صفحات العالم

دعوا السوريين يكملون حربهم/ حازم الامين

 

 

بدأت الحروب الأهلية تكشف عن وجوه للمأساة في إقليمنا أعمق من تلك التي كشفتها مشاهد الدماء والرؤوس المقطوعة والأجساد المحروقة. فالصدوع التي أصابت من بقي على قيد الحياة ليست مشاهد منقضية على نحو ما هي صور المقطوعة رؤوسهم منقضية وخاضعة لمنطق الذاكرة والنسيان. مشهد الطائرة التي أقلت وفد النظام السوري إلى سوتشي هي المستقبل، بينما صورة عنصر «داعش» حاملاً رأساً مقطوعاً صارت من الماضي. الفتية اللبنانيون المتدفقون إلى تقاطعات الطرق في بيروت احتجاجاً على الشريط المسرب لوزير الخارجية جبران باسيل موجهاً شتائم لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، هي المستقبل، بينما من تعرض للشتيمة هو الماضي.

والحال أن الحروب لم تُبق على مزيد من مشاهد الدماء، فراحت تبتكر، لتغذية الاحتقان، حقولاً جديدة للمنازعات الأهلية، وهي فعلاً جديدة كل الجدة على وعينا بأشكال التقاتل. الشتائم كانت وسيلتنا لتسعير الاحتقان، لكنها لم تكن يوماً موضوعه الوحيد. في لبنان كانت شتيمة مصورة موضوعاً لحرب أهلية لا أفق سياسياً وانقسامياً لها. شتيمة، فقط لا غير، الشاتم والمشتوم حليفان في محور يمتد من المحيط إلى الخليج. صراع هائل في الشارع موضوعه شتيمة وجهها صهر زعيم لزعيم آخر. المصالح الهائلة التي تجمع الحليفين لم تحصن شارعهما من الانزلاق إلى اقتتال كاد يشعل بيروت.

ثمة مسرح آخر للشتائم شهده أيضاً الأسبوع الفائت في مدينة سوتشي الروسية. فالمؤتمر الذي ضم أطرافاً من النزاع في سورية كان أيضاً مناسبة لتبادل الشتائم، وإذ كشف اللبنانيون في محطتهم الأخيرة عن مستوى من الابتذال والرثاثة في تبادل الشتائم، لم يُقصر السوريون في المؤتمر على هذا الصعيد، فظهرت فيديوات لموالين ومعارضين سوريين كشفوا فيها عن انعدام حيلهم النزاعية، وعن اقتصار قدراتهم على شحن الحروب بمقدار من البذاءة لا يقل عنفاً عن المشهد الدموي في بلدهم.

وهذا ليس هجاء مجانياً للجماعتين اللبنانية والسورية، إنما محاولة استكشاف العجز الذي تكابدانه. وليس العجز هنا عجزاً عن تحقيق السلام في البلدين فقط، إنما هو عجز عن الاستمرار في الحرب. حال من الاختناق والانسداد المولد لحالات من الهذيان الجماعي الذي يجد تصريفه بنوبات هستيرية.

وقف عضو من وفد النظام وصرخ في قاعة المؤتمر: «الأسد باق إلى الأبد»، فما كان من أحد أعضاء الوفد المعارض إلا أن وقف في مواجهته ورد بسيل من العبارات البذيئة. وفي هذه اللحظة يجد المرء نفسه حيال عجزين! الأول مثله رجل النظام الذي يعرف ما تولده هذه العبارة في نفوس المعارضين، والثاني مثله رجل المعارضة الذي لم يجد مخرجاً لغضبه سوى إطلاق العنان للسانه. ممثل النظام يجيب في عبارته عن عجزه عن خوض الحرب ليبقي الأسد إلى الأبد، وممثل المعارضة عبر عن عجزه عن طرد الأسد من «الأبد». المؤتمر منعقد بهدف استبعاد هذا الشرط الضروري لتوازن السوريين، وهو فشل لهذا السبب تحديداً قبل أن يفشل لأسباب سياسية. فالجميع يعرف أن القابلية السورية للتسوية منعدمة، ولا تملك أدنى شروطها، وأن الشرط الدولي، أو نصف الدولي، طالما أن رعاة المؤتمر هم موسكو وأنقرة وطهران، لن يُنتج تسوية طالما أن الضغوط هنا لا توازي الضغوط هناك، وطالما أن النظام أرسل أبطال مسلسل «باب الحارة» لكي يفاوضوا خصومه، بينما حُرمت شخصيات من المعارضة، ممن قبلوا المشاركة، من غرف في الفنادق، ومن مقاعد على متن الطائرات.

الأخطر من استمرار الحرب في سورية هو أن يُمنع السوريون من خوض حرب راغبين في خوضها. هنا سيتحول السلام إلى اختناق، وهو اختناق سيكون أعنف من ذلك الذي كانوا يعيشونه في ظل نظام البعث. فالحرب في أحد وجوهها هي رغبة الوصول إلى نتائج تعقبها، أما سلام المختنقين فهو حرب مديدة لا نتائج تعقبها سوى الحروب.

في لبنان مُنعنا من مواصلة الحرب، وها نحن نعيش ومنذ التاريخ الرسمي لنهاية الحرب في بلدنا، أي منذ 1990، في سياق من الحروب الباردة والمتناسلة والتي لا تقل مأساوية عن تلك الحروب المعترف لها بأنها حروب.

ما كشفته أعمال الشغب والعنف التي أعقبت شتيمة وزير الخارجية لرئيس المجلس النيابي في لبنان هو أننا لو لم نوقف حربنا، أو لم يوقفوها لنا، لكنا استأنفنا البحث عن مخرج أو عن نصرٍ واضح. اليوم بلدنا لا يتحمل شتيمة، ولا يستطيع أن يُحاسب مُطلقها. فمن شتم هو طائفة بأكملها، ومن شُتِم هو أيضاً طائفة بأكملها. وهذه ليست مبالغة. الجرح النرجسي الذي خلفته عبارة باسيل في الوجدان الشيعي ليس قليلاً، والمشاعر التعويضية التي خلفتها لدى المسيحيين ستُثمر في الانتخابات النيابية. فكيف لقضاء أن يُحاسب طائفة أو أن يداوي جرح طائفة أخرى. هذا ما خلفته النهاية المأساوية لحرب لم تنضج ظروف نهايتها بعد. فجبران باسيل على رأس تيار استبعدته التسوية لأكثر من 15 عاماً وما أن عاد حتى باشر الانتقام من هذه التسوية. والجرح الذي خلفته الشتيمة في وجدان الجماعة الشيعية في لبنان، وما نجم عن هذا الجرح من أعمال عنف، مصدره بالدرجة الأولى التسوية التي طَوبت هذه الجماعة بصفتها جماعة منتصرة، وزودتها بنرجسية قاتلة.

لم يحن موعد نهاية الحروب، والعالم إذ يستعجلنا لوقفها مخطئ بحقنا وبحق نفسه أيضاً، ذاك أن آثار الحروب التي ستعقب هذه التسوية لن تقل فداحة عن الحروب المرجو وقفها. في لبنان، لدينا طوائف يدها على الزناد دائماً، ولدينا حزب مشارك في ثلاث حروب أهلية، ولدينا طبقة سياسية مافياوية ومستعدة للمساومة على كل شيء لقاء مصالحها المباشرة. هذه هي النتائج المباشرة للتسوية.

في سورية، المطلوب من وراء استعجال السوريين إنهاء حربهم أن تتمثل التسوية في أن «يبقى بشار الأسد إلى الأبد»، والمطلوب منهم أيضاً أن يقبلوا بشريك تركي يُرسل وحوشاً بشرية لكي تغتصب المقاتلات الكرديات وأن يُمثل بجثثهن، هناك على مشارف التسوية المرعية من أنقرة كما من موسكو وطهران.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى