صفحات سورية

دمقرطة “حزب الله” وحراثة بحر الطائفية

مأمون كيوان()

كانت الإدارات الأميركية تنظر إلى المشكلة الإسلامية نظرة أكاديمية وليس كإحدى النقاط المؤثرة على الأمن القومي الأميركي . إلا أن هذه نظرة تغيرت نحو الاعتقاد بأن وصول الإسلاميين إلى السلطة سيجعلهم يتصادمون مع متطلبات السياسة الأميركية، ومنها الوصول إلى الإمدادات والمصادر النفطية، وكذلك التعاون العسكري مع بعض دول المنطقة، وأمن إسرائيل بالإضافة إلى مصالح أخرى.

وفي الوقت نفسه، رفضت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مقولة الأنظمة الشمولية العربية بأنها هي السد المنيع ضد التيار الإسلامي، بقوله: “ستون سنة من قبول الولايات المتحدة بغياب الحرية في الشرق الأوسط لم ينتج عنه ضمان أمننا وسلامتنا”.

وكان هناك ثلاثة خيارات محّصتها دراسات مؤسسة السياسات الخارجية للولايات المتحدة. هي: خيار محاربة الإسلاميين وتحفيز الليبراليين، وخيار التعاطي مع الحركات الإسلامية الوسطية النابذة للعنف وخيار ثالث سُمّي الخيار الواقعي، الذي لا يعتبر الحركات الاسلامية نسيجاً واحداً لذا يجب التعامل مع كل جماعة وفق واقعها الخاص، ومسارات تطورها، حتى في البلد الواحد.

وجرى في النموذج اللبناني المعروف بخريطته الطائفية وبعمق التداخل بين قضايا السياسة والدين والطائفة، التمييز بين المارونية السياسية وتلاوين تيارات الإسلام السياسي بجناحيه: السني والشيعي.

وعلى سبيل المثال، وضع حزب الله تحت المجهر الأميركي، وظُهرت صورته على أنه حزب ظهر رسميا في شباط (فبراير) 1985، عبر عالم الدين السيّد إبراهيم الأمين، الذي تلا حينها بيان التأسيس مسميّا إياه “رسالة الحزب إلى العرب والمسلمين”· وخاض معاركه الدامية مع حركة “أمل” لأعوام تجاوزت الخمس، ولم تنته عملياً إلا عام 1990، عندما خلع حزب الله رمزاً من رموز التطرف فيه، وهو أول أمنائه العامين الشيخ صبحي الطفيلي.

وتواكب التغيير لقيادات الحزب مع تغيير عميق في النهج والأداء والخطاب السياسي، والتعاطي مع الآخرين، قوامه الانفتاح على المحيط، والتخلي عن مشروع “الجمهورية الإسلامية”، ووضعه على الرف، والانصراف كليا إلى “المقاومة”· وهذا ما كرسه الأمين العام الحالي للحزب حسن نصر الله، الذي أظهر خلال تسلمه قيادة الحزب مهارة، جعلت الحزب يعدل نظامه الداخلي ليؤمن التجديد له في منصبه لأكثر من دورتين متتاليتين، وليحقق حزب الله نجاحات عسكرية تمثلت في الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان صيف العام 2000، وهزيمة إسرائيل عسكرياً، ولو بالنقاط، في حرب صيف 2006.

ورأى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، أنّ الوقوف إلى جانب الشعب اللبناني في “نضاله من أجل بناء ديموقراطيته، يكون بمواجهة إرهابيي حزب الله، عدو لبنان الحر”· وأنه على الرغم من اعتبار “حزب الله”، منظمة إرهابية، فإنه يأمل بأن يغيّر الحزب اتجاهه هذا “من خلال تخليه عن سلاحه وعدم تهديده للسلام”.

ولا تزال الولايات المتحدة الأميركية تتهم “حزب الله” بتفجير مقرّي القوات الأميركية والفرنسية في بيروت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1983· كما تتهمه بالمسؤولية عن مسلسل خطف الرهائن الغربيين إبان الحرب اللبنانية· وسبق أن فرضت الولايات المتحدة، عقوبات على 14 كياناً بين أشخاص وشركات ووكالات حكومية أجنبية، بينها القوات البحرية والجوية السورية و”حزب الله”، لتعزيز جهود وقف نقل الاسلحة المتطورة من ايران وسوريا وإليهما· كما وجهت لحزب الله اتهامات تدريب مقاتلين عراقيين.

كما أقرّ الكونغرس الأميركي قانونًا لمراقبة نشاطات حزب الله في أميركا الشمالية، والإعداد لاستراتيجية لمواجهة أي تهديد قد يشكله وجود حزب الله في نصف الكرة الغربي، سمّي بقانون مواجهة إيران في نصف الكرة الغربي للدلالة على ارتباط الحزب بالنفوذ الإيراني.

ويعتقد دانيال بايبس الكاتب الأميركي المعروف بتعصبه وتشدده ضد المسلمين، ومدير منتدى الشرق الأوسط، ومؤسس نظرية “الرعب الإسلامي”· أنه حين يتسلم توتاليتاريون ضليعون في السياسة زمام السلطة بآليات ديموقراطية، فإنهم قد يقومون فعلاً بإصلاح الحفر في الطرقات وتحسين المدارس، ولكن هذه ليست سوى وسائل لإحداث تغيير في بلادهم ينسجم مع رؤيتهم الطوباوية، وهذا التعميم ينطبق بوضوح على عدة حالات في التاريخ (أدولف هتلر في ألمانيا بعد عام 1933، سلفادور أليندي في التشيلي بعد عام 1970) تماماً كما ينطبق على حالات ما زالت قائمة حالياً (خالدة ضياء في بنغلادش منذ عام 2001، ورجب طيب أردوغان في تركيا منذ عام 2002).

ونصح بايبس واشنطن باتخاذ موقف مبدئي لا يقصي الإرهابيين فقط من العملية الديموقراطية بل يقصي أيضاً التوتاليتاريين الذين يستخدمون الأدوات الديموقراطية للوصول إلى الحكم والبقاء فيه· ولا يكفي أن تنبذ الحركات الإسلامية العنف فقط، فعدم قابليتها للانعتاق من نزعاتها الأوتوقراطية يحتم إقصاءها من الانتخابات، حتى لو وعد كل من “حزب الله” و”حماس” بإجراء تغييرات تكتيكية.

ويمثل “حزب الله” لدى بايبس نموذجاً عنفياً مزدوجاً: خارج النظام اللبناني وداخله عبر الحكومة· ويمتلك شعبية كبيرة داخل الوسط الشيعي اللبناني، ولكنه حتماً سيختفي مع الوقت، وليس بالقريب العاجل. لأنه يعتمد على تعبئة مشاعر الجماهير وتهييج الحماسة، ثم سيصل إلى أن يخذل هؤلاء في نهاية الأمر وستكون النهاية.

وإجمالا، لا ينصح معدو الدراسات والتقارير في مراكز الأبحاث الأميركية، أي إدارة أميركية مقبلة بالغرق في متاهات وزواريب العلاقات بين الطوائف اللبنانية، الكبيرة والصغيرة منها· ويعود ذلك إلى أن لبنان يمثل حالة خاصة، فهو لن ينهار، وأيضاً لن يلتحم سلمياً وسيبقى دولة ضعيفة، وستبقى الكيانات الطائفية أقوى من الدولة· وسيبقى لبنان ساحة حروب الآخرين بمحض إرادة طبقته السياسية السائدة· وأن ديموقراطية اللاغالب واللامغلوب التوافقية ستبقي الدولة اللبنانية كياناً هشاً، فضلا عن أن محاولة دمقرطة “حزب الله”، أو غيره من الأحزاب اللبنانية، التي يتزعمها زعماء طوائف يضيقون ذرعا بمنافسيهم من داخل الطائفة نفسها، هي محاولة فاشلة.

 () كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى