صفحات الرأي

لو حكم الرجعيون مصر!/ محمود الزيباوي

 

هاجمت الصحافة المصرية مشاريع جماعة “الأخوان” منذ الأربعينات في القرن الماضي، وتصدت لها بجرأة وحزم إثر “حادثة المنشية” في تشرين الأول 1954. تواصلت هذه الحملة في السنوات اللاحقة، ووصلت إلى ذروتها في الستينات اثر انعقاد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في أيار 1962 لمناقشة مشروع الميثاق.

كتب سليم اللوزي في بداية حياته الصحافية مقالات عدة تتناول شؤون الفن والمجتمع، كما كتب سلسلة من القصص القصيرة والطويلة أشهرها رواية “طريق الخطيئة” نشرت على حلقات في الصحافة قبل أن تصدر في كتاب في ايلول 1959. بعد انتقاله من الكتابة الفنية إلى الكتابة السياسية، أعاد صاحب “الحوادث” نشر هذه الرواية في حزيران 1962، ووضع لها مقدمة شرح فيها سبب اقدامه على ذلك بعد تردّد.

في هذه المقدمة، يخبرنا الكاتب أنه أعتذر، أول الأمر، عنما عُرض عليه مشروع إعادة طبع قصته، وأضاف: “كتبت هذه القصة منذ عشر سنوات، عندما كنت منصرفا إلى الكتابة الاجتماعية، أما اليوم، فقد تغير وضعي وانصرفت إلى الكتابة السياسية، وجرت في حياتي، وحياة أمّتي، جداول كثيرة، فانقلبت أوضاع كانت تبدو جذرية، وتغيرت مفاهيم، وذابت طبقات، وأصبح القتال السياسي واجباً على كل صاحب قلم، فكيف أعود إلى الوراء، لأقدم للناس قصة جنسية أثارت عليّ، يوم نشرتها متسلسلةً في الأعداد الأولى من مجلة “الحوادث”، كما أثارت عليَّ يوم أصدرها المكتب التجاري في كتاب، ثائرة الذين يرون أن المكان المناسب لمعالجة القضايا الجنسية هو المخدع، وراء الأسترة السميكة في الغرف المقفلة، لا في كتاب ينشر على الناس، ويقرأ في الهواء الطلق. ولكن ما حدث في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي انعقد مؤخرا في القاهرة، عندما وقف الشيخ محمد الغزالي يطلب من الرئيس جمال عبد الناصر أن يصدر قانونا يمنع فيه النساء من الخروج سافرات من بيوتهن، جعلني أدرك الحقيقة الرهيبة التي لا تزال الأمة العربية تعيش فيها. فنحن في الوقت الذي ننطلق بسرعة قياسية في طريق التحرر السياسي، لا تزال أفكار التخلف الاجتماعي تحكم عقليتنا، ومفاهيمنا الاخلاقية، وطريقة معالجة مشاكلنا الانسانية”.

لم يتوقف سليم اللوزي عند هذا الحد، بل استمر في هجومه الحاد، وقال بجرأة نادرة: “ان من أبرز المفارقات لصورة المجتمع العربي، أن يثار في مؤتمر تاريخي، انعقد لبحث مستقبل التقدم الحضاري في ظل الاشتراكية العربية، مواضيع اجتماعية بالطريقة والأسلوب والعقلية التي أثارها الشيخ محمد الغزالي حول السفور والحجاب، وطول الفستان الذي تلبسه المرأة، وهل يجب أن يكون فوق الركبة أم تحتها. وأنا من رأي برنارد شو، في أن رجال الدين، بالرغم من انهم كائنات جنسية، الا انهم آخر من يحق لهم ابداء النظريات في مثل هذه القضايا الحساسة، في عصر يجب الرجوع فيه إلى آراء الاختصاصيين في هذا الحقل، لتكوين النظريات الصحيحة المبنية على الاختبار الواقعي”.

رأى الكاتب ان قصة “طريق الخطيئة” هي “قصة واقعية مسجلة على لسان امرأة عاشت التجربة. امرأة تتحدث في صدق وصراحة ومعاناة حقيقية عن عناصر الحرمان، والكبت، والأساليب الخاطئة في التربية المنزلية والمدرسية، ثم تكشف بسخرية عن حقيقة الأوضاع الاجتماعية الفاسدة التي تجعل طريق الخطيئة طريقاً حتميا سواء ارتدت المرأة التي تعيش في هذا العصر، حجاباً أسود يخفي كل جسدها، أم كانت ترتدي شورت يكشف ثلاثة أرباع جسدها”. وأعاد قراءة قصته من جديد، واكتشف أن “المشكلة لا تزال حية كما كانت”، يوم كتبها قبل عشر سنين، وأن “الكبت الجنسي لا يزال أضخم مشاكلنا الاجتماعية والنفسية”، وقال بينه وبين نفسه: “إذا كان الشيخ محمد الغزالي قد سمح لنفسه بأن يكون عالماً في الانفجارات الجنسية، فالذي لا ريب فيه أن بطلة قصة “طريق الخطيئة” هي أكثر اختصاصا وأكثر خبرة منه للتحدث في هذا الموضوع”. هكذا دفع اللوزي بالقصة إلى المطبعة من جديد.

 

الزي الإسلامي الموحد

يُهاجم سليم اللوزي في هذه المقدمة شيخاً لم يكن من شيوخ الأزهر، غير أنه ألّف أكثر من خمسين كتاباً تناول فيها موقف الإسلام التقليدي من القضايا المعاصرة، وهو في نظر أنصاره أحد “أكبر دعاة الفكر الإسلامي فى العصر الحديث”. حمل لواء “الأخوان”، و”كان فى الستينات من القرن الماضى يخطب في جامع عمرو بن العاص، ويصلي خلفه في صلاة الجمعة أكثر من مئة ألف مصلٍّ من جميع محافظات مصر، حيث كان يقود من هناك معركة شرسة ضد الفكر الإشتراكي للرئيس عبد الناصر”. هاجم الحكومة الناصرية يوم أقرّت سياسة تحديد النسل، وأعلن ان هذه السياسة مرفوضة اسلامياً، وطالب باعتماد القوانين من الشريعة الإسلامية عند مناقشة مشروع الميثاق، وقد ووجهت هذه الدعوة يومها بهجوم لاذع من المثقفين، وكان أبرز هؤلاء صلاح جاهين الذي سخر من الشيخ من خلال رسم كاريكاتوري أثار حفيظة أتباع الغزالي.

كما هو معروف، بدأ جاهين مشواره الصحافي في صحيفة “بنت النيل”، وانتقل منها إلى “التحرير”، ثم لمع في “روز اليوسف” و”صباح الخير”، وعُرف بشخصياته الكاريكاتورية التي تكررت صورها في رسومه، ومنها الشيخ متلوف الذي أثار نقمة المشايخ. استوحى جاهين هذه الشخصية من عمل أدبي ابتدعه محمد عثمان يوسف جلال، أشهر مؤسسي القصة الحديثة والرواية المسرحية المصرية في عصر “النهضة”، وجعل منه بطلاً من أبطال عمله الكاريكاتوري الساخر. ظهر هذا الشيخ بالعمامة والقفطان في الستينات، يوم أُقيل الشيخ حسنين محمد مخلوف من منصبه في مركز الإفتاء، كما برز يوم طالب الشيخ محمد الغزالي باعتماد القوانين من الشريعة، فقامت الصحف والمجلات المصرية في وجهه، وكان أبرز الساخرين منه صلاح جاهين الذي أشعل غضب طلاب الأزهر الذين تجمهروا يومها أمام جريدة “الأهرام”، مطالبين بإهدار دمه.

بدأت هذه المعركة عندما طلب المستشار القاضي حسن الهضيبي من عبد الناصر أن يصدر قراراً جمهورياً بتعميم ارتداء الحجاب في مصر، فتعجب الرئيس من ذلك وقال له إن قرارا بذلك سيجعله مدعاة للسخرية وإن مسؤولية الدولة تقوم على المحافظة على الأخلاق ورعاية الدين وليس فرضه قهراً على الناس. يروي صلاح في حوار صحافي: “كنت جالساً أمام التلفزيون أشاهد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في مايو 1962 يحضره رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر، وفجأة قال الشيخ محمد الغزالي، وكان عضوا في المؤتمر: “لا نريد أفكارا مستوردة، ونريد أن يكون هناك زيّ إسلامي موحد للنساء، ولدينا في القرآن الكريم كل شيء”. ردّ عليه عبد الناصر قائلاً “إن الشيخ الهضيبي يريد أن أصدر قرارا بمنع البنات من ارتداء ملابس معينة وأن يرتدين الحجاب، وأنا أعلم أن له بناتا يدرسن في الخارج بمفردهن وهنّ غير محجبات، وأنا لا أستطيع أن أصدر قرارا يفرض زيا معينا على الناس لكن كل إنسان يحكم بيته بالطريقة التي يراها، وإلا قال عني الناس الحاكم بأمر الله”.

وضع جاهين رسماً كاريكاتورياً “يصور الشيخ الغزالي وعمامته تسقط بحكم الجاذبية الأرضية”. ظهر الكاريكاتور في الجريدة، وفي اليوم التالي خرج الشيخ الغزالي وشتم جاهين على المنبر لمدة نصف ساعة. “ورد محمد حسنين هيكل، وكان رئيس تحرير “الأهرام”، في الافتتاحية بالصفحة الأولى بدون توقيع. هنا تدخل عبد الناصر وطلب عدم تدخل الصحف الأخرى في الموضوع حتى لا تبدو المسألة غوغائية. كتب هيكل أن الخلاف نظري بين الغزالي ورسام كاريكاتور وليس له علاقة بالدين، وقد هاجمنا رجل دين لكن لم نهاجم الدين ذاته”. على رغم ذلك، استمرت الحملة حتى وصلت إلى القضاء، فتدخل أحمد بهاء الدين وجمع جاهين بالغزالي في مكتب هيكل، وتمّ الصلح.

 

يوم حاول “الأخوان” اغتيال عبد الناصر

حدثت هذه المعركة في الستينات، وهي واحدة من المعارك العديدة التي خاضتها الصحافة المصرية منذ الأربعينات ضد الفكر “الأخواني” وتطلعاته. استعرت هذه الحملة بشكل خاص بعد “حادثة المنشية” في نهاية شهر تشرين الأول 1954، حيث أطلق مسلحون النار على الرئيس جمال عبد الناصر أثناء إلقاء خطاب في ميدان المنشية في الإسكندرية. اتهمت السلطة “الأخوان المسلمين” بارتكاب هذه الحادثة، وتمت محاكمة عدد من أعضاء الجماعة وإعدامهم، واعترف المتهم الثالث في القضية خليفة عطوة بأن “الأخوان” حاولوا فعلاً اغتيال الرئيس، وأن القضية لم تكن ملفقة كما ادّعى البعض. اثر هذه الحادثة، نشرت مجلة “أهل الفن” على صفحتين مقالاً لاذعاً حمل عنوان “لو حكم الرجعيون مصر”.

كتب صاحب هذه المقال غير الموقّع: “وأي رجعيين هم؟ لقد جمعوا إلى الرجعية تعصباً خانقاً وتزمتاً وانحلالاً وضيق أفق وسوء تقدير. تُرى لو حكم هؤلاء مصر فماذا كانوا يفعلون بالفن والفنانين؟ لا شك أنهم سيحطمون كل التماثيل القائمة، وسيقبضون على جميع المثّالين الأحياء ليحاكموهم بتهمة ادعاء الألوهية. ألم يحاولوا تقليد صفته سبحانه وتعالى فصنعوا بأيديهم الآثمة مخلوقات لا ينقصها إلا الكلام والروح؟ فليُقتلوا إذن لأنهم عادوا بالناس إلى عهد عبادة الأصنام. أما التصوير فسيمنعونه حتماً، لأنه رجس من عمل الشيطان، وهو يعرض الناس للفتنة. إذا قيل لهم إن زعماءكم وقادتكم كانوا يقفون أمام كاميرات المصورين، وإذا أبرزت لهم صور هؤلاء الزعماء في أوضاع مختلفة، استثنوا من القاعدة صور الزعماء والقادة، ووجدوا فتوى لتحريم ما حرّموا وتحليل ما حلّلوا”.

بعد النحّاتين والمصورين، انتقل كاتب المقال إلى حال أهل السينما والمسرح، وقال: “أما السينما والمسرح فسيهدمون دورها جميعها، لأنها كانت أمكنة فسق ودعارة واستهتار وسيبقون على دار واحدة يطلقون عليها اسم السينما الشرعية، وفيها تُعرَض أفلام يؤلّفونها هم ويخرجونها ويمثّلونها، وهي روايات لا يتاح فيها ظهور السيدات والآنسات إلا محجبات بحيث لا تظهر منهن إلا وجوههن أو عيونهن فقط. وأما موضوعات قصص الأفلام فستكون كلها موضوعات تحثّ على الجهاد وقتل أعداء الدعوة وتخريب كل عامر. وأما أسماء تلك الأفلام فستكون هكذا: القتل حلال، إلقاء القنابل على الحوامل، حسن الصباح، الحرب الأهلية… أما ممثلو السينما وممثلاتها الحاليات فسيوضعون في السجون والمعتقلات جزاء ما صنعت أيديهم في أفلامهم السابقة ومخافة الفتنة”.

بعد السينما والمسرح، نصل إلى الغناء والرقص. تقول المجلة في هذا الصدد: “أما الغناء فسيقتصر على القصائد الدينية وقصائد المديح في الزعماء والقادة، وسيلقيها قوم معجبون كمنشدي الموالد المعروفين، وإذا كان لا بد من غناء السيدات، فليظهرن على المسرح محجّبات ويُستحسن أن ترتدي المغنية ملاءة لفّ سوداء لا تُظهر من جسدها شيئاً، وأن تخفي وجهها وراء برقع كثيف. ويجب أن تختار عبارات أغنياتها مع ما يتفق مع رسالة الرجعية وأهدافها، وألا تردد أي عبارة من عبارات الغزل أو العشق أو الغرام، لأن هذا حرام قطعاً”. يبقى الرقص، و”الحكومة الرجعية” لا تعترف به بالطبع، “وتعتبره عملاً منافياً للآداب خارجاً عن الدين وتعاليمه، لأنه لا يخرج عن كونه مجرد عرض لمفاتن الجسد، ولذلك فإنها ستجمع كل الراقصات من الصالات والكباريهات وتحاكمهن، وتحكم على بعضهن بالإعدام والبعض الآخر بالسجن المؤبد، اما الحسناوات منهن فسيتخذن بصفة جوار في قصور الزعماء والقادة. وإذا كان لا بد من رقص، ليكن رقصاً أصولياً. يجب أن تبدو الراقصة محجبة مؤدبة”.

في الختام، أشار كاتب المقال إلى “حادثة المنشية”، وقال معلّقا: “فليحمد أهل الفن الله أثناء الليل والنهار على فشل مؤامرة الرجعيين، فلو أنها نجحت لكانوا جميعاً في خبر كان، ولكان السعيد منهم في بطون السجون والمعتقلات، والسعيدة جارية من جواري واحد من السادة والزعماء الرجعيين”.

زُيّن هذا المقال اللافت بثلاث صور تمثل وضع الفنانين في ظل حكم الرجعيين بشكل كاريكاتوري، واشترك في تمثيل هذه المناظر سعاد أحمد، عواطف رمضان، محمد شوقي، وأحمد محمد صبره. تمثل الصورة الأولى سينما “ديانا” في وسط البلد، وهي السينما التي سيصبح اسمها سينما “ديانة”، و”على واجهتها لوحة لأحد الأفلام الشرعية التي تُعرض فيها. وتمثل الصورة الثانية راقصة “شرعية”، كما تمثل الثالثة منشدة ترتدي ملاءة لف سوداء وتخفي وجهها وراء برقع كثيف.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى