صفحات العالم

دمشق وأنقرة: علاقة تنقلب!


 جوشوا دبليو. ووكر

الموقف التركي الجريء الداعم للانتفاضة الشعبية ومطالبها بإحداث التغيير في سوريا- بعد أن كانت أنقرة وإلى وقت قريب صديقاً مقرباً لدمشق وداعماً نظام الحكم فيها- يمثل تحولاً فاجأ الكثيرين في المنطقة وخارجها. فمن خلال استضافتها لمتمردين ومنشقين عسكريين سوريين وكثير من شخصيات من المعارضة السياسية السورية، وفرض عقوبات قاسية أحادية الجانب ضد دمشق، يؤشر تغير الموقف التركي من سوريا إلى تحول مهم ربما نحو دعم أقوى وأكبر للصحوة العربية الديمقراطية أو ما أصبح يطلق عليه “الربيع العربي”.

وهذا يمكن أن يدعم ويقوي الاتفاق المبرم قبل بضعة أيام بين الجامعة العربية والحكومة السورية؛ حيث تعهدت سوريا بإنهاء القمع الدموي بحق المحتجين في العديد من مدن البلاد، وبالإفراج عن النشطاء السياسيين، وبأنها ستبدأ مفاوضات مباشرة مع المعارضة، وإن كان المسؤولون الأتراك يقولون إنهم سمعوا مثل هذه الوعود سابقاً من قبل دمشق. كما أن المقاطعة الصارمة لسوريا من جانب تركيا الصارمة، من شأنها أيضاً أن تُطمئن شركاء أنقرة في “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، والذين كانوا قد بدؤوا يتساءلون حول إمكانية وجود التزام تركي راسخ بالديمقراطية المسلمة في المنطقة، إلى جانب علاقاتها وقيمها الغربية.

لقد أخذ الربيع العربي يُرغم أنقرة على مواجهة حقائق جديدة في الشرق الأوسط. فخلال العقد الأخير، سعت تركيا إلى فتح أسواق جديدة وتوسيع نفوذها الإقليمي عبر سياسة “لا مشاكل مع الجيران”، فلم تضع شروطاً مسبقة على شركاء اقتصاديين مثل إيران وسوريا، وتسببت لها هذه المقاربة أحياناً في خلافات مع حلفائها في “الناتو”.

صحيح أن تركيا حظيت بإعجاب وتقدير في الغرب، وفي العالم العربي، وذلك لاحتضانها المبكر للثورتين الديمقراطيتين في تونس ومصر، لكنها أساءت الحكم والتقدير في ليبيا -حيث كانت لديها علاقات تجارية قوية – عبر رفضها في البداية العقوبات، بل وحتى معارضة تدخل “الناتو”، قبل أن تغيِّر موقفها لاحقاً. كما أن موقف تركيا العدائي حالياً إزاء صديقتها السابقة إسرائيل، شكل تبايناً كبيراً مع صمتها تجاه إيران وسوريا أثناء تجاهلهما لمطالبة مواطنيهما بالديمقراطية. غير أن التغير الكبير في الموقف التركي من دمشق يمثل قطيعة حاسمة مع سياستها القائمة على مبدأ “لا مشاكل مع الجيران”.

وفي عام 2002، كانت تركيا قد استثمرت في سوريا دبلوماسياً واقتصادياً أكثر مما استثمرته في أي بلد من البلدان المجاورة لها، وهو ما غيَّر علاقتهما من علاقة مواجهة عسكرية تعود إلى الأوضاع الجيوسياسية التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة ودعم سوريا للانفصاليين الأكراد في تركيا، إلى علاقة تعاون اقتصادي وتقارب سياسي. وهكذا، أصبحت علاقات تركيا بسوريا نموذجاً للتقارب، طبقته أنقرة حينها مع جيران آخرين لديها معهم مشاكل، مثل اليونان والعراق.

ومن المعروف عن رئيس الوزراء التركي أردوجان تثمينه للإخلاص. ووفاءً منه بقيمه، وقف أردوجان إلى جانب الرئيس الأسد لفترة أطول من أي صديق غربي آخر، لدرجة أنه كان يجازف بعلاقاته ومصالحه مع دول حلف الأطلسي. وعقب نسق مماثل في ليبيا، حاول أردوجان لعب دور الوسيط والصديق الأمين الناصح، إلى أن أصبح من الواضح على نحو مؤلم أن دمشق لم تعد تستمع إلى حليفها السابق أردوجان.

ونتيجة لذلك، تقدمت تركيا على نحو حاسم متجاوزةً مرحلة الانتقاد على انفراد، وذلك من خلال تزعم الجهود الساعية إلى فرض إجراءات عقابية دولية ضد دمشق. وكما نعلم فإن أنقرة تستضيف زعماء من المعارضة السورية إلى جانب متمردين اتخذوا لأنفسهم مقراً داخل الحدود التركية، ويقال إنها ربما تعمل سراً على تسليح بعض القوات المنشقة. كما أنها تعد لعقوبات أحادية الجانب تتجاوز بكثير ما حاولت أي قوة غربية فعله أو الدعوة لتطبيقه حتى الآن.

غير أن الانهيار في العلاقات السورية التركية بدأ يفرز تأثيرات سلبية على علاقات تركيا مع إيران المجاورة، منافسها الرئيسي وشريكها الاقتصادي الهمم أيضاً على النفوذ الإقليمي في المنطقة. يضاف إلى ذلك قرار تركيا استضافة أجهزة رادار موجهة إلى إيران، مما يظهر مرة أخرى كيف أصبحت مصالح تركيا تتقاطع أكثر من أي وقت سابق مع مصالح الغرب.

لكن السؤال الأساسي الآن هو ما إن كان انقلاب أنقرة على دمشق استثناء مرتبط بالمصالح الوطنية التركية، أو بداية توجه جديد للسياسة الخارجية التركية يسعى إلى دمقرطة المنطقة ودعم مزيد من الصحوات العربية.

والواقع أن العلاقات التركية السورية تأرجحت كثيراً على مدى السنين. وبالنظر إلى الحدود المشتركة الطويلة التي تجمع البلدين، فإن المصلحة الذاتية الأمنية قد تكون الدافع الرئيسي لهذا التحول نحو سياسة الانفراج. كما يشتبه الأتراك في أن الهجوم محكم التخطيط الذي شنه إرهابيو “حزب العمال” الكردستاني الشهر الماضي في تركيا، كان مدعوماً من قبل سوريا، فيما يمثل عودة إلى أساليب التسعينيات، عندما كانت دمشق تستضيف زعيم “حزب العمال” الكردستاني كوسيلة ضغط ضد تركيا.

ومن جهة أخرى، باتت مصداقية تركيا، الدولة المسلمة، باعتبارها نموذجاً ديمقراطياً بالنسبة للمنطقة، تحت المحك مع كل محتج أو لاجئ سوري مقموع يفر إلى تركيا. ومن هنا يعترف أردوجان بوجود فرصة تاريخية أمام بلاده، حيث يقول: “إن تركيا تلعب دوراً يمكن أن يقلب الأحجار في المنطقة ويغيِّر مسار التاريخ”.

ولئن ظلت السياسية الخارجية التركية محافظة ومركزة على الداخل في معظم الأحيان، فإن تركيا “الجديدة” (الأردوجانية)، والتي تفخر بامتلاكها أكبر وأسرع الاقتصادات نمواً في المنطقة، تمتلك عدداً أكبر بكثير من الأدوات للدفع بأجندة التحول الديمقراطي في المنطقة. ونتيجة لعمليتها الإصلاحية الخاصة بها، فإنها توجد في موقع فريد يسمح لها بلعب دور حاسم في مساعدة الديمقراطيات الصاعدة وتشجيعها بواسطة مجتمعها المدني النشط وقطاعها الخاص.

لكن ربما لا زالت لدى تركيا مشاكل حقيقية مع حلفائها في الغرب، ومن ذلك على سبيل المثال مسألة عضويتها المتعثرة في الاتحاد الأوروبي، لكنها، وبالنظر إلى قطيعتها مع سوريا، بدأت تشتغل الآن انطلاقاً من ذات النص الذي لدى الولايات المتحدة وأوروبا.

ومن وجهة نظر حلفاء تركيا الغربيين، فإن هناك الآن أسباباً وجيهة أكثر من أي وقت مضى لإعادة التركيز على قيمة أنقرة كجسر استراتيجي واقتصادي ودبلوماسي بين أوروبا والعالم الإسلامي، يشير إلى طريق الانتقال من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى