صفحات العالم

دفاعاً عن الشعب السوري


 كمال اليازجي

ما من شيء يُضاهي العنف الذي يتعرض له الشعب السوري الا المواقف الظالمة التي تصدر عن بعض اللبنانيين. سوف نستعرض بعضاً من هذه المواقف، ونُعلّق عليها.

ما يجري في سوريا مؤامرة: المؤامرة، تحديداً، دسيسة تحوكها وتنفذها سراً زمرة قليلة العدد. عندما ينزل مئات الآلاف الى الشارع علناً، ويقارعون الموت لستة اشهر، لا يسمى ذلك مؤامرة. الاسم العلمي المتعارف عليه لهذه الظاهرة هو ثورة. والا يصبح من واجبنا ان نراجع التاريخ ونغيّر التسميات ونتحدث من الآن فصاعداً عن المؤامرة الفرنسية سنة ١٧٨٩، ومؤامرة اكتوبر في روسيا سنة ١٩١٧. وما هذه المؤامرة الخرقاء التي يُمهل اصحابها نظام الاسد خمسة اشهر، ويعطونه الفرصة تلو الفرصة ليبدأ بعض الاصلاحات لعله يسترضي بها الشارع وينقذ رأسه، ولا يرفعون الصوت في وجهه الا بعد ان يكون قد قتل اكثر من الفين من ابناء شعبه؟

… تنفذها مجموعات ارهابية مسلحة: ان تنعت الآف المتظاهرين بالمجموعات الارهابية المسلحة هراء. الثورة السورية اصرت منذ البداية على طابعها السلمي. وهي حتى الآن لا تزال غير مسلحة. انما بسبب التمادي في القتل وكثرة الاعتقالات، كان لا بد ان يظهر في بعض الاماكن مسلحون اخذوا على عاتقهم حماية التظاهرات والرد على قوى الأمن اذا أطلقت النار. اما عدد القتلى العسكريين، فمرده الى أن قسماً كبيراً منهم تم اعدامه ميدانياً لأنه رفض إطلاق النار على المتظاهرين.

السلطة تحفظ الامن والجيش يدافع عن نفسه: … بالقنص، بمدفعية الدبابات، وبكل انواع الاسلحة، حتى بسلاح البحرية، في سابقة عالمية. فعلاً يتطلب الأمر كثيراً من التعامي حتى لا يرى المرء ما تُظهره يومياً كل شاشات التلفزيون وتكتب عنه كل صحف العالم: حرب شاملة يشنها نظام على شعبه.

الاحداث في سوريا انتهت: ان تكون الثورة لم تتوقف منذ ستة اشهر، وهي في وتيرة تصاعدية، وبعد ان كانت اسبوعية اصبحت يومية، امر لا يقلقهم. فهم قرروا ان الامور تحت السيطرة، والموجة انحسرت، وقريباً ينتهي كل شيء. صحيح ان الانسان ميال بطبعه الى الاعتقاد بصحة امر ما لمجرد رغبته في ان يكون ذلك صحيحاً، لكن المسألة تخطت هنا حدود التمني لتصل الى نكران الواقع بشكل مَرَضي.

لا شيء يحدث في سوريا: وهناك من يصل به الهذيان الى حد القول ان لا شيء يحدث في سوريا، وان الأمن مستتب، ما خلا بعض المتفرقات التي لا تذكر. احد اركان التيار العوني الذي زار دمشق اخيراً في اطار “حملة سوريا بخير” لخّص الرواية الرسمية بشكل لا يترك مجالاً للمزايدة.حتى انه تجاوز في مغالاته مواقف القيادة السورية نفسها.

وضع سوريا يختلف عن باقي الدول العربية: قد يكون الربيع العربي مقبولاً في مكان آخر، اما في سوريا فلا. ولماذا من فضلكم؟ وما الذي يعطي سوريا هذا الامتياز؟ لانها دولة الممانعة! عبثاً تبحث في قواميس السياسة عن معنىً لهذه الكلمة، او عن ترجمة لها في اللغات الاجنبية. تنظر بامعان لعلك تجد في سياسات سوريا ما يبيّن لك المعنى، فلا تجد سوى ان سوريا حليف استراتيجي لايران، وجزء من منظومتها الاقليمية، وطريق لامداداتها الى ذراعها في لبنان. تتساءل: لماذا لا يقدّر الشعب السوري هذه الممانعة مثلما يقدّرها بعض اللبنانيين، ولا ينحني امام هذا المجد، ويشكر ربه على هذه النعمة، بدلاً من تعريض نفسه للقتل والاعتقال؟ يا للعقوق!

البديل الوحيد للنظام هم الاخوان المسلمون: او لعلها “القاعدة”. مهلاً! انظروا الى شعارات الثورة السورية. نادت بالحرية، ولم ترفع شعارات دينية. اقرأوا ادبياتها التي تطالب بالدولة المدنية، وهي تعبير ملطّف عن الدولة العلمانية. اسألوا عن الوجوه البارزة في المعارضة، تجدوا الليبرالي والعلماني واليساري والاسلامي. اطمئنوا: المعارضة السورية متنوعة، ولا خوف من ان يبتلعها الاخوان المسلمون.

المسيحيون سوف يتعرضون للاضطهاد اذا ما سقط النظام: قد لا ينتبه اصحاب هذا الرأي الى خطورة ما يقولونه. كأنهم يقولون ان الاكثرية في سوريا، وهم الاكثرية في العالم الاسلامي، مفطورون على الاضطهاد، وانهم لا ينتظرون سوى رحيل هذا النظام للانقضاض على المسيحيين. الم يتساءل هؤلاء كيف عاش المسيحيون لقرون قبل وصول حزب البعث الى الحكم؟ على المسيحيين ان يفهموا ان لا مصلحة لهم بأن يربطوا مصيرهم بمصير ديكتاتورية تتهاوى.

النظام الحالي يحمي الأقليات: والصحيح ان النظام يحتمي بالأقليات. ويغذي مخاوفها. وفي موضوع الأقليات، السؤال الأساسي هو: هل من مصلحة الاقليات ان تتحالف في ما بينها وتضع نفسها في مواجهة عدائية مع الاكثرية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر؟ الحل بالنسبة للأقليات هو في الديموقراطية. ان الانتقال الى الديموقراطية سوف يخلق جواً من الحرية والتسامح يسمح بتخطي الولاءات الضيقة، الطائفية والقبلية. ان خلاص الاقليات هو في انخراطهم في مجتمعاتهم، وتأكيد حضورهم كمواطنين متساوين كاملي الحقوق، وليس كأقليات تطلب الحماية.

“اننا ننظر بعين القلق الى ما يجري في العالم العربي”: الربيع العربي الذي تحمس له العالم لا يثير عند البطريرك الراعي الا القلق. لكن لماذا الريبة والقلق كلما تحرك التاريخ؟ نحن على العكس ننظر بعين الامل الى الربيع العربي، ونرى انه فرصة لم نكن نتوقعها للعبور الى الديموقراطية والحداثة. وما يبرر هذا التفاؤل هو الشعارات الراقية التي رفعها الثوار في كل مكان. الناس الذين خرجوا بالثورة طالبوا بالحرية والعيش الكريم، ولم يرفعوا اياً من تلك الشعارات البالية التي كانت تستخدمها الانظمة للدجل والمزايدة.

مستقبل الثورات العربية غير معلوم. فلنُبقِ اذن على الانظمة القائمة: لا تريدون القفز في المجهول. وتريدون ان نتنبأ لكم بمستقبل المنطقة للسنوات المقبلة حتى تطمئنوا. حسناً. ما هو مؤكد هو التالي: طغاة رحلوا، وآخرون سوف يتبعون. النظام القديم ولى الى غير رجعة. وطويت معه حقبة سوداء كانت غير متوافقة مع العصر. الآن كل شيء ممكن. طريق الحرية مفتوح. اكثر من ذلك لا احد يستطيع ان يتنبأ. لأن الصراع السياسي لن يتوقف. القوى التي تعاونت لدحر الطغيان ليست متطابقة سياسياً، بطبيعة الحال، وسوف يسعى كل منها الى تعزيز موقعه السياسي. في كل الدول العربية، سيكون هناك تنافس بين قوى تقدمية تؤمن بالديمقراطية وقوى اخرى تقليدية او اصولية. على اي حال الانظمة القائمة لا يُؤسف عليها. ومن يأتي بعدها يصعب عليه أن يكون أسوأ منها.

السوريون لم يتعاطفوا معنا في الماضي. لماذا نتعاطف معهم اليوم؟

مع ان هذا الزعم هو، في الواقع، غير صحيح، اذ ان كثيراً من المثقفين السوريين وقّعوا في الماضي بيانات تضامن تنتقد التدخل السوري في لبنان، لكن لنفترض ان اصحاب هذا الرأي لم يسمعوا بتلك البيانات. ولنسألهم: ماذا كنتم تنتظرون من الشعب السوري ان يفعل لأجلكم، وهو كان ضحية عاجزة مثلكم، وعانى من القهر ما عانى منه اللبنانيون، بل اكثر؟

 لا نريد ان نتدخل في شؤون سوريا الداخلية: لا احد يطالبكم بارسال الاسلحة. المطلوب منكم الا تقفلوا قلوبكم اذا ما رأيتم شيئاً يُدمي القلب. التعاطف مع ضحايا القمع ليس تدخلاً. التعاطف شعور انساني لا يمكن تعليقه عندما نقترب من الحدود السورية. وللمناسبة، سوريا تدخلت في شؤوننا الداخلية اربعين عاماً. ولا تزال. واشبعتنا “شعب واحد في بلدين”. تُرى، الا تريدون ان تتعاطوا معها بالمثل، لمرة واحدة؟

ليس لنا مصلحة ان يسقط النظام في سوريا: ضع التعاطف والاعتبارات جانباً. لنا مصلحة اكيدة كلبنانيين ان يسقط هذا النظام. من اجل ان تستقيم العلاقات بين بلدينا. هذا النظام لم يتخلَّ يوماً عن مطاعمه في الهيمنة على لبنان.  وهو سعى منذ اربعين عاماً الى زعزعة الاستقرار في لبنان، حتى تمكن في مطلع التسعينات من الهيمنة عليه بالكامل وتحويله دولة تابعة. وله في ذاكرة اللبنانيين سجل حافل. لكن اذا قام في سوريا نظام ديموقراطي يصبح ممكناً ان نقيم علاقات متوازنة، مبنية على قيم مشتركة وليس على سياسة القوة. استقلال لبنان من ديموقراطية سوريا.

(                     استاذ جامعي)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى