صفحات الناس

أبو محمد السوري: كاسة المتة وبندقية الثائر الضائعة/ عبد الرحمن عرابي

 

 

 

لم ينجح أبو محمد في الحفاظ على حياة منتظمة خلال السنوات الثلاث الأخيرة في لبنان، بعد أن لجأ من ريف القصير في محافظة حمص غربي سورية. وحدها “سهرة المتة” (مشروب شعبي منتشر في سورية) رافقت أبو محمد أينما حلّ. فكانت كاسة المتة رفيقته في ليالي عرسال الباردة، وفي ليالي بيروت المزدحمة.

ترك أبو محمد خلفه منزلاً خاصاً به ومحلاً للحدادة، وتحول إلى لاجئ يتنقل بين مختلف المناطق اللبنانية بحثاً عن عمل يعيل به زوجته وطفليه آدم ومحمد. امتهن “الحدادة الفرنجية” وعمل بها منذ الصغر، واستمر في مهنته على الرغم من تعرضه لحادث سير أدى إلى إصابته بإعاقة في رجله اليسرى. لعب أبو محمد أدواراً عدة خلال رحلته من بلدة النزارية إلى عرسال، عكار، جبيل، بيروت، ثم إلى عرسال مجدداً.

بندقية الثائر الضائعة

بدأت قصة أبو محمد في العام 2011 عندما وصلت الثورة السورية من درعا المجاورة إلى محافظة حمص. عايش لحظاتها بعيون أفراد الحاجز العسكري الملاصق لمنزله. ساعد أبو محمد عناصر الحاجز في الاتصال بذويهم وحاول إقناعهم بالانشقاق: “رأيت المظاهرات وقلت في قرارة نفسي إنها سياسية، وأنا لا أحب السياسة. ثم سمعت عن أشياء يمكن ممارستها من خلال الديمقراطية لم أكن أعلم بوجودها أصلاً! فأحببت الثورة وعملت لأجلها.

استخدمت الأسلوب اللطيف مع أفراد الحاجز، فشاركتهم جلسات المتة، قدمت الكهرباء لشحن بطاريات الدبابة المتمركزت على الحاجز، وأعطيتهم تلفوني للاتصال بذويهم”. ركز أبو محمد في محاولة استقطاب أفراد الحاجز على سائق الدبابة، “تجنبت الضابط لأنّه الأكثر التصاقاً بالنظام. أمّا السائق، فكان متردّداً وبحاجة لدفعة صغيرة حتى يترك النظام. تعاطفت معه لكن عيني كانت على الدبابة التي ستفيد الثوار في حماية أهالي القرية، فأقنعته بالانشقاق بها نحو المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار، وكانت مكافأتي منه بندقية الضابط التي تركها في الدبابة”.

شكلت تلك البندقية/الغنيمة مدعاة فخر لأبو محمد، تباهى بها أمام ثوار المنطقة إلى أن فقدها ومعها المنزل والمحل: “أكلنا الضرب وفشل الثوار في الحفاظ على المنطقة، فأُجبرنا على اللجوء إلى بلدة عرسال المجاورة رغماً عنا. لم أحمل معي سوى البارودة، وعلب المتة، وأطفالي”. بهذا الترتيب غادر أبو محمد وأسرته المنزل على عجل.

على الحدود مع لبنان خاف أبو محمد أن تتحول البندقية إلى عائق يحول دون دخوله الأراضي اللبنانية، فتحولت من غنيمة حرب إلى عبء: “علمت أنّ المخاطرة بمحاولة إدخال البارودة إلى لبنان كبيرة، فحاولت بيعها للاستفادة من ثمنها لكن الفوضى والسرعة التي غادرنا بها حالت دون ذلك، فوضعتها أمانة مع بعض الثوار. ضاعت البارودة كما ضاعت الثورة، ولا زلت حتى اليوم أروي قصتها للأصدقاء”.

يزيد أبو محمد ملعقة متة صغيرة على الكاسة ثم ملعقتي سكر قبل أن يكمل حديثه في أحد منازل عرسال، “وفّرت بعض المال من المساعدات واشتريت بعض العدة لاستئناف العمل، وتسلمت عدداً من المشاريع الصغيرة في البلدة إلى أن تحول البحث عن عمل إلى مناقصة بين العمال السوريين الكثر، فقررت البحث عن عمل خارج عرسال”.

من جبيل إلى السجن

انتقل أبو محمد مباشرة إلى مدينة جبيل شمالي العاصمة بيروت، حيث عمل مع أصدقائه في عدد من المشاريع، قبل أن يقوده البحث عن العمل إلى عكار أقصى شمال لبنان.

هناك أوقف بسبب انتهاء مدة إقامته “فقضيت حوالي الشهر في السجن، لم أستطع خلاله الاتصال بزوجتي التي أبقيتها في عرسال لأن المعيشة هناك أرخص”.

في السجن، تعرف أبو محمد على عدد من السوريين الذي تشاركوا القصة نفسها “من الإيمان بالثورة السلمية، ثم الاقتناع بضرورة العمل العسكري، ثم تشارك كاسة المتة في خيمة اللجوء أو الشقة المستأجرة في لبنان”. اختلف طعم المتة على أبو محمد في بيروت التي قصدها بعد عكار “فالمياه ليست عذبة كماء القرى، والضجيج قاتل”. أنهى أبو محمد عمله في بيروت، فشل في العثور على عمل جديد، وعاد إلى عرسال حيث تحلو كاسة المتة الممزوجة بهواء سورية القريبة.

عرسال

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى