صفحات مميزةعلا شيب الدين

دفاعاً عن المثقف الحقيقيّ ضد استبداد العاميّ/ علا شيب الدين

 

 

“مالنا ومال” مثقف السلطة! ذاك الذي يحمي بـ”أناقة”، السلطة المستبدة في أشكالها كافة، يحرسها مهما تكن مجرمة ظالمة فاسدة ومُفسدة، يتمسّح بها، يمالئها ويميل معها كيفما مالت. إننا هنا فقط في صدد الدفاع عن مثقف “يقف” ضد الميَلان الوضيع (على طريقة النفّري مثلاً في “مواقفه”) وضد الحقارة والكيتش. مثقف حقيقي، الثقافة في حنايا وجوده ليست مجرّد معلومات مكوَّمة، وهي لا تساوي عنده شيئاً ما لم تكن كفاحاً معرفياً حراً، وكدحاً هدّاماً بنّاء دفعة واحدة، وأخلاقاً رفيعة المستوى قبل ذلك كلّه، وما لم تكن كذلك في حِلٍّ من تصيير “المعلومات” وتقليبها لغرض إنتاج خبز الروح والعقل والوجدان، في مواجهة إنتاج السموم.

يُنبَذ المثقف الحقيقي في مجتمعاتنا ويُضطهَد، ليس من النظام السياسي المستبد فحسب، بل من المجتمع المستبد نفسه، من “العاميّ” المستبد نفسه، باعتبار هذا مفطوراً على كره مَن يفكّر، مشحوناً بالحقد حيال فهمه ونورانه، شاهراً السيف والبلطة والبارودة واليقين والحقيقة الواحدة المطلقة، في وجه تفكيره الذي يريد الاختراق، ناظراً إليه نظرة مستدخَلة تكوِّنه بعيداً من كلّ خياراته، ومن كل أفعاله الفردية. لكن المثقف الحقيقي هو ذاك الذي غالباً ما يشعر الناس في حضوره بأنهم “عظماء”. يراود الحياة كعاشق ومعشوق. جارفاً. شاباً في عزّ الظهيرة مهما أمعَن في السنين، وأفضل الشباب ذاك الذي يأتي متأخراً (استلهاماً لنيتشه). يفجّر قنبلة روحية أينما انوجدَ، ويرحل. يفرش زوّادته في البريّة ولا يدعو أحداً، فمَن شاء فليأكل، ومَن شاء فليعزف. هائماً محلّقاً. هارعاً هارباً إلى الجمال، إلى الافتتان. سائراً على الدروب، حاملاً القلب الدافق والعقل النيّر. مقامراً. فيلسوفاً. شاعر حياة. مقبِّلاً معانقاً متفجّراً، لا متأنّياً منتظراً في أي اتجاه ستسير الأمور، ولا بارداً برود الصيرفيّ. مبارزاً لا قنّاصاً. منبثقاً كفطر، راسخاً كشجرة، متدفقاً كعشب. محاوِراً مولِّداً، لا مستدرِجاً مورِّطاً. متكلّماً خفيفاً، لا ساكتاً تحت وطأة الثقل المتواطئ الخبيث. فضوله معرفيّ كشفيّ وقّاد، لا حشَريّ متلصص متعدٍّ. هو على النقيض من جلّ الكذّابين، يقول أحياناً شراً وينوي شراً، فيفعل خيراً. يصير محض نهرٍ لا يكلّ الجريان ولا يملّه ضد مستنقع “العاميّ”.

المثقف الحقيقيّ الملفوظ

يتكتّل العاميّ والعاميّ في مجتمعاتنا الممعنة في التقليد دائماً، ويتحالفان غالباً ضد المثقف الحقيقيّ بشكل واعٍ أحياناً ولا واعٍ أحياناً أخرى. تكتلٌ وتحالفٌ من شأنهما المحافظة على الثبات ضد حركة المثقف الحقيقيّ الذي يُقلَّل من شأنه انتقاماً من إزهاره الذي لا ينضب، ولن. فالإزهار طبيعته، كينونته، فضيلته المضرّجة. يتفاوت التحالف التكتيكي الاستراتيجيّ ضد المثقف الحقيقي، تفاوتاً تدرّجيّاً من شديد إلى أشدّ، ومن قاسٍ إلى أقسى. فمحنة المثقف الحقيقي الفقير الحال مثلاً، في معمعة تحالف العاميّ والعاميّ، أقسى من محنة المثقف الحقيقي حين يكون ميسور الحال. الأخير مصونٌ نوعاً ما، ومحميّ من البهدلة الشعبوية الوثنية التي تعبد صنم المال (يصون المال إلى حد ما، الكرامة الإنسانية مرّات بالقدْر نفسه الذي يهينها مرّات أخرى). المثقف الحقيقي الرجل، أقلّ عرضة للابتزاز وأكثر قبولاً من المثقف الحقيقي المرأة، هذه التي يتربّص بها الرجال والنساء على السواء. المرأة المثقفة التي لا تعير انتباهاً للأنوثة الحقة، يظلّ التحالف التكتيكي والاستراتيجيّ ضدها أقلّ من تلك الآخذة على كاهلها احترام الحياة في جمال الشكل والمضمون. إذ كلّما ازداد احترام الحياة لدى المثقف الحقيقيّ، وكان أصدق معها ومع نفسه؛ ازداد في المقابل سعيُ العاميّ الممتشق ثقافة الموت والقبح، إلى التقليل من احترام المثقف هذا. المثقفة الحقيقية التي كوّنت أسرة، تبقى من منظور العاميّة المستبدة مستساغة أكثر من المثقفة الحقيقية المشلَّعة الأبواب والنوافذ ككون، الغائرة كجرح، الترابيّة كعمق. الدهليزيّة كعتمة. فويلٌ لمثقفٍ حقيقي اجتمع فيه أغلب الآنف! إذ الخطر كل الخطر سيطارده بلا هوادة. وهكذا، سوف يبقى بمثابة جسم غريب ملفوظ.

المثقف الحقيقيّ الفريسة

ما إن يفصِح المثقف الحقيقي قليلاً عن ذاته وآرائه؛ حتى يستحيل طريدةً، وتصير المكاشفة النقيّة الحرة محلّ نهش، وتمسي حرية المثقف الحقيقي فريسة للعاميّ. يكمن استبداد العاميّ هنا حيال المثقف في الآتي: يتكلّم العاميّ عن نفسه ومعتقداته ويطيل، معتقِداً في دخيلة نفسه بأن “على” المثقف أن يستمع فحسب. وما إن يتجرّأ المثقف على إضاءة جانب بسيط من كونه الفسيح، بلُغته الجوّانيّة الخاصة، حتى يغدو كمَن يفشي سراً مزلزِلاً يستدعي التهيؤ لتفادي “شرّه”؛ فيشيح العاميّ مريداً “الخلاص”، إذ هو لا يجيد الإصغاء، بل ملء الخواء الداخليّ بادعاءات معرفيّة هي أدنى ما تكون إلى ثرثرةٍ مستبدة في إرغامها على الاستماع، وحين يملّ المثقف الثرثرة يُتهَم بالتعالي وبعدم “تفهّم” العامة. وعليه، فإن مَن آثروا إخفاء الحكمة عن العامة، كانوا على صواب في معنى ما، لأن هؤلاء أدركوا، أن أصحاب العقول الممتازة غالباً ما تكون رؤية أنوارهم المبهِرة رؤيةً منقبضة محدودة ومتشظّية، لذا فهم يكونون قريبين إلى الناس حين يبتعدون عنهم، وبعيدين عنهم حين يقتربون (كحال جبران خليل جبران مثلاً)، فيرتدّون نادمين في شأن “النزول”. بيدَ أن الندم قد يكون ضرباً من ضروب استمرار الـ”إثم”(تيمّناً ببورخيس). لذا، تراهم يعودون إلى فضاءاتهم دونما ندم، كما لو أن الفرد لا يلج إلى عمقه إلا من طريق المفارقة والارتداد. وكما لو أن وعي الذات لا يمكنه التعبير عن نفسه إلا من طريق الكذب والمراوغة والتمويه والدجَل، فالشخص المتفرّد خطَر، والانشقاق عن السرب خطَر، والخروج عن القطيع خطر في خطر. في معنى ما، لا ينبغي للمثقف أن يكون لمساً ولا مُلكاً مشاعاً، بل مُلك نفسه فحسب. وإنه لَمن المثير للعجب أن يُطلَب إليه أن يكون مُلكاً للناس! لكن إن شاء هو أن يكون كذلك فهذا شأنه، وإن شاء أن يرتدّ عن المشيئة هذه، فهذا شأنه أيضاً.

* * *

يرغب العاميّ في البداية، في الإفادة من بصيرة المثقف الحقيقي وتبصّره، في استثمار ما يمكن استثماره – تجارياً وحسابياً- من المثقف الذي سيصير بعد قليل خصماً لدوداً. يرغب العاميّ في البداية بمعرفة ذاته، و”الاستماع” لا الإصغاء الممهور بالاهتمام والتأمل، إلى مَن يكلّمه عن نفسه ويبسطها أمامه، كونه عاجزاً عن التبصر في ذاته العميقة. باحثاً عن عكّاز، وها هو قد وجد في المثقف عكّازاً. يصدّق المثقف الحقيقيّ في البداية رغبة العاميّ في المعرفة، يحترمها ويروح يساهم بشغف في إذكاء نقاشٍ عميق، مؤمناً، وحين يحصل ألاّ يقدّم المثقف الحقيقيّ الذي لا يكذب، ما يَروي ويُطرب، وحين يحصل ألاّ يثير إعجابَ العاميّ الذي لا تعجبه لغة المثقف، أي اللغة التي تنقش الميزة الأنطولوجية للمثقف الحقيقي، كونها لغة ضد لغة، وتحيل على لغة أكثر جوهرية، أعني لغة الاعتراف التي يتكلم المثقف الحقيقيّ من خلالها عن الخطأ والشر؛ ينقلب العاميّ حينذاك على المثقف، ويبتعد مبغِضاً، مبرِماً الدسائس وعازماً على سلب كلّ حيّز أنطولوجيّ خاص بالمثقف الحقيقي، نزّاعاً إلى الانتقاص من خصوصية المثقف في التعبير والتفكير، في الدلالة والحضور. فتحدث الخيبة مدوّيةً لدى المثقف، ليضاف ذلك إلى ركام المذابح النفسية والتفسّخ.

* * *

يريد العاميّ قضمَ ما يمكن قضمه من كعكة المثقف الحقيقي الشهيّة، وحين يكتشف أنه لا يمكنه هضم ما قضم؛ يغدر بالتلذذ الآتي من القضم قبل الهضم. يغدر بمتعة الاختلاف الأولية الطازجة، إذ الفضول ذو الطابع الحشريّ فحسب هو ما يكون قد دفعه أصلاً للاقتراب من المثقف الغريب الأطوار هذا، وما إن يكتشف العاميّ الانتهازيّ أن ما من مصلحة له من اقترابٍ كهذا، حتى يبتعد ويبغض. إن آلية البغض هنا حيال المثقف الحقيقي، تبدو كأنها منقوشة في البنية الداخلية للعاميّ.

المثقف الحقيقيّ الضوء

غالباً ما يشكو العاميّ في أوساط الثورة (الثورة السورية على سبيل المثل)، من عزوف المثقف وهربه وترْكه العاميّ في مواجهة مصيره. قد يكون العاميّ محقاً في بعض الأحيان في شكواه هذه، لكن لنا في الآن عينه، أن نتساءل: لماذا يُقمَع المثقف الحقيقي حين يحضر فعلاً بين العامة، متحدّثاً بما من شأنه أن يرفع ويثري؟! يُستاء غالباً من تنظير المثقف ومن التناقض أو الفصل إنْ حصلَ، بين ما يقول أو ما يكتب وبين ما يفعل ويعيش ويمارس. ولكن ماذا عن تنظير العاميّ حول رغبته بحضور المثقف، ثم تمريغه ورفضه حين يحضر فعلاً؟! يقف المثقف الحقيقيّ الضوء، صارخاً منادياً على العاميّ لكي يخرج من كهفه، فيُطلق الأخير رصاص الخوف الأعمى، من داخل الكهف في اتجاه الضوء المبهر، مفضّلاً الظلام المألوف على الضوء المجهول. يطالب العاميّ بتواضع المثقف، غير أنه هو نفسه مَن يعمد إلى إثبات أناه الجمعيّة المتكتلة بنفي أنا المثقف الحقيقي الفريدة والمتفرّدة، واحتقاره حين يتواضع طوعاً أو قسراً، ملبّياً نداءً داخلياً تارة، خارجياً طوراً! ينفر العاميّ من نخبوية المثقف، يطوّقها ويطالب بإلغائها. لكن ما يبدو صعب الفهم هنا، هو الآتي: النخبوية ليست دائماً تعالياً وعجرفة. أن يكون المثقف غير نخبويّ، لا يعني بالضرورة أن يرضى بكل شيء ويقبل بكلّ شيء. ذلك أن النخبوية تكون أحياناً بمثابة “مثال” يجب أن يبقى مضيئاً ومُضاء.

* * *

منذ اندلاع ثورات “الربيع العربي” في العام 2011، درجت لدى الغالبية، عادةُ إبراز العاميّ على حساب المثقف الحقيقيّ، انطلاقاً من موقف كيديّ أحياناً، يُستعمَل فيه العاميّ أداةً في خدمة وجهة نظر معيَّنة، عندما يقع اصطدام نظريّ مثلاً، بين المثقفين أنفسهم، وغالباً ما يستغلّ العاميّ الحاجة إليه في الصراع هذا، فيمعن في استبداده ضد المثقف الحقيقيّ. هكذا، يصير هذا الأخير مهمَّشاً أكثر، فضلاً عن كونه مهمشاً وملفوظاً أصلاً. لنا هنا أن نقف وقفة نقدية حيال استبداد العاميّ، خصوصاً حين يعتقد هذا مثلاً، بأنه دافعُ ثمن التغيير الوحيد والأوحد، وبأن المثقف بقيَ، إلى حدّ كبير، في منأى من الاضطهاد الذي لقيه هو. غالباً ما يظنّ العاميّ أن التعرّض للاعتقال مثلاً أو التعذيب، هو الدليل الدامغ على النضال والشجاعة، وأنه المعيار الأوحد على صدقية “الثائر” أو لا صدقيته، وحين يحصل أن يكون أحدهم محظوظاً ويخرج من المعتقل سالماً؛ يروح أحياناً يفيض في الحديث عن نضاله لمناسبة ولغير مناسبة، شأنه في ذلك شأن البعض من “المعارضين التقليديين”؛ ليبدأ بعدئذ بتعمق استبداده عبر التذكير الدائم بأنه كان معتقَلاً وبأنه وحده مَن يحقّ له الآن أن يقرّر ويُطاع دونما نقاش، وخصوصاً إذا ما تسلم منصباً ما من المناصب المستحدثة خلال سني الثورة منذ اندلاعها. لكن، إضافة إلى الاحترام الشديد إلى كل مَن اعتُقل من أجل هدفٍ سامٍ ونبيل، لنا أيضاً أن نتساءل: ماذا لو حصل أن ثائراً حقيقياً لم يجرِ اعتقاله ولم يتعرّض للتعذيب؟ أيكون آنئذ غير شجاع، غير حقيقيّ، وغير ثائر؟! تجدر الإشارة هنا إلى أن ليس كل مَن اعتقلَ كان مناضلاً حقاً، فكم هي كثيرة القصص التي تروي كيف أن هذا الشخص أو ذاك اعتُقل عشوائياً دونما مبرّر يُذكَر، على الرغم من أنه ليس بثائر ولا بمعارض وما “بيدخّل بشي”.

* * *

يطالب العاميّ ببريق مُغرٍ يراه في الأعالي حين لا يكون المثقف قد هبط بعد. لكن لماذا لا يُصان البريق حين يستحيل لمساً. قُرباً. وفي المتناوَل؟! يخبو البريق ما إن يستحيل أرضاً أو واقعاً أو كثافة، ولا تُعرَف قيمته وتضيع تالياً فرصة الإفادة منه، ما يدفع أحياناً إلى التفكير في ضرورة بقائه بريقاً محضاً (إن نزول النجمة “المضيئة” إلى الأرض، خطر، وبقاءها متسمِّرة في الأعالي قد يكون خطراً أيضاً، لكن إن راق للنجمة أن تنزل ينبغي أن تكون محمية مصونة، وإلا فالبقاء في الأعالي حيث يُصعَد إليها ولا تنزل هو أفضل الممكن). المثقف الحقيقي الفقير الحال، الأخلاقيّ، المرأة، المرأة الجميلة، لا يحتمله أو يحتضنه النظام السياسي المستبد، والاجتماعي الثقافي الأكثر استبداداً، ولا تحتمله أو تحتضنه الثورة أيضاً، حين تصير مثلاً مجرّد بزنس وأحقاد. يُلفَظ المثقف الحقيقيّ من هنا ويُلفَظ من هناك، ليبقى في المهبّ الرهيب، لا حيّز مكانياً له ولا احتضان. وهل لمُمعنٍ في واقعية مستبدة، بائسة يائسة، أن يكون قادراً أصلاً على احتضان الضوء؟!

نقاش

قد يعترض القارئ أو القارئة بالقول: إن في المطروح هنا تعالياً يرمي إلى تقديم المثقف كأنه معصوم من الخطأ، وإنه في المعنى الأقوى، حُكمٌ مسبق وتعميم. لكنه ليس شيئاً من هذا ولا ذاك، بل إن “فضاءَ” تمظهُرِ استبداد العاميّ، لا يظهر إلا إذا اعترفنا به وأشرنا إليه وتكلّمنا عنه بصدق وجرأة نقدية. من جهة أخرى، المثقف الحقيقيّ هو الخطّاء الأكبر، لكنه في المقابل، هو المعترِف الأكبر أيضاً. إن المطروح آنفاً ليس تحليلاً، ليس تأويلاً، ليس شِعراً، ليس استنتاجاً صوريّاً عاجيّاً ومترفاً، بل هو بعضٌ مما أمكنَ استخراجه جرّاء حفرٍ وتنقيبٍ دائبَين ومديدَين.

إن المساواة التي ما انفكّوا يتحدثون عنها، لَمفهوم ملتبس. فالبشر ليسوا سواسية سوى من حيث الماهية الإنسانية. ليسوا كلّهم خيراً وبركة كما يُقال دوماً. هل يستوي الذين يَقتلون والذين يُقتَلون (مثلاً)؟! العاميّ المستبد قاتل، والمثقف الحقيقيّ قتيله. العاميّ عصيّ على الاعتراف، لكن من شيم المثقف الحقيقي، الاعتراف، وهو في اعترافه يروح يكتشف الحرية في وحدته العميقة الحارقة. إن موقع العاميّ المستبد – ونحن حتماً لسنا ممّن ينحدر إلى الخطاب العنصري المتعجرف في الحديث عن العامة باعتبارها حثالة ورعاعا ودهماء- قبالة مثقف من هذا الطراز، يمكن وصفه بـ”العبد الحاكم” الذي يقيّد نفسه ويجد نفسه دائماً مقيَّداً ومقيِّداً. يشقّ عليه فهم مثقف توّاق إلى تفجير المفاهيم المتحجّرة. ينهكه التجريد وهو المنغمس بكليته في الآليّ من المحسوس. تغيظه رؤية النجاح اليقِظ الذي ينبِّهه إلى جهله ونومه. تغيظه أيضاً رؤية المتناقضات في داخل الوحدة؛ فيؤثر البعثرة والحذف والإلغاء والحظر والطعن.

ربما ينبغي أخيراً التدارك: غالباً ما لا يتقن العاميّ المستبد ثقافة الشكر، وقلّما ينتبه إلى الجمال ومَواطنه، وإنْ انتبهَ يفضّل طمسه وعدم الإشارة إليه أو التكلم مع صاحبه عنه، متّشحاً بسواد الحسد؛ بينما يقدّر المثقف الحقيقيّ كل جميل ونبيل مهما يكن عادياً وهامشياً، وينصتُ دوماً إلى “إله الأشياء الصغيرة” المشرقة، كمثل إنصاته إلى آلهة الإشراقات الكبيرة.

 

كاتبة سورية

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى