صبحي حديديصفحات سورية

ترامب والأمم المتحدة: قاطع الطريق مرّ من هنا!/ صبحي حديدي

 

 

في وسع المرء، طبقاً لاعتبارات ذاتية أو أخرى موضوعية، أن يستقرّ على أيّ من هذه التوصيفات، لخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ قبل أيام، أمام قرابة 130 رئيس دولة وحكومة، يشاركون في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة: «عاصفة تغريدات دامت 42 دقيقة»، كما أشارت بعض التغطيات الصحافية، المهتمة بأفكار ترامب كما اعتاد الإفصاح عنها عبر موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»؛ أو: «نباح كلاب»، حسب لي يونغ هو، وزير خارجية كوريا الشمالية؛ أو: خطاب «يتسم بطابع فلسفي عميق»، و«يدشن إطاراً فكرياً» لنظرة ترامب إلى العالم، حسب مستشاري البيت الأبيض، وخاصة ستيفن ميللر؛ أو: ترامب «أوجز معياراً جديداً للقيادة على المسرح الدولي، وفي جوانب كثيرة كانت دعوة الرئيس تذكّر بتحذيرات ونستون تشرشل ضدّ المجاملة الأوروبية لصعود هتلر»، طبقاً لتحليل نوت غنغرش، أحد كبار زعماء الحزب الجمهوري المخضرمين…

ولا غرو، في هذا التضارب، ولا غرابة أيضاً. صحيح أنّ أروقة الأمم المتحدة، وخاصة هذا الجدار الرخامي الأخضر، شهدت وقائع «مسرحية» عجيبة؛ من نيكيتا خروتشوف، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي السوفييتي، الذي خلع حذاءه وقرع به المنصة؛ إلى الرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز، الذي تشمم رائحة الكبريت، واعتبر أنّ «الشيطان مرّ من هنا»، بعد مرور الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن على المنصة؛ وليس انتهاءً برئيس زيمبابوي، روبرت موغابي، الذي تفاخر بالخصوصية الثقافية لبلده: «لسنا مثليين جنسياً»؛ أو العقيد معمر القذافي، الذي استغرق خطابه ساعة ونصف الساعة، مزّق خلاله ميثاق الأمم المتحدة…

أمّا أن يعلن رئيس القوّة الكونية العسكرية والاقتصادية، وكذلك النووية، الأعظم أنه مستعدّ لتدمير بلد يعدّ 25 مليون نسمة؛ فهذه ليست واقعة تدحر جميع سابقاتها، فحسب؛ بل هي تطوي المبدأ ذاته وراء قيام الأمم المتحدة، أو تجبّ جوهره الأهمّ المعلَن على الأقلّ، بصدد حلّ النزاعات بين الدول الأعضاء عن طريق السلم لا الحرب. «الولايات المتحدة لديها قوة كبرى وتتحلى بالصبر، لكن إذا اضطرت للدفاع عن نفسها أو عن حلفائها، فلن يكون أمامنا من خيار سوى تدمير كوريا الشمالية بالكامل»؛ هكذا قال ترامب، ولم يكن في وسع عدسات عديدة إلا أن تنقل الوجوم، ثمّ الصدمة والإطراقة، على وجه جون كيللي، رئيس أركان البيت الأبيض؛ وعلى شاكلته كانت حال السيدة الأولى، ميلانيا ترامب!

على صعيد آخر، وضمن مسعى واضح لصياغة «عقيدة» ما، أو «رؤية فكرية»، أو «فلسفة»، أو «نظرية»… على أيّ نحو يساجل ضدّ القائلين بخواء هذه الإدارة على تلك الأصعدة؛ اختار ترامب إعادة تدوير سلسلة من أفكار المحافظين القدماء، ممتزجة بأفكار أبنائهم المحافظين الجدد، مع خلطة مستقاة من رونالد ريغان تارة (الأسنان النووية)، أو جورج بوش الابن طوراً (مفهوم «محور الشرّ» و«الدول العاصية»). ليس، بعد كلّ هذا المزج والخلط والاستيحاء، دون توظيف بعض ما تركه كبير مستشاريه المقال، ستيف بانون، من مخلفات حول «القومية الأمريكية» و«السيادة الوطنية»؛ وليس دون مبدأ «أمريكا أولاً»، حيث «لا نسعى إلى فرض أسلوب حياتنا على أحد، بل نرغب في جعله يشعّ كقدوة ماثلة على مرأى من الجميع»، كما عبّر ترامب في خطابه.

أو، كما كتب وليام ساليتان تحت عنوان «الديماغوجي خاصتنا»، ها أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعرض على العالم بأسره، من على منصة الأمم المتحدة، ولأوّل مرّة في تاريخها، رئيساً أثبت أنه ليس شعبوياً فقط، بل هو «أزعر» و»قاطع طريق». ورغم اعتراف ساليتان بأنّ بلاده، أمريكا، كان لها «تاريخ أسود مع العنصرية»، و»عقدنا صفقات مع دكتاتوريين»، و«خضنا حروباً سيئة»؛ إلا أنّ البلد ذاته «أشاع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي أكثر من مناسبة ساعدنا على إنقاذ العالم». ثمّ يتابع: «قُيّض للدبلوماسيين أن يستمعوا إلى محاضرة من متسلط، مدافع عن التعذيب، متحمس للنهب العامّ، متعاطف مع العنصريين، وديماغوجي طائفي. كان اليوم سيمرّ عادياً في أروقة الأمم المتحدة، لولا أنّ المستبدّ والديماغوجي والمحامي عن جرائم الحرب اتسم بأمر غير مألوف: أنّ هذه الصفات، كلها، اجتمعت في شخص رئيس الولايات المتحدة».

في معنى آخر، يعيد ساليتان (وسواه كثر في الواقع) العزف على النغمة التي شاعت في أوساط ليبراليي أمريكا خلال أطوار صعود ترامب، وبعد فوزه بالرئاسة: أنه حالة خاصة، واستثنائية، تجافي منطق التاريخ الأمريكي، وتسير على نقيض «خطّ التطور الطبيعي للقِيَم الأمريكية». ذلك يقوده إلى مقارنة ترامب 2017 مع بوش الابن 2011، حين كانت المدينة ذاتها، التي ألقى فيها خطابه أمام الجدار الرخامي الأخضر إياه، قد شهدت سقوط البرجين، في العمل الإرهابي الأفظع الذي ضرب أمريكا؛ فخاطب بوش شعوب الأرض قاطبة، وخصّ بالذكر ثلاثاً من ضحايا 11/9: غامبي، ومكسيكي، وباكستاني مسلم. أو مقارنة نزيل البيت الأبيض الراهن مع باراك أوباما 2009، من المنبر ذاته، الذي شدّد على التزام أمريكا بالقانون الدولي، وأنّ بلاده سوف ترتقي إلى مستوى قيمها وتاريخها.

ولكن… ألم يكن بوش نفسه هو الذي سيأمر باجتياح العراق، بعد سنتين فقط، فيخلّف الخراب الهائل على أصعدة مادية واجتماعية واقتصادية وإنسانية؛ ويستولد أمثال الزرقاوي والبغدادي، فضلاً عن أمثال أحمد جلبي ونوري المالكي، هذا غير إدخال إيران إلى مقدّرات البلد من البوّابات الأعرض؟ ألم يكن قد اعتلى المنبر في إهاب رئيس الدولة التي تعتلي العالم بأسره، وهذا ما جعله يستسهل الطلب من البشرية جمعاء ـ وليس فقط زعماء هذه البشرية، المنتخبين منهم وغير المنتخبين، الديمقراطيين والمستبدّين والإمّعات… ــ بأن «تنشر الديمقراطية» و»تحترم حقوق الإنسان» و»تحارب الإرهاب»… شريطة أن تهتدي، في هذه كلها، بما ستفعل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان! «لأننا نؤمن بالديمقراطية، فإنّ على الدول المسالمة أن تدعم تقدّم الديمقراطية»، و«الحرية تشقّ طريقها في العراق وأفغانستان، ويجب أن نستمرّ في اثبات التزاماتنا تجاه الديمقراطية في هذين البلدين»، قال بوش.

وأوباما، ألم يعد في الخطاب ذاته بإغلاق معتقل غوانتانامو ثمّ أخلف بالوعد، بل حجب حقّ المجتمع الدولي في الاطلاع على ملفات التعذيب، وامتدح مفهوم «الحرب العادلة» حتى وهو يتسلم جائزة نوبل للسلام؟ ألم تكن الأولويات الأربع التي حدّدها (الحدّ من التسلّح النووي، سلام الشرق الأوسط، التغيّر المناخي، ومعالجة الفقر في البلدان النامية) معادة ومستهلكة، وسبق لهذا المنبر أن شهد اجترارها على لسان رئيس أمريكي تلو آخر؛ مع تنويعات في الصياغة الخطابية وحدها، وبراعة أو رداءة الأداء الخطابي عند رونالد ريغان، بوش الأب، بيل كلنتون، بوش الابن، أوباما… هذا إذا لم يعد المرء بالذاكرة إلى أحقاب أخرى أبعد زمناً في تاريخ منظمة الأمم المتحدة، والعلاقات الدولية عموماً. وأيّ غرابة، استطراداً، أن يرغي ترامب ويزبد من على منصة الأمم المتحدة؛ إذا كان، في هذا، لا يفعل سوى الاقتداء بأسلافه من رؤساء أمريكا، من جهة؛ وكذلك الوفاء بما نطق به، خلال حملته الانتخابية، حول هذه الهيئة الأممية تحديداً: أنها «عدوة الديمقراطية، والحرية، وعدوة الولايات المتحدة، موطنها، وهي بالتأكيد ليست صديقة لإسرائيل»؟ لا عزاء لأمثال شافيز والقذافي وموغابي، إذن، حين يواصل قاطع الطريق مروره من منصات الغطرسة الكونية؛ المسلحة بالنووي، حتى النواجذ!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى