لا يسقط أبداً في قالب الدِّراسات النَّسوِيّة التي لا أُحبِّذ الخوضَ فيها، ولذلكَ أُصِرُّ على قراءة هذه الشاعرة في سياق المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي السوري العام في حقبة مُحدَّدة. 

تحتلُّ الشاعرة دعد حدّاد (1937 _ 1991) مكانةً خاصّة في المشهد الشعري السوري لعَوامِلَ عدّة، منها خُصوصيّة تجربتها وفرادتها على المُستوى النَّصِّيّ، ومدى انطواء هذه التجربة على جوانبَ تعكس إلى حُدود المُطابَقة النِّسبيّة المُستويات التراجيديّة التي صبَغَتْ عالَمها الوقائعيّ المَعيش بالقتامة وانسداد الآفاق.

في نظرة عامّة إلى حياة الشاعرة نلاحِظ تعدُّد اهتماماتها الإبداعية بين العزف والرسم والنحت وكتابة قصص الأطفال وبعض المسرحيات، إلى جانب صدور ثلاث مجموعات شِعرية لها، فضلاً عن التحاقها بدراسة اللُّغة العربية وآدابها في الجامعة، ثُمَّ عدم إكمالِها لهذه الدِّراسة، وانصرافِها أيضاً إلى تعلُّم اللُّغتين الفرنسية والألمانية.

ويبدو أنَّ هذه الاهتمامات العريضة ترسمُ من حيث المبدأ صورةً عن حجم الطاقة الحياتيّة ورغبة الإنجاز والعمَل لدى دعد من ناحية أُولى، لكنَّها تكشفُ من ناحية ثانية مدى فيضان دفقات الإبداع لديها، وبحثِها المُستمرّ عن أدوات مُتنوِّعة تُفرِّغُ عبرَها تشظِّياتِها الروحيّة والعقليّة، وتبسطُ بواسطتها أبعادَ ذاتِها الوجوديّة المُتشتِّتة والمُتبعثِرة في حياةٍ عاشتْها غارِقةً في القلَق والحزن والكآبة والإحباط، وهوَ الأمرُ الذي أظهَرَتْهُ عوالمُها الشعريّة التي ضجَّتْ بأحاسيس الفراغ النّاهِضة على صراعِها الضّاري مع المَعنى المَفقود والهارِب بين ظلال المَعيش المُتقلِّص رويداً رويداً، وشبح الموت المُتمدِّد بتسارُعٍ مُؤلمٍ وقاسٍ. قالت الشاعرة في أحد نصوصها: “أنا من تحملُ الزهورَ إلى قبرِها/أنا ابنةُ الشيطان../أنا ابنةُ هذهِ اللّيلة المجنونة../ابنة وعيي../وصديقي.. أنا/أنا أكثرُ الناس عتقاً/أنا خَمري في شراييني،/أنا من تحملُ الزهورَ إلى قبرها،/وتبكي.. من شِدَّةِ الشِّعر”.

يُفضي التَّواشُجُ الوجوديُّ بين ذات الشاعرة الوقائعيّة التي كانت تُكابِدُ تمزُّقاتِها الداخلية والخارجية في العالم المُحيط، والذات الشِّعريّة الافتراضيّة التي بسَطَتْ أساليبَ وجودِها النَّصِّيّة عبر رُؤىً سوداويّة يائِسة وعبثيّة في أحيانٍ كثيرة، إلى فَهْم مدى ارتباط هذا التَّشابُك العُضويّ بين العالَمين، بحالة الإخفاق المُضنِية التي قبَضَتْ على الشاعرة في مُواجَهةِ تبعثُرِ الحياة وتباعُدِها المُستمرّ، وعجزِ ذاتٍ وحيدة وهشّة وعارية أمامَ قسوة العالم عن الإمساك بأبسَطِ أحلامها الأنثوية كالحُبّ والشعور بالأمان والاستقرار، وهذا التَّفسير لا يقف في دلالاتِهِ بالتأكيد عندَ حالة دعد (المرأة والشاعرة) وجوديّاً، إنَّما يعكسُ بقوّة صورة المرأة في حقبة اجتماعية وسياسية عاشتها سورية، ذلكَ أنَّ هذه المرأة على الرغم ممّا بدا أنَّهُ يُمثِّلُ مُكتسبات اجتماعية وعمَليّة حازَتْها، ظلَّتْ دائماً تحتَ وطأة طُغيان ذكوريّ أقصاها عن الدور الوجودي الأصيل والفاعِل، إنْ بوصف هذا الطغيان حُضوراً لسلطة بطريركية اجتماعية تقليدية وموروثة، أو بوصفِهِ حُضوراً لسلطة بطريركية سياسية هيمَنَتْ على مقاليد الحُكم، وقامَتْ بإخصاء المجتمع ذكوراً وإناثاً، ولَوْ كان الحيث الواقع على المرأة مُضاعَفاً في ضوءِ ابتلاع هذه السلطةِ الشموليةِ والفائضةِ العُنف الفضاءَ الحقيقيَّ العام، على العكس _نسبيّاً طبعاً_ من فترة ما بعد الاستقلال الليبرالية. فها هيَ دعد نفسها تقول في قصيدتها “إلى دمشق”: “لا شيء سوى اللَّيل والعُيون/والأضواء المُتناثِرة البعيدة/والاصطدامات الرَّقيقة/وبُحَّة صوتٍ/وكلابٍ ضالّةٍ وحيدةٍ/يا لصوت الأقدام تحتَ النَّوافذ/تصبحونَ على خيرٍ أيُّها الأصدقاءُ/تصبحونَ على خيرٍ/وفَجْرٍ يأتي نديّاً كالعادة/ وأحذيةٍ مَفقوعةٍ/ وانتظار”.

لعلَّ هذا المَشهدَ الدِّمشقيَّ القلِقَ والكئيبَ ليسَ مشهدَ دعد حداد وحدها، بل هوَ مشهدُ المرأة السورية المُهدَّدة والمُنتهَكة في مرحلة سياسية واجتماعية موَّهَتْ هذا الانتهاك بشعارات العدالة والتَّقدُّميّة. ويبدو برؤية أوسَع أيضاً أنَّهُ لم يكُن حِكراً على النساء وحدهنَّ مصيرُ الوقوع فرائِسَ لهوّةِ الاغتراب والعجز والانتظار، بل كانَ ذلكَ مصير جيل كامل قارَعَ اليأس والإحباط وانغلاق الآفاق حالِماً بالحياة والحُبّ والحُرِّيّة. قالت الشاعرة: “ثلاثةُ أطفال…/يحفرونَ قبري في الثّلج./الوَحدة والحُزن والحُرِّيّة…/ثلاثة أطفال… أبرياء…/إنَّهُم حُمْرُ الوُجوه من التَّعَب…/ومن الشوق لدفني…/ثلاثة أطفال…/الوَحدة والحُزن والحُرِّيّة/تحتَ وابلِ المطَر…/أو الثَّلج/يحفرونَ…/إنَّهُم يحفرونَ بعُمْقٍ والثَّلجُ…/عميقٌ… عميقٌ… بعُمْقِ…/بحيرةٍ منسيّة….”.

نعم، الوَحدة والحُزن والحُرِّيّة، يحفرونَ قبرَ الشاعرة بعُمْقِ بُحيرةٍ منسيّة! فالخرابُ هو العامِلُ المُهيمِنُ على الفضاء العام، وأحلامُ الخلاص الفرديّة تصطدِمُ بالمُستوى الاجتماعي والسياسي الوقائعي الذي يقذفُ أيّة مُحاوَلة انعتاق بين براثن اليأس والفراغ وقوى التعديم والموت، بدءاً من طُموحات الأنثى البسيطة، وانتهاءً بالآمال الوطنيّة الكُبرى. قالت الشاعرة: “أعرني انتباهَكَ/لا تُغنِّ كثيراً أيُّها العُصفور،/أخافُ أنْ يسرقَني الوقتُ،/(…)/الطفلُ في المصيدة../أعرني انتباهَكَ”.

وهكذا، تُحكِمُ الوَحدةُ قبضتَها على أساليب وجود الذات الشعريّة النَّصِّيّة،  بعدَ أنْ أحكَمَتْ قبضتَها على أساليب وجود الذات الشاعرة الوقائعيّة، والوَحدةُ في هذا الإطار لا تنفصلُ نهائيّاً عن كونها تنطوي على أسئلة وجوديّة وميتافيزيقيّة، لكنَّها في الوقت نفسه، وثيقة الصِّلة بالحياة السورية العامّة وتفاصيلِها المَسكوت عنها والمُهيمِنة في تلكَ الحقبة المَريرة، والتي لم تكفّ عن دفع الذَّوات التي قهَرَها الحيِّز العام إلى الانسحاب والانكفاء والتقوقُع والانعزال، ويُمكِنُ لأيِّ قارئٍ مُتعمِّق أنْ يُلاحِظَ سيطرة الرُّؤى السوداء على قصائد معظم شعراء سورية في تلكَ المرحلة، فها هي ذا الشاعرة تقول: “ذابَتِ السِّيجارةُ../وذابَ الثَّلجُ في الكأس،/ولا من صديقٍ إلّا الينبوع…/إلّا الشَّلّال الآتي من قلبي…/يسقيني ويسقي الوحيدين…/شيء من التَّلاشي في هذا الكون الصّارِم العِملاق”.

ليسَ من باب المُبالَغة أن أختتِمَ بالقول إنَّ دعداً وعدداً من الشعراء السوريين قد تلمَّسوا منذ تلكَ الفترة المُستقبَلَ العُنفيَّ القادمَ، ولا أضَعُ ذلكَ في إطار النُّبوءات الشعريّة، إنَّما ربطاً بالمُستويات الاجتماعيّة والسياسيّة الوقائعيّة التي خاضوا غِمارَها، ولا سيما في فترة الصِّراع الدَّمويّ في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، وهوَ المِلَفّ الذي لم يُغلَقْ بتاتاً في يومٍ من الأيام، فضلاً عن أنَّ أيّة قراءة مُتأنيّة لمآلات الأمور كانت ستُفضي إلى توقُّعِ انفجارٍ مُجتمعيّ قادِم إن لم يكُن بهيئة ثورة، فبأيِّ هيئة أُخرى. قالت دعد حداد عام 1981 في قصيدة “استعدُّوا، أدوات التَّحنيط جاهِزة”: “الأقدامُ الصَّغيرةُ الحافية،/تُسابِقُ الفئرانَ في الأزقّة/وترفَعُ حجَراً في وجهِها/أمّا الفئران، فترفَعُ… بندقيّة”.

شاعر وناقد سوري

دمشق في أيلول 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى