صفحات الثقافة

دمشق – عماّن وبالعكس

 


بسمة النسور

كتبت مستشرقة سويسرية أقامت في سورية لسنوات: غريب أمر هؤلاء العرب أنهم يتبادلون الأطباق اللذيذة عبر الحدود الدولية، والمذهل في الأمر أنها تصل ساخنة! دونت السيدة ذلك الانطباع تعليقا على وصول طبق مسخن، تم فرم البصل وطهي الدجاج ورش السماق البلدي وفرد خبز الصاج فيه ضمن (عجقة) مطبخ في قلب عمان، ليستقر بعد ساعات ثلاث على مائدة أصدقاء في دمشق.

أوصل الهدية سائق درعاوي طيب ومهذب ونبيل، سأسميه حرصا على سلامته أبو الخير، فقد في الأحداث الدامية الأخيرة أربعة من خيرة شباب عشيرته، وكان هو نفسه وما يزال مشروع شهيد، وقد طلب من زبائنه الذين أوصلهم إلى العبدلي في آخر مشوار مسامحته غير واثق من رؤيتهم ثانية، متشكك كذلك من فرصة السفر ثانية إلى عمان، لأنه كان يتأهب للانضمام لشباب البلد من أجل التظاهر من جديد في الجمعة العظيمة، حين قام الشعب السوري الذي (لا ينذل) حقا، قام في ارتقاء عظيم لا رجعة فيه، نصرة لدرعا التي ابتذل ربيعها الصاخب الضاج بالجمال، واستبيح تراب سهول قمحها قاني الحمرة، وروع أطفالها غير القادرين على الالتحاق بمدارسهم حتى اللحظة،  وأدميت  قلوب أمهاتها المجرحة بفقدان الأحبة، وأزهقت أرواح شبابها مثل زنابق تفتحت في أول أيار (مايو)، وكسرت ظهور شيبها حزنا وغيظا وقهرا في مشهد مؤلم وقبيح ومخجل، يندى له جبين الإنسانية جمعاء، وسط صمت عربي مؤسف ومريب.

شارك أبو الخير شأن كل أهل درعا بكبرياء حزين غير كاتمين الغيظ في تشييع جنازات أولاد البلد، وبالمناسبة هو ليس إرهابيا ولا مندسا ولا حتى سلفيا، يكره إسرائيل ولا تربطه بأميركا أية علاقة تعاون أو تنسيق، ولا يخطط لإقامة إمارة من أي نوع، ولا يدرك في ظل بلاغة الدم المسفوح، أسرار العلاقة العجيبة بين ذريعة الممانعة وحقيقة قهر الشعوب!

هو مجرد شاب بسيط ليس له صفحة على (الفيس بوك)، ولم يبلغ تحصيله الأكاديمي شأنا عاليا، يكنّ لأمه الكبرى سورية حبا بدهيا أصيلا، خاليا من شوائب التنظير، ويتلهف قلبه عشقا إلى حارات دمشق وسوق حميديتها، ودكاكين ميدانها العتيقة وحمائمها المتطايرة بشغب في سقف مسجدها الأموي، وإلى ذلك السحر الغامض في أزقة باب توما المتوارية تيها ودلالا، ويتوق شوقا إلى ليل دمشق الحنون الأخاذ، الذي لن ينام على ضيم بعد الآن.

يصلي أبو الخير عادة الجمعة في المسجد العمري، ويحلم ببناء غرفة اسمنتية إضافية في حوش الدار المطل على حقل من الزيتون، يحصّل لقمة عياله بالعرق الشريف المبذول على خط عمان دمشق وبالعكس، ويتحدث بفخر شديد عن أطفاله (الشاطرين) في المدارس، وجل ما يسعى إليه هو نيل رضا (الحجة) والدته ذات الوجه الفلاحي الصبيح، والوشم المدقوق على أسفل الذقن.

وهو يشبه كل أهل درعا الطيبين الصابرين النبلاء الشجعان الجميلين، ولا تختلف لهجته عن لهجة أقاربه الرمثاويين، الذين لا يقلون طيبة وسخاء ونبلا ونخوة، وقد فار دمهم غيرة وغضبا وحزنا، فأفسحوا عتبات القلوب قبل البيوت ونذر أحد أبنائها ويدعى سلامة الزعبي أن لا يزوج ابنه قبل أن تسترد حوران حريتها، فأجل موعد العرس وأبقى شقة العريس متاحة فيما لو اضطر إليها أحد من أبناء درعا، وهم أولاد العمومة المنكوبون بالحب إلى وطن يريدونه حرا متسعا لغد أبنائهم المطلة شمسه حتما، وها هم الدرعاويون الأبطال الصامدون يهيئون البشائر التي ستهل من حوران بيضاء ناصعة ساطعة لا ريب فيها.

http://www.alghad.com/index.php/afkar_wamawaqef/article/25449.html?sd=0

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى