صفحات الحوار

دوريان أستور: فلننتهي من صرعة الشغل على الذات

 

 

روجيه عوطة

خطاب الأزمة هو مؤشر قوي على إعادة إنتاج الطغيان

مع أن غالبية أعماله تتمحور حول فريدريك نيتشه، غير أن الفيلسوف دوريان أستور يعتقد أن صاحب “هكذا تكلم زرادشت” ليس سوى عدوه المفضل. في العام 2008، نشر سيرة لو أندرياس سالومي (Folio) ولاحقاً، سيرة نيتشه (Folio)، و”نيتشه: شديدة الحاضر” (Folio)، مثلما أنه، مؤخراً، أصدر “كُن نفسك” (دار autrement)، وهو عن العبارة-العنوان التي أخذها صاحب “هو ذا الإنسان” من الشاعر اليوناني بنداروس. وبين كتاب وآخر، ترجم أستور العديد من الأعمال من الألمانية إلى الفرنسية، وآخرها، الرسائل المتبادلة بين سيغموند فرويد ويوجين بلولر (دار غاليمار)، مثلما أنه يولي كتابته، وباستمرار، إلى الموسيقى أيضاً.

هنا، المقابلة مع دوريان أستور.

– كيف وقعت على نيتشه؟

واكبت اعمال نيتشه على مراحل وخطوات. في مراهقتي، كنت شغوفاً بالموسيقى، وأحد أساتذني الألمان، الذي كان فذاً للغاية، أعانني في توسيع إهتمامي بالأدب والفلسفة. في عمر مبكر، وتحت وطأة تعلقي بفاغنر، قرأت توماس مان، ثم، شوبنهاور، وبالتالي، كان لا بد لي أن أقع في طريقي على نيتشه. بدايةً، نظرت إليه بعين رومانسية، ألممت بإعجابه بفاغنر وشوبنهاور أكثر مما أدركت إرتيابه منهما. لاحقاً، حين انتقلت إلى صفوفي التحضيرية، قرأت “نيتشه والفلسفة” لجيل دولوز، وأصبتُ عندها بصدمة فلسفية. بدأت أنبني على أساس التأويل الجنيالوجي، ونقد الميتافيزيقيا، وفكر المحايثة والمقدرة التعددي.

– عادةً، نحوّل فلسفة نيتشه إلى مجموعة من الشعارات، أو نحوّله هو إلى مخلص، أو ننفيه قائلين “إنه قديم، إنه كلاسيكي، علينا أن ننسى أعماله”. كيف تجنبت الوقوع في ذلك كله؟ كيف تعاملت وتتعامل معه؟

الأولي هو تناوله كفيلسوف، أو كـ”صديق بعيد” على قول ريلكه، أو كعدو مفضل، مثلما أشعر حياله، لا سيما بعد كل جولة عمل في مؤلفاته كمجموعة نصية معقدة، وجدّ متينة (وفي هذا المعنى، قد يكون تحول نيتشه إلى كلاسيكي شأناً ضرورياً من أجل الإقتراب منه بإكرام). فمن الضروري أن نتقي كل كاتب نحبه، أو نمارسه، بحيث كلما تقدمنا صوبه خطوة، نتراجع عنه خطوة إلى الوراء، كأننا في رقصة فالس.

إنه لمن الصعب أن نمسك بتعقيده المتين، والمفتوح، والمضاد للإنظام (“إرداة النظام هي نقص في الإستقامة النزيهة”)، وذلك، على عكس الأخذ بنظام منطقي ومقفل. فداخل نظام ما، لا نكتشف على سبيل المغامرة، لكننا، ندور على سبيل الإستملاك أو الإستئجار.

ونظراً إلى أن كتابة نيتشه تقوم بالتجريب والإنفراج، جرى الإستيلاء عليها، والإستفادة منها بطُرُق مخالفة لها: عبر اقتباس “الشعارات” منها، وجعلها قوالة كل شيء وعكسه، من خلال الإبتعاد عن قراءتها فلسفياً، وتعقب تدابيرها المفاهيمية. وهكذا، اعتقدنا أن نيتشه هو سيد التناقض، مثلما أنه سيد النسبوية الذاتية بنسختها الراديكالية. إلا أن العكس هو الدقيق!

بالضد من الشعاراتية، علينا أن نتذكر بطء نيتشه، وأناته في إعادة تشكيله النافذ لمفهوم الحقيقة والقيمة، الأمر الذي يبدل تصور الكتابة والقراءة الفلسفيين: التأويل يتطلب التمهل، التحرك في المنظورات، الإنتهاء من التعارض الإزدواجي. أنا ضد تقديمه كمنقذ، علينا التأكيد من جديد أن نيتشه مجرّب، بحيث أن التاريخ والإنسان، بحسبه، ليسا جامدين، وعلينا أن نحاول العمل على طرق جديدة في التفكير والإحساس من دون أن نتوجس في ذلك خطورة فشلنا الدائم. كما أنه من التعجرف الإعتقاد بأننا انتهينا من نيتشه. ثمة قسط أساسي ومفيد في فكره ما عاد مسموعاً اليوم: أفهِمتُهُ للثقافة بطريقة هرمية، وضد-إنسانوية، هي التي حملته على الإرتياب من الكوني، والغيرية، والحرية، والعدالة، والديموقراطية، والتطور إلخ. غالباً ما يجري التعاطي مع هذا القسط بالنفي، وبالتخمين، وبالتفسير الخطابي، من دون إدراجه في سياقه النقدي، الذي يقوم على حدّة البصيرة والنباهة.

يروج “الشعار” جيداً لأن المجتمع المعاصر هو خليط شديد المفارقة بين فرض الفردانية النرجسي والإذعان الكامل للحادثات. كل شيء منظم حتى نثبت “شخصيتنا” أو “هويتنا” (هل تشعر بالخطر؟)، كأنهما الدليل الوحيد على إستقلاليتنا. بالتالي، تلك العبارة، “كُن أو صِر نفسك”، تحثنا على أن نتعاظم بذواتنا، وأن نوصدها: كُن كما أنت، أنت مثلما أنت! على أن فعل “يصير” يحيلنا إلى أننا لسنا أنفسنا بعد: جرح نرجسي يشير لنا إلى استلابنا. إنه المقلب الآخر لـ”الشعار”: أنت قيِّم، أنت فريد، لكنك محاصر، تحرر!”. وعلى هذا النحو، ولأن عبارة نيتشه تحظى بمقلبين، سرعان ما تنتشر، وتلتقطها صرعة “تطوير الذات”، و”الشغل على الذات”، التي لا بد من الإنتهاء منها.

– عندما يسمع أحدهم عبارة “كُن نفسك”، يعتبر أنها دعوة إلى صقل نرجسيته، وحث له على ترداد “أنا هكذا”. هل تشترط “كُن نفسك” حرباً ضد الـ”أنا”، وتشييداً لـ”أنا” أخرى؟

يعلن نيتشه في عبارته حرباً على الـ”أنا”، مثلما ألفتها الديكارتية، أي كمادة وأصل وأساس. يطالب بالتفكر الحر، بغزو الإستقلالية، بغلواء النفس. لكن، وفي الكثير من الأحيان، يكون التمييز بين الفرد والفاعل عسيراً. الفاعل هو الـ”أنا”، الفاعل القواعدي والقانوني، عميل القضاء والفعل. إلا أن الفرد هو مفهوم أوسع ومتشابك، بحيث أن نيتشه لا يعلقه بـ”الفردانية”، وذلك لأنه يحتقر الفرد الحديث، الذي يثبت في ذاته كفاعل. الأنا مأثور، مفعول، على وقع مسارات عضوية، ونفسية، وثقافية، تشكل ما يسميها زرادشت “الحال” (ويمكن أن نسميها اللاوعي، أو الجسد، حيث الوعي هو عضو من أعضائه). هذه “الحال”، النزوية، اللدنة، والبكماء، متصلة مباشرةً بالصيرورة، التي، بدورها، تعمد إلى ترهينها بالتفريد. “نفسك” ترتبط بالفرد، لكن، “كُن أو صِرْ” تستنطق مسارات التفريد. بالنسبة إلى نيتشه، ووايتهد، وسيموندون، ودولوز، التفريد ضروري، وهو يقع في قلب الأنطولوجيا، في قلب مبنى الوجود. فالكائن هو القدرة على التفريد الذاتي، وكل ذلك، لا يمكن إقتضابه بـ”نمو الشخصية” أو تحسينها…

– وفي السياق عينه، ما هي الـ”أنا” النيتشوية؟

إنها موضوع تمرين، “تمرين على الحال” بحسب ميشال فوكو، “تمرين على الروح” بحسب بيار هادو. المتدرب هنا هو أقرب إلى المتنسك، الذي يسعى إلى وحدة أسلوبية، يعني إلى ترتيب كثرته النزوية، التي لا تتوقف عن تصارعها. وهذه الوحدة، التي نحاول تشييدها في فوضانا النزوية، هي وحدة “الفردية المتفوقة”، وحدة “اللطخة الطاغية”، التي تتصل بحرية التفكر، وبالخلق، وبالسنّ. في كل الأحوال، الإيطيقيا، في هذا المطاف، هي أن يجرب الفرد صناعتها لغزو حاله، وليس ليكون “مستقلاً” بالإنطلاق من “الحرية المتعالية”، التي يلتزم بقانونها الآدابي، حتى يتغير إلى فاعله. ولهذا، الشخصيات، التي اعتمد نيتشه على إظهارها، لكي يعرفَ “الأفراد الحصيفين” هم الفنانون أو المشرعون: غوته أو نابليون على سبيل المثال! لكن، ومن أجل تصويب هذا الكلام، ولكي لا يلتقطه عبَدَة البطولة، أعود إلى شذرة من شذرات نيتشه: “الطبيعة القادرة تطغى، هذه ضرورة، غير أنها لا تحرك إصبعاً صغيراً. وذلك، حتى لو أدخلت كل حياتها في رواقٍ يقع في عمق إحدى الحدائق”.

– كلما كَبَت الفرد المعاصر نفسه، تقع هذه النفس فيه كأنها موته. هل تعتقد أن “كُن نفسك” هي “تحمّلك موتك” أيضاً؟

يعتقد نيتشه أن الكف عن النزوات، الذي تقوم به الثقافة، يدفع الفرد ثمنه من تكوّنه. فحيث يجري قمع النزوات، تولد مقاومتها، التي تمارسها ضد الثقافة (حقد، وخضوع للطغيان)، وضد الحال (وعيها بالشقاء، وكرهها). في النتيجة، تستحيل النزوات ضد الحياة. وهذا ما يسميه نيتشه بالعدمية، أكانت بنسختها الروحية، مثلما هو وضع المثالية الآدابية، والدينية، والميتافيزيقية، أو بنسختها الخامدة (لا نرغب في شيء، وهذا ما يوصلنا إلى راحة الضمير)، أو بنسختها الملتهبة (أن نرغب في العدم، الذي يذهب بنا إلى التدمير).

ليس نيتشه مفكر الموت، فهو لا يتناوله كظرف وجودي كبير وقاهر، على ما يفعل شوبنهاور، بل يرى أن نزوة الموت ليست سوى مسخ من مسوخ إرادة الحول، مسخ من مسوخ الإقتدار، التي تضحّي بكل شيء لكي تتحقق. من هنا، هل “كُن نفسك” تعني “تحمّل موتك”؟ بدايةً، نيتشه، وليس أكثر من اسبينوزا، لا يؤمن بالتعريف الرواقي والمسيحي للفلسفة كفن لتعلم الموت، بل يجد أنها فن لتحصيل الحياة. وبالرجوع إلى اسبينوزا، أن تصير ذاتك (ما يعني أن تحقق الحد الأقصى من قدراتك، وترتب علاقات مبناك، وترفعه)، هذا يجعلك على صلة بالأبدية.

أستحضرُ هنا الطرح الرقم 39 في الجزء الخامس من كتاب “الإيطيقيا”:”من له جسد جدير بالكثير من الأشياء، له روح، قسطها من الأبدية وافر”. لدى نيتشه تطلع إلى الأبدية، التي لا علاقة لها طبعاً بخلود الروح، أو انعدام موتها: نصعد إلى شكل من الأبدية حين نفهم فعلياً أن كل شيء يصير، ولا شيء جامداً. الصيرورة هي الأبدية. مِصداق ذلك هو العود الأبدي: هل يمكنك العيش بطريقة تكون فيها قادراً على ابتغاء أن كل لحظة من حياتك تعود على نهى أبدية؟ إذاً، بهذه الطريقة، تستحيل “كُن حالك”: تحمّل حياتك، amor fatti، أحبَّ قدرك.

– “كُن نفسك” هي أن تخرج من التمثلات والتصورات المعاصرة، التي  تبدو متعطلة في معظم صعدها. لكن نظامها، في الوقت عينه، يرتكز على خطاب إكتئابي، لازمته “نحن في أزمة، نحن في أزمة”، وبهذا، يعيد إنتاج نفسه، وإنتاج أزماته طبعاً. ومن خلال هذا الاستدخال الخطابي، يبعدنا من ضرورة الخروج منه. كيف تساعدنا الفلسفة على الشعور بضرورة “أن نصير”، بضرورة مواجهة أزماتنا بلا أن نتكئ على الخطاب الإكتئابو-أزماتي؟

خطاب الأزمة هو مؤشر قوي على إعادة إنتاج الطغيان، وذلك، أقله، على ظاهرين: من جهة، هذا الخطاب يثير طارئاً دائماً، يتحكم بالفاعلين السياسيين والإقتصاديين، ويجعلهم ينتقلون إلى فرض إجراءاتهم المتعسفة (في فرنسا، “حالة الطوارئ” غدت وسيلة حكم مؤصلة)، ومن جهة أخرى، هذا الخطاب يقدم الأوضاع، التي نمر بها، كأنها حتمية، ولا بديل عنها (وبهذا، يذيع التبشير بالواقعية السياسية). الأزمة، والمخاطر الشديدة أيضاً، هي عامل من عوامل الإستلاب القوية. ربما، إذا كان للفلسفة دور هنا، فهو أن تسل، أن تحرك وعي الاستعباد، وبهذا، تحقق بعضاً من طاقتها الثورية. ذلك، ليس لأن باستطاعتها أن تشعل ثورات، بل لأنها تستطيع تحويل الأشياء غير المفكَّر فيها إلى أشياء ُمفكًّر فيها، تماماً كالموسيقى، التي تستطيع أن تصوِّت الأشياء التي لطالما كانت، من دونها، غير مصوَّتة.

لا ندرك على ماذا نحن قادرون مسبقاً، ولا ندرك بماذا نستطيع أن نتشكل لكي نولد من جديد. نحن نتكوّن في إثر لقاءاتنا والتقاطاتنا، وفي إثر اكتشافاتنا وخلوقنا، التي قد تفشل، وقد تنجح. الصيرورة، التفريد، بمثابة مسارات تجريبية مستمرة، من أجل أن نحل مشاكلنا. تعريف صغير لذلك كله، تعريف صوري، ينتهي بعد قوله: لنأخذ صورة الماء التي تجري على أرض مائلة ومنحدرة. هذا ما يخلق سطحاً، ديناميته معقدة، مؤلفة من المقاومات والتسريعات، من الإعوجاجات والإنحرافات. في كل وهلة، يتشكل الماء مع لاتوازن السطح، يقترن بمحززاته، ينقسم حول عائق لكي يجتمع من جديد، أو لكي يصنع مجاريَ جديدة. ثمة غرق، وثمة ركود، وثمة فصم، وثمة قطع، وثمة عبور. يمكننا القول أن الماء يمضي وقته في مواجهة وحلّ المشكلات التي تطرحها الأرض عليه. هذا لا يتم دائماً، فهناك جفاف، وامتصاص، واستنزاف. لكن، أن “تصير نفسك” ليس تحقيقاً لجوهر، بل إنه وحدة التجريب في أروض متعددة، حيث خريطة مجملها تشكل التفرد. علينا أن نعيد التفكير في مفهوم “الأزمة” كمحرك للصيرورة، كلحظة، تكون فيها الأوضاع خارجة عن السيطرة، وتفرض قرارها (Krisis  باليونانية). تزعم الإيديولوجيا المهيمنة أن “الأزمة تنزل”، وعلينا “أن نتولى إدارتها”. كل هذا ضرب من العبث: الأزمة لا ترسخ، بل تستبز، وهذا ما يسمى الإطلاق أو التحرير. ولذلك، شدد نيتشه على ضرورة أن تطوّع لك نفسك، فأن “تصير حالك” ليس سوى هذا، أن تحاول تطويع نفسك لك إلى استطاعتك. فعلياً، ما يجري تقدمه لنا كـ”أزمة” ليس سوى تجميد لأوضاعنا الإخضاعية، التي يجري استدخالنا إليها، وإحتجازنا فيها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى