صفحات الثقافة

سفر الرؤيا


    عقل العويط

هذا هو سفر الرؤيا، فاقرأوه. للذين يريدون كتاباً ليقرأوا فيه، فإنهم لن يحظوا بكتاب. لهؤلاء أقول أن يذهبوا الى المشهد السوري الأخير ليعايِنوا المشهد الأخير. وليشهدوا. أما الذين يريدون آية، فالجروح الماحقة هي الآية.

الجروح الجروح. مَن لا يعرف وجع الجروح في الجسد السوري، فليسأل عيون الأيقونات، نظراتها، جهات القلب، وهجسها الأبدي. أسمّي الأيقونات ولا أقصد تلك الجريحة الأيقونات التي في الأديرة وبيوت العبادة. فالجروح الجروح لن تكون في الخمسة المواضع، أو في السبعة الكواكب المطلّة عليها، بل في المواضع كلّها. من شروق الجبال والبوادي في الجسد السوري الى سهول المتوسط، ومن أعالي قورش الى ضفاف الفرات، ومن انطاكيا وجوارها في اللواء السليب الى الجولان المحتل فمشارف طرابلس وجبل لبنان. ستفوتكم وقائع جمّة في سفر الرؤيا، وهي ستُدرَج في وجع الباطن. وهذه واقعةٌ أخرى تعايَن بالأدب وسواه.

الجروح الجروح. الشعب السوري جميعه هو الجروح. والشعب هو الجغرافيا جميعها. أما القتلة فلا. لن يكون الآتي أعظم، لأن الأعظم قد بلغ الآن منتهاه، أو سيبلغه بعد قليل. الواقع هو الخيال وقد آل الى ما انتهى اليه. أو، لا مفرّ، سيؤول. للآتي أن يستعير عبقرية ماضيه ليُتِمّ جرائم دمائه الباقيات. لن يبقى زرعٌ تزرعونه أيها القتلة. لن يبقى لكم قبورٌ تُواريكم. لن يبقى لكم حصاد. السقوف التي تؤويكم في البنيان السوري سيهرم خشبها لتنحني ذليلةً، كيومٍ مهيضٍ لن يكون له مثيلٌ في الأرض. وستلعنكم شموس الأيام أيها القتلة. وستُنزِل عليكم حمم النار والكبريت. وسيرذلكم قمرٌ شهيد. والحلم سيجافيكم. ودروب الأخضر والصيف. وسيقضّكم كابوسٌ تلو كابوس، الى أن تنفتح الكوابيس على آياتها. وستقضّكم المرايا. شعوبكم والأمم ستعرّيكم. وستنهشكم وحوش البراري في عراء الدم. ولن يكون لكم مكانٌ في بلاد الشام أيها القتلة. وسيكون شأنكم شأن قايين، وستقلعون أعينكم بأيديكم لكي لا تروا ما ستؤول اليه أحوال وجوهكم الجهيمة. وستُخرِجون قلوبكم من الصدور لكي لا يعود يرتجف فيها نبض. وستتيهون في الأراضي المحروقة، ولن تسعفكم بوصلةٌ ولا اتجاه. وستقطعون أقدامكم بمناجل الحصاد لكي لا يأخذكم تيهٌ الى مزيد من التيه. وسيأكلكم دود الواقع، ودود الخيال، كما سترون. وستكونون شهوداً على دودٍ يأكلكم، ويأكل أعوانكم ومسعفيكم. مطرٌ عظيم سينهمر ليغسل أدرانكم. ولن يُكتفى بطوفان.

أقول لكم إن القاتل سيُقتَل. وإن القتيل سينهض من قبره. ومهما اجتهدتم في إرجاء المواعيد فستدهمكم المواعيد قبل أن يصل شجركم الى سماء. حسناً أن هناك “عهداً عتيقاً” لكي تقرأوا أسفار الجنون والدم، وتروا النهايات وما وراء النهايات. ستحطّ هامات القتلى وطيورها على مقربة من رؤوسكم لتقرأ عليكم عطشها الأبدي، وتقضّ أشباح لياليكم. كلّ جنون تجنّونه ستدفعون أثمانه غالياً. أقول لكم أيها القتلة إن الجنون الدموي الأسود سيوغل في جنونه الى الحدّ الذي ما بعده من حدّ. وهو ماثلٌ أمامكم وفي الوراء. وفي الشرق. وفي الغرب. وفي الشمال. وفي الجنوب. فأين تختبئون، وإلى أين تهربون؟! ليس سوى مثل هذا الجنون ما يضع حدّاً للجنون. ففي النهاية، لا بدّ من نهاية. والليل الطويل مهما نأى عن فجره، فسيكون له فجر. من يقف منكم على جبل من دم، سيكون مضرّجاً بالدم. من يبحث عن الدم في الأودية، ستجرفه الأودية. إسألوا الرؤيا، تخبركم عن سفر خواتيمها. لا أحد، لا أحد على الإطلاق، استطاع أن يفلت من المصائر. لذا أقول لن ينجو أحد. لن تنجوا من سفر الدم. فالدم يشرب الدم. ولا بدّ أن يرتوي من مُريقيه.

الجروح الجروح. أقول للمراقة دماؤهم إن النهايات قد صارت الى أوائلها الأخيرة. فاصبروا قليلاً كثيراً. الهتاف الذي يصعد الى الأعالي عابراً الفيافي والخيال والبساتين، سيجد حجراً يسند إليه رأسه. فما استطاعت شجرةٌ متكبرة أن تكابر في غابة. ما استطاع دمٌ أن يسكّر بوّابة الأفق. فإلى أين تسيل أيها الدم، إلى أين؟ ثم، بعد عمر، أياً يكن هذا العمر، ستخرّ على ركبتيكَ، مثلما خرّت ينابيع ملهميكَ وسابِقيكَ، وكان ركوعهم عظيماً.

الجروح الجروح. ستكون أيام صعبة، أيها الشعب، يلعق فيها الدم دمه ليشفى، ولا يعثر على يابسة لينشب فيها قدميه. فاصبر قليلاً. أما أنت أيها القاتل، أيها القتلة، فلن يكون ثمة يابسة. لن يكون ثمة برّ. وليس من سفينٍ يحطّ على آرارات في آخر الرؤيا أو في أواخر الطوفان. لا نافذة سيخرج منها غرابٌ ولا حمامة. ولن يكون لكَ غصن زيتون أخضر لتخرج ورهطكَ الى الأرض الموعودة. الماضي سيثأر للماضي. والمستقبل سيثأر للمستقبل، الذي، ولا بدّ، قريب.

هذه هي الرؤيا، وقد رأيتها في يقظة اللغة وفي منامها. فإذا ثمة توما لم يؤمن لأنه لم يضع يده في موضع المسامير، فهات إصبعكَ يا كلّ شبيهٍ بتوما الى ههنا، وعايِن الجسد السوري، وهات يدكَ وضعْها في الجنب، ولا تكن غير مؤمنٍ بل مؤمناً. فلأنك يا توما رأيتَ آمنتَ، فطوبى للذين لم يروا وآمنوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى