صفحات الرأي

نظرية المؤامرة التي تحدد رؤيتنا للآخر


عزمي عاشور

تكمن فضيلة تحليل الخطاب في أنها تركز على نمطية التفكير والعقلية لأي مجتمع، وبالنظر إلى تحليل الخطاب الثقافي والسياسي المرتبط بالمجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع المصري الذي يعيش فيه الكاتب، تبرز ظاهرة وثنائية نحن والآخر بهيمنتها على عقلية هذا الخطاب بدرجة كبيرة. فالآخر هو المضاد في كل ما هو سلبي هو العدو لنا وللدين وهو الكافر، وهو الذي يريد أن يسرق ثرواتنا. ونحن هنا كل ما هو إيجابي؛ نحن المسلمون الذين نمتلك ثروات ضخمة يمكن أن نواجه بها أعداءنا في الخارج، وما إلى ذلك من مسميات كثيرة، إلا أنها لا تخرج عن جوهر هذه الثنائية في التفكير. والسؤال لماذا عقلية تفكير مجتمعاتنا تجعل مشكلة تقدمنا وتخلفنا مقرونة بهذا الآخر؟ ربما يكون هناك تفسير في الرواسب التاريخية التي زرعتها حقب الاستعمار، إلا أن المسؤول عن ترسيخه في العقلية الثقافية لا يبتعد كثيراً من ثنائي ساهم في شكل كبير في صنع التخلف العقلي والثقافي والحضاري بدعوى تحرير المجتمعات: الأول متمثل في نخب الحكم على مدار العقود الماضية التي استطاعت أن تخلق من هذا الآخر عدواً لها جلباً للشرعية، الأمر الذي جعل الدخول في حروب مع «أعداء الوطن» أمراً مقدساً، والنماذج هنا كثيرة بدءاً بعبدالناصر في مصر، مروراً بصدام حسين في العراق وانتهاء بآل الأسد، وصناعة وهم الممانعة ولو كانت على حساب إبادة الشعب السوري بالكامل.

العامل الثاني يتمثل في أصحاب الخطاب الديني بتنويعاته ما بين الجماعات الإسلامية، و «إخوان مسلمين» و «سلفيين» و «تنظيم القاعدة»… إلخ، الذين يبنون خطابهم بالشرعية ذاتها بأن ما دون دينهم هو كفر، بالتالي كل المجتمعات التي لا تدين بالإسلام هي مجتمعات كافرة، بما فيها المجتمعات الغربية. وتم تدعيم هذا الخطاب بتدشين حالات استثنائية بدا فيها اضطهاد المسلمين، مثل حالة البوسنة التي لم ينقذها إلا الغرب وكان شأنها شأن أي صراع عرقيات من الممكن أن يوجد في أي مجتمع في أي لحظة بما فيها المجتمعات الإسلامية. ويمكن القياس على حالات كثيرة أخرى، كان مجرد وجود هذا الاستثناء فيها كفيلاً بأن يكون بضاعة رائجة لعقول تصبح وتمسي وهي تسترزق من نظرية المؤامرة هذه.

ثورات الربيع العربي كشفت الحجاب عن عوامل قوة لم نكن ندرك قيمتها في ظل عقلية المؤامرة مع الآخر: كان أبرزها تخلي الثـــورات عن تلك الشعارات التقليدية واستبدالها بأخرى مرتبطة بقــضايا لصيقة بوجود المواطن وتفاعله المعيشي مثل الحرية والعــــدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهنا كانت كلمة السر في أن تتجمــــع ملاييـــــن الناس حولها وتسقط الديكتاتور الكبير في مصر بطريقة سلمية وفي وقت قياسي (18 يوماً). إلا أن لحظة اليقظة التي ظهرت في الأيام الأولى للثورة لم تدم طويلاً؛ ففي تفاعلات المرحلة الانتقالية سرعان ما قفزت الغالبية الإسلامية إلى الحكم، فزادت عمليات التوظيف لثنائية نحن والآخر في شكل سلبي باسم الدين، وهم يحيكون عن هذا الآخر الحكايات الأسطورية، كأن كل مواطن في هذه البلدان لا ينام قبل أن يحيك المؤامرات بالمجتمعات الإسلامية ليحرمها من النعيم الذي تعيش فيه (والذي يمكن قياسه بسهولة من كونها من أفقر المجتمعات وأتعسها على وجه الأرض)؛ فالبيئة أصبحت مهيأة بهذه السلبيات لأي رد فعل يوظف عقلية المؤامرة لهذا الآخر. وإذا كانت أحداث سبتمبر منذ عقد من الزمان صنعت صورة سلبية عن هذه المجتمعات في العقلية الغربية، فإن ما حدث أخيراً من قتل السفير الأميركي في ليبيا وعمليات اقتحام السفارات في عواصم عربية رداً على فيلم يسيء إلى الرسول الكريم، يصب في الدائرة ذاتها التي بدلاً من أن تصحح الصورة وتعطي شكلاً إيجابياً عن المسلم، تؤكد له النمطية الموجودة في عقله؛ بأن هؤلاء هم المسلمون الذين يقتلون الأبرياء.

فهل استمرار نمط التفكير بهذه الطريقة يكون طريقاً للتقدم أم يصبّ في دائرة التخلف والاستبداد نفسها؟ الطريق إلى نهضة أي مجتمع تبدأ بالمواجهة أولاً مع النفس. وهنا ستزداد صعوبة لأن الآتين الجدد من الإسلاميين يضيفون مقداراً جديداً من القداسة على أنفسهم وعلى ما يعتقدون وما يأتون به من أفكار بما فيه نظرية المؤامرة في شكلها السلبي. فكيف نقتنع بأن العدو الحقيقي كامن فينا، وفي ما نؤمن من أفكار سلبية، وبجهلنا وثقافتنا التي ترفض أن تتعلم وترتقي بنفسها لتحافظ على السُنّة الموجودة في الدين وهي تكريم الإنسان. ومقارنة بمجتمعات هذا الآخر الذي نناصبه العداء، نرى أننا نبتعد من تلك القيمة الكبيرة التي حضّ الدين عليها في تكريم بني آدم. بتنا نبيع كلاماً ونشتريه من دون أن نعي ما هي الكرامة الإنسانية وكيفية العمل لتحققها بالآليات والأساليب التي تتناسب مع العصر الذي نعيش فيه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى